12- التحذير من مظهر السفر إلى قبور الصالحين
ماجد بن سليمان الرسي
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما).
أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
***
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أنه تعالى خلق الخلق ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا كما قال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾، وأرسل الرسل لذلك قال: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إلـٰه إلا أنا فاعبدون﴾، ونهى عباده عن أن يشركوا معه في عبادته أحدًا غيره فقال: ﴿ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين﴾، وبـين لنا أن الشرك أعظم الذنوب فقال: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما﴾.
***
أيها المؤمنون، تقدم في الخطب الماضية بيان بعض مظاهر الغلو في القبور المنتشرة في بعض بلاد المسلمين، واليوم نتكلم بما يسر الله عن مظهر جديد وهو مظهر السفر إلى قبور الصالحين.
***
عباد الله، من مظاهر تعظيم القبور؛ السَّفر إليها، وهذا الفعل حرام لا يجوز، لأن سفر العبادة لا يجوز إلا إلى المساجد الثلاثة، يدل على ذلك أربعة أحاديث:
1. قوله )صلى الله عليه وسلم): «لا تُشَدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي هذا»([1]). أي المسجد النبوي.
قال البُوصيري([2]) )رحمه الله) في شرحه للحديث المتقدم: «شَدُّ الرِّحال كناية عن السفر، والمعنى: لا ينبغي شد الرحال في السفر بـين المساجد إلا إلى ثلاثة مساجد، وأما السفر للعلم وزيارة العلماء والصُّلحاء وللتجارة ونحو ذلك فغير داخل في حيز المنع، وكذا زيارة المساجد الأُخر بلا سَفر -كزيارة مسجد قباء لأهل المدينة- غير داخل في حَيِّز النهي، والله أعلم»([3]).
2. أيها المسلمون، ومن الأحاديث الناهية عن السفر للقبور حديث ليث عن شَهْر قال: لَقِينَا أبا سعيد ونحن نريد الطُّورَ فقال: سمعت رسول الله )صلى الله عليه وسلم) يقول: «لا تُشَدُّ الـمَـطِي([4]) (أي لا يُركب على الإبل للسفر) إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، وبـيت المقدس»([5]).
3. أيها المؤمنون، ومن الأحاديث الناهية عن السفر للقبور ما جاء عن أبي بصرة الغفاري )رضي الله عنه) أنه لقي أبا هريرة )رضي الله عنه) وقد أتى مِن جبل الطُّورِ فقال لأبي هريرة: مِن أين أقبلت؟ فقال: مِن الطُّور. فقال: أَمَا لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت إليه، سمعتُ رسول الله )صلى الله عليه وسلم) يقول: «لا تُعمل الـمَطِي إلا إلى ثلاثة مساجد: إلى المسجد الحرام، وإلى مسجدي، وإلى مسجد إيلياء -أو بـيت المقدس- يشكُّ»([6]).
قوله (لا تُعمل) أي لا تُركب للسفر إليها.
قال السِّندي )رحمه الله) في شرح الحديث: «أي لا ترُكب الـمَطِــيُّ إلى مسجدٍ إلا إلى ثلاثة مساجد، وأبو هريرة قصد الصلاة في الطور، فصار سفره كالسفر إلى المسجد.»([7]).
4. عباد الله، ومما يُستدل به على تحريم السفر للقبور كون هذا الفعل لم يفعله الصحابة والتابعون، أصحاب القرون الثلاثة المفضلة، قال ابنُ تيمية )رحمه الله): «وأمَّا السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين فهذا لم يكن موجودًا في الإسلام في زمن الإمام مالك، وإنما حدث هذا بعد القرون الثلاثة قَرن الصحابة والتابعين وتابعيهم»([8]).
5. ومما يُستدل به على تحريم السفر للقبور اتفاق الأئمة على ذلك، وقد حكى اتفاقهم ابن تيمية )رحمه الله) حيث قال: «ولا يسافر أحدٌ لِيَقف بغير عرفات، ولا يسافر للوقوف في الـمسجد الأقصى، ولا للوقوف عند قبر أَحَدٍ، لا من الأنبياء ولا المشايخ ولا غيرهم باتِّفاق المسلمين، بل أظهر قول العلماء: لا يسافر أحد لزيارة قبر من القبور».
وقال أيضًا: وأصلُ هذا الباب أنه ليس في شريعة الإسلام بقعة تقصد لعبادة الله فيها بالصلاة والدعاء والذِّكر والقراءة ونحو ذلك إلا مساجد المسلمين ومشاعر الحج، وأمَّا المشاهد التي على القبور سواء جُعلت مساجد أو لم تُجعل، أو المقامات([9]) التي تضاف إلى بعض الأنبـياء أو الصَّالحين أو المَغارات والكهوف أو غير ذلك، أو مثل الطُّور الذي كَلَّم الله عليه موسى، ومثل غار حراء الذي كان النبـي )صلى الله عليه وسلم) يتحـنَّث فيه (أي يتعبد فيه) قبل نـزول الوحي، والغار الذي ذكره الله في قوله: ﴿ثاني اثنين إذ هما في الغار﴾، والغار الذي بجبل قَاسْيُون بدمشق الذي يقال له مغارة الدم، والمقامان اللذان بجانِبَـيْه الشرقي والغربـي يقال لأحدهما مقام إبراهيم ويقال للآخر مقام عيسى، وما أشبه هذه البقاع والمشاهد في شرق الأرض وغربها، فهذه لا يُشرع السفر إليها لزيارتها، ولو نذر ناذر السفر إليها لم يَجب عليه الوفاء بنذره باتفاق أئمة المسلمين، بل قد ثبت في «الصَّحيحين» عن النبـي )صلى الله عليه وسلم) من حديث أبـي هريرة وأبـي سعيد -وهو يُروى عن غيرهما- أنه قال: «لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلَّا إلى ثلاثة مَساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا»([10]).
وقد كان أصحابُ النَّبـي )صلى الله عليه وسلم) لما فتحوا هذه البلاد بلاد الشام والعراق ومصر وخُرَاسان والمغرب وغيرها، لا يقصدون هذه البقاع ولا يَزورونها ولا يَقصدون الصلاة والدعاء فيها، بل كانوا مُستمسكين بشريعة نبـيهم، يعمرون المساجد التي قال الله فيها: ﴿إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله﴾، وقال: ﴿قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد﴾، وقال تعالى: ﴿وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا﴾، وأمثال هذه النصوص. انتهى([11]).
***
عباد الله، وقد وقع كثير من الناس فيما نهى عنه النبـي )صلى الله عليه وسلم)، فتجد بعض الناس مَن ليس له شغل إلا زيارة القبور والسفر إليها، ولا يكادون يعرفون من الدِّين إلا هذا الأمر، فتجد أحدهم يقول متباهيًا: زرت قبـر سيدي فلان بالمكان الفلاني، وقبـر الشيخ فلان بالمكان الفلاني، بل قد بلغ الغلو ببعض الجُهَّال أن يسمي سفره هذا حجًّا فيقول: أريد الحجَّ إلى قبـر فلان وفلان، نعوذ بالله من الضلال وعمى البصيرة.
***
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
***
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن بعض الناس إذا أراد السفر إلى المدينة النبوية نوى بسفره زيارة القبـر النبوي لا المسجد النبوي وهذا خطأ، والمشروع أن يقصد بقلبه زيارة المسجد النبوي لا القبـر النبوي، لأن النبـي )صلى الله عليه وسلم) قد حثَّ على زيارة المسجد النبوي لا القبر النبوي، كما في قوله )صلى الله عليه وسلم): «صلاةٌ في مَسجدي هذا خيرٌ مِن ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام»([12]).
فبناء على هذا فإنَّ قَصْدَ قبـر النبـي )صلى الله عليه وسلم) بالسفر بدعة في دين الله، لم يأمر بها الله ورسوله )صلى الله عليه وسلم)، مَردودة على صاحبها، وفاعل البدعة مأزور غير مأجور.
وقد تقَرَّر أن لو أراد إنسان السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة لكان فعله بدعة، فكيف بالسفر إلى قبـر؟
***
عباد الله، وإذا أراد المسلم بعد زيارة المسجد النبوي والصلاة فيه أن يُسَلِّم على النبـي )صلى الله عليه وسلم) فلا بأس بذلك حينئذ، بل هو مستحب، لأن هذا ليس فيه سفر ولا شَدُّ رَحْل، ولكن لا يُكثر من ذلك أثناء إقامته بالمدينة لأن هذا من معاودة القبر، وهو منهيٌّ عنه في حديث (لا تتخذوا قبري عيدا)، أي لا تكثروا من معاودته وزيارته، ويكفيه أن يُسَلِّم إذا قدم وإذا أراد السفر، كما ورد عن ابن عمر (رضي الله عنهما)، ثم يُسَلِّم على أبي بكر وعمر لأنهما مقبوران بجواره (صلى الله عليه وسلم).
كما يستحب أن يأتي مسجد قباء فيصلي فيه ركعتين لأنَّ صلاة ركعتين فيه تَعدل عمرة، كما ثبت ذلك عن النبي )صلى الله عليه وسلم) وعن ابن عمر (رضي الله عنهما).
كما يشرع زيارة مقبرة البقيع التي بجانب المسجد النبوي للسلام على المدفونين من الصحابة والتابعين وغيرهم، وقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يزور مقبرة البقيع ويدعو لأهلها ويترحم عليهم.
ويُستحب أن يَزور مقبـرة شهداء أُحُدٍ والتي تقع بجوار جبل أُحُدٍ ويُسَلِّم على أهلها كغيرها من المقابر تمامًا، بقصد التذكر والاتعاظ والدعاء لأهلها.
***
أيها المؤمنون، لقد احتج بعض الناس بأحاديث على جواز السفر لزيارة قبر النبي (صلى الله عليه وسلم)، كحديث: (مَن حَجَّ إلى مكة ثم قصدني في مسجدي كُتبت له حَجَّتان مبرورتان)، وحديث «مَن حَجَّ البـيت ولم يزرني فقد جفاني»، وغيره من الأحاديث، ولكنها عند التحقيق ضعيفة الإسناد، لا يحتج بها، وتخالف الأحاديث الصحيحة، وقواعد الشريعة، فالواجب على المؤمن الحذر لئلا يختلط الأمر عليه.
***
ثم اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
أعد الخطبة: ماجد بن سليمان، واتس: 00966505906761
([1]) رواه البخاري (1995)، ومسلم (827) عن أبـي سعيد )رضي الله عنه)، ورواه البخاري (1189)، ومسلم (1397) عن أبـي هريرة )رضي الله عنه).
([2]) أحمد بن أبي بكر البوصيري الكناني الشافعي، مصري، من حفاظ الحديث، عمل في تأليف كتب الزوائد، أعظمها: «إتحاف المَهرة بزوائد المسانيد العشرة»، توفي )رحمه الله) سنة 840. انظر «الأعلام» للزركلي (1/104).
([3]) «مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه»، وانظر ما قاله شيخُ الإسلام ابن تيمية )رحمه الله) في «مجموع الفتاوى» (27/249-250).
([4]) الـمَطي: جمع مَطية، وهي الناقة التي يُركب مطاها أي: ظهرها. وقوله: «لا تُشد»، أي: لا تُركب ليسافر عليها. انظر «النهاية» لابن الأثير.
([5]) رواه أحمد (3/93)، وأبو يعلى (1326)، وصححه الشيخ شعيب الأرناؤوط بشواهده في حاشيته على «المسند» (18/383).
([6]) رواه أحمد (6/7) واللفظ له، ومالك في كتاب (الجمعة) (1/108) رقم (16)، عن أبـي بصرة الغفاري )رضي الله عنه)، وصحح إسنادَه الشيخُ الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (737).
([7]) انظر «المسند» (39/267).
([8]) «مجموع الفتاوى» (27/386).
([9]) المقامات: جمع مقام وهو الأثر، ومنه مقام إبراهيم المعروف وهو موضع قدميه )صلى الله عليه وسلم).
([10]) تقدم تخريجه.
([11]) «مجموع الفتاوى» (27/137-139)، باختصار.
([12]) رواه البخاري (1190)، ومسلم (1394) عن أبـي هريرة )رضي الله عنه).
المرفقات
1738823450_12 السفر إلى قبور الصالحين.doc
1738823450_12 السفر إلى قبور الصالحين.pdf