16- التحذير من الحلف بالصالحين والنذر لهم

ماجد بن سليمان الرسي
1446/10/19 - 2025/04/17 10:18AM

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون).

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما).

أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

***

أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أنه تعالى خلق الخلق ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا كما قال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾، وأرسل الرسل لذلك قال: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إلـٰه إلا أنا فاعبدون﴾، ونهى عباده عن أن يشركوا معه في عبادته أحدًا غيره فقال: ﴿ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين﴾، وبـين لنا أن الشرك أعظم الذنوب فقال: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما﴾.

***

أيها المؤمنون، تقدم في الخطب الماضية بيان بعض مظاهر الغلو في القبور المنتشرة في بعض بلاد المسلمين، واليوم نتكلم بما يسر الله عن مظهرين جديدين وهما مظهر الحلف بالصالحين والنذر لهم.

***

عباد الله، من مظاهر تعظيم الصالحين الحلف بهم، كالحلف بالنبي )صلى الله عليه وسلم)، أو الحلف بالعباس بن عبد المطلب أو بالبدوي أو بعلي بن أبي طالب أو بغيرهم فهذا شرك، لأن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به تعظيمًا لا يليق إلا بالله، وهذا شرك في التعظيم، ثم إن الحالف يُقيم المحلوف به مقام الشهود الذين رأوا أو سـمعوا، والمخلوق إذا كان غائبًا لا يرى ولا يسمع، فإذا حلف به كان قد أعطاه صفات من يرى ويسمع، والحال أنه بخلاف ذلك.

***

أيها المؤمنون، والدليل على تحريم الحلف بغير الله حديث سعد بن عبيدة أن ابن عمر (رضي الله عنه) سمع رجلًا يقول: لا والكعبة، فقال ابنُ عمر: لا يُحلف بغير الله، فإني سمعت رسول الله )صلى الله عليه وسلم) يقول: «مَن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»([1]).

وعن عمر )رضي الله عنه) قال: قال لي رسول الله )صلى الله عليه وسلم): «إنَّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم»([2]).

قال النووي )رحمه الله) في شرح الحديث: «قال العلماء: الحكمة في النهي عن الحلف بغير الله تعالى أن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به، وحقيقة العظمة مختصة بالله تعالى، فلا يُضاهى به غيره، وقد جاء عن ابن عباس: «لأَن أحلف بالله مائة مرة فآثَـمُ خيرٌ مِن أن أحلف بغيره فأبَـرُّ». انتهى الغرضُ منه.

***

عباد الله، ومن اللطائف أن السلف كانوا يرون الحلف بالله كاذبًا أهون من الــحلف بغير الله صادقًا، فقد روى عبد الرزاق في «مصنفه» عن وبرة قال: قال عبد الله- لا أدري ابن مسعود أو ابن عمر -: «لإن أحلف بالله كاذبًا أحب إليَّ مِن أن أحلف بغيره صادقًا».

***

قال ابن تيمية رحمه الله: «وأمَّا الحلف بغير الله من الملائكة والأنبياء والمشائخ والملوك وغيرهم فإنه مَنهي عنه، غير منعقد باتفاق الأئمة، ولم ينازعوا إلا في الحلف برسول الله خاصة، والجمهور على أنه لا تنعقد اليمين لا به ولا بغيره، وقد قال النبي: «مَن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت»، وقال: «مَن حلف بغير الله فقد أشرك»، فمن حلف بشيخه أو بتربته أو بحياته أو بحقه على الله، أو بالملوك أو بنعمة السلطان أو بالسيف أو بالكعبة أو أبيه أو تربة أبيه أو نحو ذلك- كان منهيًّا عن ذلك، ولم تنعقد يمينه باتفاق المسلمين»([3]).

***

وقال الشيخ حمد بن ناصر بن مَعمر([4]) )رحمه الله): «وأما الحلف فلم يأمرنا الله به، بل أمرنا بحفظه، فقال: ﴿واحفظوا أيمانكم﴾، فإن المعنى: لا تحلفوا، وقيل: لا تحنثوا.

ولا يرِد على هذا ما ورد عن النبي )صلى الله عليه وسلم) أنه حلف في مواضع، فإن اليمين تُستحبُّ إذا كان فيها مصلحة راجحة. وعلى هذا حَمَل العلماءُ ما رُوي في ذلك عن النبي )صلى الله عليه وسلم)، فهو يحلف لمصالح مطلوبة للأمة، كزيادة إيمانهم، وطمأنينة قلوبهم، كما أمره الله بذلك في ثلاثة مواضع من كتابه. وأمَّا الحلف لغير مصلحة فليس مشروعًا بل يُباح إذا كان صادقًا»([5]).

 

***

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

***

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن النذر عبادة من العبادات، لأن الله تعالى مدح المُوفين به، والله لا يمدح إلا على فعل عبادة، ولا يَمدح على فعل المباح المجرد.

قال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمـه الله تعالى في التعليق على قول الله تعالى ﴿يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا﴾:«إنَّ الله تعالى أثنى عليهم بذلك (أي بوفائهم لنذورهم)، وجعله من الأسباب التي بها يدخلون الجنة، ولا يكون سببًا يدخلون به الجنة إلا وهو عبادة، فيقتضي أن صرفَه لغير الله شرك»([6]).

أيها المسلمون، ومن مظاهر تعظيم الموتى النذر لهم، كمن يأتي إلى قبر رجل صالح ويُقدم له شيئًا من النذور من مال أو طعام، ويطلب منه حاجته من شفاء مريض أو كشف كربة ونحو ذلك. ولا شك أن هذا شرك أكبر مُخرج من ملة الإسلام، لأن النذر عبادة، والعبادات لا يجوز صرفُ شيء منها لغير الله مطلقًا.

***

أيها المؤمنون، ومن أدلة تحريم النذر لغير الله تعالى قوله )صلى الله عليه وسلم): «لا نذرَ إلا فيما يُبتغى به وجه الله»([7]).

***

عباد الله، ومن أمثلة النذر لغير الله ما قاله الشيخ مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي )رحمه الله) في كتابه «شفاء الصدور في زيارة المشاهد والقبور»، قال: «هذا وقد صار النَّاذرون يقول أحدهم: مَرضت فنَذرت، ويقول الآخر: ركبت البحر فنذرت، ويقول الآخر: حُبِست فنذرت، ويقول الآخر: أصابتني فاقة فنذرت، وقد قام بنفوسهم أن هذه النذور هي السبب في حصول مَطلوبهم ودفع مَرهوبهم، وقد أخبر الصادق المصدوق أن نذر الطاعة لله -فضلًا عن معصيته- ليس سببًا لخير، وإنما الخير الذي يحصل للـنـاذر موافـقـة قدرٍ كموافقة سائر الأسباب، ثم تجد كثيرًا من الناس يقولون: القبر الفلاني أو المكان الفلاني أو المشهد الفلاني يقبل النذر، بمعنى أنهم نذروا له نذرًا إن قُضيت حاجتهم، فقُضيت، فيغترون بذلك»([8]).

***

أيها المؤمنون، والنذر لغير الله من المسائل التي أجمع علماء المسلمين على تحريمها، قال ابنُ تيمية )رحمه الله): «ولهذا لا يُشرع باتفاق المسلمين أن ينذر للمشاهد التي على القبور، لا زيت ولا شمع ولا دراهم ولا غير ذلك»([9]). انتهى.

***

فإن سأل سائل فقال: ما حكم الوفاء بالنَّذر الذي نُذر لغير الله؟ فالجواب أنه يحرم عليه الوفاء به، لقوله )صلى الله عليه وسلم): «مَن نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يَعصه»([10]).

***

ثم اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

أعد الخطبة: ماجد بن سليمان، واتس: 00966505906761



([1]) رواه أبو داود (3251) واللفظ له، والترمذي (1535)، وأحمد (2/125)، وصححه الألباني في «صحيح الترمذي».
([2]) رواه البخاري (6647) ومسلم (1646).
([3]) «مجموع الفتاوى» (11/506).
([4]) هو الشيخ العلامة حمد بن ناصر آل معمر، ولد عام 1160هـ في بلدة العُيينة، أخذ العلم عن جـماعة من العلماء، منهم إمام الدعوة في زمانه: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، تولى رئاسة القضاء في مكة المكرمة، وتوفي فيها عام 1225 )رحمه الله).

باختصار وتصرُّف من ترجمته في مقدمة كتاب «النبذة الشريفة النفيسة في الردِّ على القُبوريين»، وهي مِن إعداد الشيخ د. عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم )رحمه الله).
([5]) «النبذة الشريفة النفيسة في الرد على القبوريين» (ص58- 59).
([6]) «القول المفيد» (1/317).
([7]) رواه أبو داود (3273) وأحمد (2/185) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وحسنه الشيخ الألباني كما في «صحيح أبي داود»، وكذا محققو «المسند».
([8]) ص (69- 70)، باختصار، الناشر: مكتبة نـزار مصطفى الباز- مكة.
([9]) «مجموع الفتاوى» (24/319).
([10]) رواه البخاري (6700) عن عائشة )رضي الله عنها).

المرفقات

1744874425_خطبة في التحذير من الحلف بالصالحين والنذر لهم.doc

1744874425_خطبة في التحذير من الحلف بالصالحين والنذر لهم.pdf

المشاهدات 112 | التعليقات 0