14- التحذير من العكوف عند القبور والطواف بها
ماجد بن سليمان الرسي
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما).
أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
***
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أنه تعالى خلق الخلق ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا كما قال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾، وأرسل الرسل لذلك قال: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إلـٰه إلا أنا فاعبدون﴾، ونهى عباده عن أن يشركوا معه في عبادته أحدًا غيره فقال: ﴿ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين﴾، وبـين لنا أن الشرك أعظم الذنوب فقال: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما﴾.
***
أيها المؤمنون، تقدم في الخطب الماضية بيان بعض مظاهر الغلو في القبور المنتشرة في بعض بلاد المسلمين، واليوم نتكلم بما يسر الله عن مظهر جديد وهو مظهر العكوف عند القبور.
***
أيها المسلمون، العكوف من الاعتكاف، وهو لزوم الشيء، والعكوف منه ما هو مشروع ومنه ما هو ممنوع، فالعكوف المشروع هو العكوف في المساجد لطاعة الله، كالصلاة والذكر وقراءة القرآن، قال تعالى: ﴿ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد﴾، والمعتكف يلزم المسجد ولا يخرج منه.
والعكوف الممنوع هو العكوف على فعل معصية لله، ومن ذلك ما قصَّه الله علينا عن إبراهيم (عليه السلام) لما قال لقومه: ﴿ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون﴾، أي مقيمون عندها، ملازمون لها لعبادتها.
وقد غلا بعضُ الناس في تعظيم الموتى حتى وصل بهم الأمر إلى حد العكوف عند قبور الصالحين ولزومها أيامًا للصلاة عندها والدعاء، رجاء الأجر والمثوبة!
قال ابنُ تيمية )رحمه الله): «فأما العكوف والمجاورة عند شجرة أو حجر، تمثال أو غير تمثال، أو العكوف والمجاورة عند قبـر نبـي أو غير نبـي، أو مقام نبـي أو غير نبـي، فليس هذا من دين المسلمين، بل هو من جنس دين المشركين الذين أخبر الله عنهم بما ذكره في كتابه حيث قال: ﴿ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا له حافظين * إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون﴾، فهذا عكوف المشركين، وذاك عكوف المسلمين، فعكوف المؤمنين في المساجد لعبادة الله وحده لا شريك له، وعكوف المشركين على ما يرجونه ويخافونه من دون الله، وما يتخذونهم شركاء وشفعاء»([1]).
وقال أيضًا )رحمه الله): «ولهذا كان السلف يُكثرون الصلاة والسلام عليه في كل مكان وزمان، ولم يكونوا يجتمعون عند قبـره، لا لقراءة ختمة، ولا إيقاد شمع وإطعام وسقاء، ولا إنشاد قصائد ولا نحو ذلك، بل هذا من البدع، بل كانوا يفعلون في مسجده ما هو المشروع في سائر المساجد من الصلاة والقراءة والذِّكر والدعاء والاعتكاف وتعليم القرآن والعلم وتعلمه ونحو ذلك»([2]).
***
عباد الله، والعكوف عند الجمادات بقصد التعبد من صفات أهل الجاهلية، فعن أبي واقد الليثي (رضي الله عنه) قال: خرجنا مع رسول الله )صلى الله عليه وسلم) قِـبَلَ حُنين([3]) ونحن حديثو عهدٍ بكفر، (أي أسلموا قريبا)، وللمشركين سِدرة يعكُفون حولها ويَنوطون بها أسلحتهم (أي يٌعلقون عليها أسلحتهم)، يقال لها «ذاتُ أنواط»، فمررنا بسدرةٍ([4])، فقلنا: يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط.
فقال النبي )صلى الله عليه وسلم): «الله أكبـر، هذا كما قالت بنو إسرائيل: ﴿اجعل لنا إلـٰها كما لهم آلهة﴾، لتركبُـن سَـنَنَ من كان قبلكم»([5]). أي لتسلكون طريقة من كان قبلكم.
والخلاصة عباد الله أن العكوف عند القبور يُعتبر من الغلو المذموم، وليس مما أمر الله به بل مما نهى الله عنه ورسوله، ومن وسائل الشرك وطرق الجاهلية، ومَن أراد الاعتكاف الشرعي فليعتكف في المساجد لطاعة الله، والله أعلم.
***
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
***
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من مظاهر تعظيم الموتى الطواف بقبورهم، وهذا شرك صريح، لأن الطواف عبادة، قال تعالى: ﴿وليطوفوا بالبيت العتيق﴾، وإذا ثبت أن الطواف عبادة فصرفه لغير الله شرك.
ومن المعلوم أن الله لم يشرع طوافًا إلا الطواف بالكعبة -زادها الله تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابة-، فمن طاف بغيرها من الأضرحة والقبور فقد وقع في الشرك الأكبر، عياذا بالله.
***
ثم اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
أعد الخطبة: ماجد بن سليمان، واتس: 00966505906761
([1])«اقتضاء الصراط المستقيم» (2/827- 828)، باختصار.
([2]) «مجموع الفتاوى» (26/156).
([3]) أي: جهة حنين.
([4]) أي: سدرة أخرى.
([5]) رواه الترمذي (2180)، وصححه الألباني )رحمه الله).
المرفقات
1741290831_14 العكوف عند القبور والطواف بها.doc
1741290831_14 العكوف عند القبور والطواف بها.pdf