يوم يقوم الناس لرب العالمين
عبدالعزيز بن محمد
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَمَّا بَعْدُ:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أيها المسلمون: أَعْظَمُ حَقِيْقَةٍ مُغَيَّبَةٍ أَنْبأَ اللهُ بِها عِبادَهُ، وأَعْظَمُ مَوْعِدٍ مُغَيَّبٍ أَخْبَرَ اللهُ عَنْهُ. هُو النَّبأُ العَظِيمُ الذِيْ هَزَّ أَرْكَانَ القُلُوبِ، وهُوَ الوَعْدُ الحَقُّ الذِيْ جاءَ مِنْ عَلاَّمِ الغُيُوب. النَبأُ العَظِيْمُ، الحَقِيْقَةُ الكُبْرَى، المَوْعِدُ المُنْتَظَرُ، المَوقِفُ المَشْهُود. يَومُ البَعْثِ ويَومُ النُشُورِ، يَومَ يُبَعْثَرُ ما في القُبُورِ، ويُحَصَّلُ ما في الصُّدُور.
يَومُ البَعْثِ والنُشُورِ، أَعْظَمُ حَقِيْقَةٍ سَيَشْهَدُهُا كُلُّ مَخْلُوقٍ، وأَعْظَمُ مَوعْدٍ سَيُوافِيْهِ كُلُّ مَنْ دَبَّتْ بِهِ في هذهِ الحَياةِ حَياةٌ. مَوعْدٌ يَجْمَعُ اللهُ فيهِ الأَولِيْنَ والآخِرِين، ويُحْيي فيه الخَلائِقَ أَجْمَعِين. فَلا يَتَخَلَّفُ مِنْهُم صَغِيْرٌ ولا كَبِيرٌ، ولا يَتأَخَرُ مِنْهُم مُعَظَّمٌ ولا حَقِيرٌ. يُجْمَعُونَ للسُّؤالَِ والجَزاءِ والحِساب {ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} يَبْعَثُ اللهُ الخَلائِقَ بَعْدَ أَنْ كانُوا تُرَاباً، ويُعِيْدُهُم إِلى الحَياةِ بَعْدَما كانُوا رَمِيْماً {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ}
يَومُ البَعْثِ يَومٌ عَظِيْمٌ، وَقَرَ الإِيْمانُ بِهِ في قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ، وما كَفَرَ بالبَعْثِ إِلا مَنْ عَظُمَ خَسارُهُ واشْتَدَّ بَوارُهُ. يُحْشَرُونَ في يَومِ المَعادِ نادِمِيْن، شَاهَدُوا الحَقِيْقَةَ التِيْ كانُوا بِها كَافِرِين. وقَدْ كانُوا في الدُنْيا يُقُولُونَ: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ * قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ} تُحْشَرُونَ وأَنْتُم صَاغِرُون {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} نُفِخَةٌ في الصُورِ، خَرَجُوا بِها مِنَ القُبُورِ، وقَامُوا أَحياءً يَنْظُرُون {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَٰذَا يَوْمُ الدِّينِ * هَٰذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ}
يَومُ البَعْثِ يَومٌ عَظِيْمٌ، عَظَّمَ اللهُ مِنْ شأَنِه، وأَمَرَ عِبادَهُ بأَخْذِ الأُهْبَةِ لَه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}
يُومُ البَعْثِ، هُوَ مِنْ أَكْثَرِ الحَقَائِقِ ذِكْراً في القُرآن. أَقامَ اللهُ الحُجَجَ على عِبادِهِ في إِثْباتِهِ، وأَفاضَ في ذِكْرِ تَفاصِيْلِ أَهْوَالِهِ وأَحْوالِهِ. لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ وعدَ اللهِ حَقٌّ، وأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فيها، وأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ في القُبُور. وأَنَّ لَهُمْ حَياةٌ أُخْرَى سَيَصِيْرُونَ إِليها بَعْدَ المَوْتِ، وأَنَّهُم على أَعْمالِهِم في هذهِ الحَياةِ مُحاسَبُونَ ومَجْزِيُّون {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}
ومَا مِنْ عَبْدٍ يُقْبِلُ على آياتِ البَعْثِ والنُشُورِ مُتَدَبَراً مَتَبَصِّرَاً مَعْتَبِراً، إِلا وعادَ بِقَلْبٍ خَاشِعٍ، وفُؤَادٍ خَاضِعٍ، وسَعْيٍ مُخْلِصٍ، وعَمَلٍ رَشِيْد. يَعُودُ بِقَلْبٍ مُخْبِتٍ لا يُرِيْدُ إِلا اللهَ ولا يَسْعَى إِلا في طَلَبِ رِضاه. يُسارِعُ إِلى اغْتِنامِ الحَياةِ قَبْلَ الفَوَاتِ، وإِلى تدارُكَ العَثَراتِ قَبْلَ الممات، وإِلى التَزُودُ مِن الصَالحَاتِ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ المُوافاة.
* يَومُ البَعْثِ والنُشُور، كَذَّبَ بِهِ المُشْرِكُونَ، فَتَوالَتِ إِليهِمُ النُذُرُ، وجاءَتْهُم مِنْ رَبِهِم الآياتِ. خَاطَبَهُم اللهُ في القُرْآنِ أَوْضَحَ خِطابٍ، وحَذَّرَهُم أَبْلَغَ تَحْذِيْرٍ. فَلَمْ يُبْقِ لِمُكَذِّبٍ حُجَّةً، ولَمْ يُبْقٍ لِمُشَكِكٍ ذَرِيْعَةً، ولَمْ يَتْرُكْ شُبْهَةً تَتَحَشْرَجُ في قَلْبُ مُرْتاب.
عَنْ عَبْدُ اللهِ بنِ عَباسٍ رضي الله عنهُ قَالَ: جَاءَ العاصُ بنُ وائلٍ إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعَظمِ حَائِلٍ ففَتَّهُ، فقالَ: يا مُحمَّدُ، أَيَبعثُ اللهُ هذا بعدَ ما أَرى؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ، يَبعثُ اللهُ هذا، ثُمَّ يُميتُكَ، ثُمَّ يُحيِيكَ، ثُمَّ يُدخلُكَ نارَ جهنَّمَ» فأَنْزَلَ اللهُ قَوْلَهُ: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}) رواه الحاكم {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}
كّذَّب المُشْرِكُونَ بِالبَعْثَ وقَالُوا سَاخِرِيْن: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ* هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} فَقَالَ اللهُ لَهُم مُوَبِخاً ومُرْغِماً {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ..} كُوُنُوا ما شئِتُمْ مِنْ عَظائِمِ المَخْلُوقَاتِ، فإِنَّكُمْ لَنْ تُعْجِزُوا اللهَ ولَنْ تَمْتَنِعُوا عَنْ قُدْرَتِهِ {فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا} سَيَقُولُونَ مَنْ يَبْعَثُنا بَعْدَ مَوْتِنا؟! {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} يَبْعَثُكُم الذِيْ خَلَقَكُمْ أَولَّ مَرةٍ، الذي أَوْجَدَكُمْ مِن َالعَدَمِ ولَمْ تَكُونُوا قَبْلُ شَيئاً مَذْكُوراً. فَمَنْ أَنْشأَكُم أَولَ مَرَّةٍ قادِرٌ على أَنْ يُعِيْدَكُم تارَةً أُخْرَى {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ} مَتَى هُوَ يَومُ البَعْثِ؟! {قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا} هُوَ آتٍ لا رَيْبَ فِيْهِ، وكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيْبٌ، وَسَتْذْكُرُونَ مَا أَقْولُ لَكُم {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَىٰ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ * مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} {.. ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ * أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ} بارك الله لي ولكم..
الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمين، وأَشْهَدُ أَن لا إله إلا اللهُ ولي الصالحين، وأَشْهَدُ أَنَّ محمداً رَسُوْلُ رَبِّ العَالَمِيْنَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ علَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِيْنَ، وَسَلَّمَ تَسْلِيْماً. أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُوْنَ
أيها المسلمون: بَعْثُ العِبادِ هُوَ على اللهِ يَسِيْر، يُعِيْدُهُم اللهُ كَما بَدأَهُم أَولَ مَرَّةٍ. يُعِيْدُهُم بِكامِلِ أَجْسادِهِم واجْزائِهِم وأَعْضائِهِم، فلا يُنْتَقَصُ مِنْهُم عَضْوٌ، ولا يَضِيْعُ مِنْهُم جُزْءٌ، ولا يُخْتَلِفُ لَهُمْ رَسْمٌ {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} والبَنانُ هِي أَطْرافُ الأَصَابِعِ، وَمَا فِيْهَا مِنْ دَلائِلَ إِعْجازِيَّةٍ عَلَى قُدْرَةِ الخَالِقِ سُبْحانَه، وَمَا فِيْهَا مِنْ دَلائِلَ على بَدِيْعِ صُنْعِهِ في خَلْقِه. إِذْ لا يُمْكِنُ أَنْ تَتَفِقَ بَصَماتُ بَنانِينِ لِشَخْصَيْنِ مَخْتَلِفَيْنِ ولَوْ كانا أَخَوَيْنِ تَوأَمِيْنِ. يُعِيْدُ اللهُ البَنانَ يَومَ القِيامَةِ كَما كَان، وهُوَ القَائِلُ سُبْحانَه {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللهُ عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» متفق عليه أَيْ: غَيْرَ مَخْتُونِيْنَ، يُعِيْدُهُم كَما خَلَقَهُم اللهُ أَوَلَ مَرَّةٍ ـ
تَرَى القُبُورَ ساكِنَةً، قَدْ ثَوَتِ الأَجْسادُ فِيْها وأَرِمَتْ. ولَسَوفَ تُزَلْزَلُ يَومَاً ويُبَعْثَرُ ما فِيْها، فَيَخْرُجُ النَّاسُ مِنْها، ثُمَّ إِلى رَبِهِم يُحْشَرُون. يَخْرُجُونَ أَحْياءً، لا لِيُكْمِلُوا حَياتَهُم الدُّنْيا التِيْ فَنِيَتْ، وإِنَما لِيُواجِهُوا حَياتَهُم الأُخْرَى التِيْ كَانُوا يُوعَدُون {..وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} {وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
وأَعْظَمُ مُصِيْبَةٍ تَنْزِلُ بالعَبْدِ، أَن يُحْشَرَ يَومِ المَعادِ في الخاسِرِيْن. فَرَّطَ في الدُّنْيا، في عِبادَةِ رَبِهِ، فَما ائْتَمَرَ ما بِهِ أُمِر، وما انْتَهَى عَما عَنْهُ زُجِر. اقْتَحَمَ المَحَرَّمات، ظَلَمِ العِبادَ، فَجَرَ في الخُصُومات، انْهَمَكَ في مُتَعِ الحَياةِ حَتَى نَسِيَ يَومَ المَعادِ فَما عَمِلَ لَه. فأَدْرَكَ يومَ الحَشْرِ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ المَغْبُونِيْن {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}
قَالَ ابنُ بازٍ رَحِمَهُ الله: (يَوْمُ التَّغَابُنِ: هَوَ يَوْمُ القِيَامَةِ... أَنْ تَرَى خَادِمَكَ وَجَارَكَ وَابنَ عَمِّكَ إِلى الجَنَّةِ، وَأَنْتَ تُسَاقُ إِلى النَّارِ، هَذَا هُوَ الغَبْنُ. وأَنْ تَرَى أُناساً تَحْقِرُهُم في الدُّنْيا، وتَرَاهُمْ فُقَراءَ في الدُّنْيا ضُعَفاءَ، وتَرَاهُمْ إِلى الجَنَّةِ إِلى الكَرامَةِ والمَنازِلِ العَالِيَةِ، وأَنْتَ وأَشْباهُكَ تُسَاقُ إِلى النَّارِ باسْتِكْبارِكِ وعِصْيانِكَ، هذا هُوَ الغَبْنُ العَظِيْم، والخُسْرانُ الكَبِير) ا.هـ {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}
مَنْ اسْتحْضَرَ حَقِيْقَةَ هذهِ الحَياةِ، واسْتَحْضَرَ حَقِيْقَةَ الحَياةِ الآخِرَةِ، أَدْرَكَ أَنَّ هذهِ الدُّنْيا لا تَسْتَحِقُ أَنْ تُصَيَّرَ مَيداناً لطُولِ الأَمَل، ولا لِكَثْرَةِ المُشاحَنَةِ، ولا لِلانْهِماكِ في الغَفْلَةِ، ولا لارْتِكابِ المَظالِمِ ولا لِطُول ِالخُصُومات. وأَدْرَكَ أَنَّ الفَوزَ حَقاً، هُوَ في صِدْقِ التَوْبَةِ، وإِصْلاحِ الحالِ، وإِخْلاصٍ العَمَلِ. وفي التَخَلُّصِ مِنْ حُقُوقِ العِبادِ، والتَحَلُلِ مِنْ مَظَالِمِهِم. لِيَرِدَ القِيَامَةَ آمِناً، ولِيَكُونَ يَومَ الحِسابِ رَضِياً {أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
اللهم اجْعَلْنا يَومَ الفَزَعِ آمِنِيْن..
المرفقات
1766651736_يوم يقوم الناس لرب العالمين 6ـ7ـ1447.docx