11- مظهر تحري إجابة الدعاء عند قبور الصالحين
ماجد بن سليمان الرسي
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما).
أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
***
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أنه تعالى خلق الخلق ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا كما قال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾، وأرسل الرسل لذلك قال: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إلـٰه إلا أنا فاعبدون﴾، ونهى عباده عن أن يشركوا معه في عبادته أحدًا غيره فقال: ﴿ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين﴾، وبـين لنا أن الشرك أعظم الذنوب فقال: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما﴾.
***
أيها المؤمنون، تقدم في الخطب الماضية بيان بعض مظاهر الغلو في القبور المنتشرة في بعض بلاد المسلمين، واليوم نتكلم بما يسر الله عن مظهر جديد وهو مظهر تحري إجابة الدعاء عند بعض الأمكنة التي لم يرد تحري إجابة الدعاء عندها، كالذين يتحرَّون إجابة الدعاء عند القبور، سواء كانت قبور أنبياء أو رجال صالحين أو غير ذلك، فتَجد أحدهم يذهب بجوار قبر ويقول: يا ربِّ ارزقني الولد، يا ربِّ اقض ديني، ونحو ذلك.
***
أيها المسلمون، وتحرِّي إجابة الدعاء عند القبور باطلٌ من خمسة وجوه:
الأول: أنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله )صلى الله عليه وسلم) ما يدل على أفضلية دعاء الله عند القبور، وقد تقرر في شريعة الإسلام أن كل عبادة لم تَرِد في الكتاب والسنة فهي مردودة على صاحبها، لقول النبـي )صلى الله عليه وسلم): «مَن أحدث في أمرنا هذا([1]) ما ليس منه فهو رَدٌّ».
وفي رواية: «مَن عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ»([2]).
عباد الله، والوجه الثاني من وجوه بطلان تحري إجابة الدعاء عند القبور أنه لو كان تحري الدعاء عند القبور أمرًا مشروعًا- وجوبًا أو استحبابًا-؛ لفعله الصحابة رضوان الله عليهم عند قبر النبي )صلى الله عليه وسلم)، كما لم يَرِد ذلك عن السلف الصالح في القرون الثلاثة المُفَضَّلة الأولى.
ثم إنَّ الصحابة رضوان الله عليهم قد أَجدبوا مرات، ودهمتهم نَوَائب، وما نقل عنهم البتة أنهم جاءوا ودعوا الله عند قبـر النبـي )صلى الله عليه وسلم) ولا عند قبـر أحد من كبار الصحابة، ولو كان ذلك مشروعًا لفعلوه ولَنُقل إلينا فعلهم، لأنه مما تــتوافر الهِمم والدواعي على نقله، فكان إجماعًا منهم على بدعية هذا الفعل، فتأمل هذا فإنه مفيد.
قال ابنُ القَيِّم )رحمه الله) بعد كلام له عن الزِّيارة الشرعية:
«فهذه سُنَّةُ رسول الله )صلى الله عليه وسلم) في أهل القبور بضعًا وعشرين سنة حتى توَفَّاه الله، وهذه سنة خلفائه الراشدين، وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، هل يمكن بَشر على وجه الأرض أن يأتي عن أحد منهم بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أو منقطع أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها وتمسحوا بها، فضلًا أن يُصَلوا عندها، أو يَسألوا الله بأصحابها، أو يسألوهم حوائجهم؟ فَلْيُوقفونا على أثرٍ واحد، أو حرف واحد في ذلك»([3]).
أيها المؤمنون، والوجه الثالث من وجوه بطلان تحري إجابة الدعاء عند القبور هو أن الـمأثور عن السلف الصالح أنهم كانوا يزورون القبور من غير قصد تحرِّي الدعاء عندها، فالواجب الوقوف حيث وقفوا.
ومما قاله أهل العلم في هذا الباب؛ ما أُثر عن الإمــام مالك )رحمه الله) في بدعية الدعــاء عند قبـر النبـي )صلى الله عليه وسلم)، فقبر غيره أولى بكونه بدعة، حيث قال )رحمه الله):
«وليس يلزم مَن دخل المسجد وخرج منه من أهل المدينة الوقوف بالقبـر، وإنما ذلك للغُرباء».
وقال أيضًا: لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبـر النبـي )صلى الله عليه وسلم)، فيُصَلِّي عليه ويدعو له ولأبـي بكر وعمر.
فقيل له: فإن ناسًا من أهل المدينة لا يَقدمــون من سفر ولا يريدونه، ويفــعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة أو الأيام المرة أو المرتين أو أكثر عند القبر، فيُسلمون ويدعُون ساعة.
فقال: لم يَبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا، وتركُه أوسعُ، ولا يُصلِح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويُكره إلا لمن جاء مِن سفر أو أراده([4]).
علَّق ابن تيمية )رحمه الله) فقال: «فهذا مالك وهو أعلم أهل زمانه -أي زمن تابع التابعين بالمدينة النبوية الذين كان أهلها في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أعلم الناس بما يشرع عند قبر النبي )صلى الله عليه وسلم)- يكرهون الوقوف للدعاء بعد السلام عليه، وبيَّـن أن المستحب هو الدعاء له ولصَاحِبَيْه، وهو المشروع من الصلاة والسلام، وأن ذلك أيضًا لا يُستحب لأهل المدينة كل وقت، بل عند القدوم من سفر أو إرادته، لأن ذلك تحية له، والـمُحيَّا لا يُقصد بيته كل وقت لتحيته، بخلاف القادمين من السفر»([5]).
عباد الله، والوجه الرابع من وجوه بطلان تحري إجابة الدعاء عند القبور أن الباعث على ذلك تعظيم أهلها، والواجب أن يكون باعث المسلم على الدعاء وسائر العبادات هو تعظيم أمر الله وأمر رسوله )صلى الله عليه وسلم)، لا تعظيم المخلوقين من المقبورين وغيرهم.
عباد الله، والوجه الخامس من وجوه بطلان تحري إجابة الدعاء عند القبور: أن دعاء الله عند قبور الصالحين وسيلة عظمى إلى الوقوع في دعاء صاحب القبـر نفسه، لا سِيَّما من كان في حالة اضطرار، وما كان وسيلة إلى مُحَرَّمٍ فهو مُحَرَّمٌ، قال جلال الدين السيوطي )رحمه الله) في كتابه «الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع» ما نصه:
«وقد يُحكى عندها([6]) من الحكايات التي فيها تأثير مثل أن رجلًا دعا عندها فاستجيب له، أو نَذَر لها فقضيت حاجته، أو نحو ذلك، وبمثل هذه الأمور كانت تُعبد الأصنام، وبمثل هذه الشبهات حدث الشرك في الأرض»([7]). انتهى.
***
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
***
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن خلاصة القول في مسألة الدعاء عند القبور أن الدعاء عندها ليس له خصوصية استجابة وفضل في الشريعة الإسلامية، بل القبور كغيرها من البقاع التي لا فضيلة في الدعاء عندها، كشواطئ الأنهار وجوانب الطرقات والبِقاع التي لا يحصي عددها إلا الله.
وإذا كان الأمر كذلك؛ فتحرِّي دعاء الله عند القبور بدعة، ودعوى أن له فضيلة يُعتبر من القول على الله بغير علم، وهذا من كبائر الذنوب، قال تعالى: ﴿قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون﴾.
عباد الله، والذي يُشرع لمن زار المقبرة أن يسلم على أهل المقبرة، ويذكر الدعاء الوارد عن النبي )صلى الله عليه وسلم):
«السَّلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المُستقدمين منا والمُستأخرين، وإنَّا إن شاء الله بكم للاحقون»([8]).
وزاد في حديث بُريدة الأَسْلَمي (رضي الله عنه): «أسأل الله لنا ولكم العافية».([9])
***
ثم اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
أعد الخطبة: ماجد بن سليمان، واتس: 00966505906761
([1]) المقصود بالأمر هو الدِّين.
([2]) رواه مسلم (1718).
([3]) «إغاثة اللهفان» (ص367- 368).
([4]) نقل هذه الأقوال القاضي عياض )رحمه الله) عن الإمام مالك في كتـابه «الشِّفا بتعريف حقوق المصـطفى» (2/98- 99)، باب (في حكم زيارة قبره )صلى الله عليه وسلم)، وفضيلة مَن زاره وسَلَّم عليه، وكيف يُسَلِّم ويدعو)، وعزاها لكتاب «المبسوط» للسرخسي، وكذا نقلها ابن تيمية كما في «مجموع الفتاوى» (27/118).
([5]) «مجموع الفتاوى» (27/118).
([6]) أي: القبور.
([7]) (ص 123).
([8]) رواه مسلم (974)، عن عائشة (رضي الله عنها).
([9]) رواه مسلم (975).
المرفقات
1738275327_11- مظهر تحري إجابة الدعاء عند قبور الصالحين.doc
1738275327_11- مظهر تحري إجابة الدعاء عند قبور الصالحين.pdf