17- التحذير من تصوير الصالحين على هيئة تماثيل
ماجد بن سليمان الرسي
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما).
أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
***
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أنه تعالى خلق الخلق ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا كما قال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾، وأرسل الرسل لذلك قال: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إلـٰه إلا أنا فاعبدون﴾، ونهى عباده عن أن يشركوا معه في عبادته أحدًا غيره فقال: ﴿ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين﴾، وبـين لنا أن الشرك أعظم الذنوب فقال: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما﴾.
***
أيها المؤمنون، تقدم في الخطب الماضية بيان بعض مظاهر الغلو في القبور المنتشرة في بعض بلاد المسلمين، واليوم نتكلم بما يسر الله عن مظهر تصويرهم على هيئة تماثيل.
***
عباد الله، من مظاهر تعظيم الموتى تصويرهم على هيئة تماثيل، وهذا منهي عنه لعلتين:
الأولى: أن التصوير مضاهأة ومشابهة لخلق الله.
الثاني: أنه وسيلة إلى عبادة مَن جُعلت الصورة على هيئته، فقد كان المشركون يعبدون صورهم، بقصد تذكُّر أصحابها وسيرهم، كما حصل من قوم نوح (عليه السلام) لما صنعوا التماثيل، ثم عبدها مَن جاء بعدهم.
ففي «صحيح البخاري» عن ابن عباس (رضي الله عنه) في تفسير قول الله تعالى: ﴿وقالوا لا تَذَرُنَّ آلهتكم ولا تذرون وَدًّا ولا سُواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا﴾ قال: «أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا (أي ماتوا) أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا (أي اصنعوا تماثيل)، وسـمُّوها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك وتَـنَسَّخ العلمُ (أي تحول ورُفِع) عُبِدَتْ»([1]).
وروى ابن جرير بإسناده إلى الثوري عن موسى عن محمد بن قيس أنه قال عن يَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْر: «كانوا قومًا صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يَقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صَوَّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصَوَّروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دبَّ إليهم إبليسُ، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقون المطر، فعَبدوهم»([2]).
قال ابنُ القيم )رحمه الله): «قال غيرُ واحد من السلف: كان هؤلاء قومًا صالحين في قوم نوح )عليه السلام)، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صَوَّروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمدُ فعَبدوهم»([3]). انتهى.
وبعد نشوء الشرك وعبادة الأصنام في قوم نوح تــتابع الناس على ذلك وانتشر بينهم كما قال ابنُ عباس )رضي الله عنه): صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعدُ، أمَّا وَدٌّ فكانت لكلب بدُومة الجندل([4])، وأما سُواع فكانت لـهُذيل، وأمَّا يغوث فكانت لـمُراد ثم لبني غُطيف بالـجُرف عند سبأ، وأما يَعوق فكانت لهمْدان، وأما نَسر فكانت لحِمْير، لآل ذي الكَلاع([5]).
وقال قتادة: «كانت هذه الآلهة يعبدها قوم نوح، ثم اتخذها العرب بعد ذلك»([6]).
وبناء على ما تقدم من الحقائق التاريخية، فقد قرر ابن القيم في «زاد المعاد» أنَّ غالب شرك الأمم كان من جهة الصور والقبور([7]).
قال )رحمه الله): «ومن هـٰهنا اتخذ أصحاب الروحانيات والكواكب أصنامًا زعموا أنها على صورها، فوَضْعُ الصنم إنما كان في الأصل على شكل معبود غائب، فجعلوا الصنم على شكله وهيئته وصورته ليكون نائبًا منابَه وقائمًا مقامَه، وإلا فمن المعلوم أن عاقلًا لا ينحت خشبة أو حجرًا بيده ثم يعتقد أنه إلـٰهه ومعبودَه»([8]).
وقال ابنُ تيمية )رحمه الله): «فلما ظهر دينُ المسيح )عليه السلام) بعد أرسطو بنحو ثلاثمائة سنة في بلاد الروم واليونان؛ كانوا على التوحيد، إلى أن ظهرت فيهم البدع، فصَوَّروا الصور المَرقومة (أي المنقوشة) في الحيطان، وجعلوا هذه الصور عِوضًا عن تلك الصور.
وكان من أعظم أسباب عبادة الأصنام تصوير الصور وتعظيم القبور»([9]). انتهى.
***
عباد الله، إنَّ طبيعة الإنسان الوثني ميَّالة إلى تجسيد الآلهة وتصوير المُعظمين الميتين في صور محسوسة، ولهذا جاء في النهي عن اتخاذ الصور عدة أحاديث منها:
1. حديث عائشة (رضي الله عنها) أنَّ أم حبـيبة وأم سلمة ذكَرَتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله )صلى الله عليه وسلم)، فقال رسول الله )صلى الله عليه وسلم): «إنَّ أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بَنَوْا على قبـره مسجدًا وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شرارُ الخلق عند الله )عز وجل) يوم القيامة»([10]).
قال ابنُ رجب رحمـه الله تعالى: «هذا الحديث يدل على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين وتصوير صورهم فيها كما يفعل النَّصارى، ولا ريب أن كل واحد منهما محرَّم على انفراده، فتصوير صور الآدميـين محرم، وبناء المساجد على القبور بانفراده محرم كما دلت عليه نصوص أُخر»([11]). انتهى.
أيها المسلمون، وليتأمل القارئ الكريم وصف النبي )صلى الله عليه وسلم) للمُتَّخذين التماثيل والقبور بأنهم شِرار الخلق عند الله يوم القيامة.
***
2. أيها المؤمنون، ومن الأدلة على تحريم تصوير الموتى على هيئة تماثيل حديث أبي الهَيَّاج الأَسَدي قال: «قال لي عليُّ بن أبي طالب أَلَا أبعثك على ما بَعثني عليه رسولُ الله )صلى الله عليه وسلم)؟ أن لا تَدَع تمثالًا إلَّا طَمسته، ولا قبـرًا مشرفًا إلا سَوَّيته»([12]).
ولفظ النَّسائي: «ولا صورة في بـيت إلا طَمستها». والطمس هو المحو بقطع الرأس، أو تحطيم الصورة بالكلية.
***
3. أيها المسلمون، ومن الأدلة على تحريم تصوير الموتى على هيئة تماثيل أثر سعيد بن أبـي الحسن قال: «جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني رجل أُصَوِّر هذه الصور فأفتـني فيها، فقال له: ادْنُ مني، فدنا منه ثم قال: ادْنُ مني، فدنا حتى وضع يده على رأسه قال: أُنبئك بما سمعت من رسول الله )صلى الله عليه وسلم)؟ سمعتُ رسول الله )صلى الله عليه وسلم) يقول: «كلُّ مُصَوِّر في النار، يُـجعل له بكل صورة صَوَّرَها نفسًا فتُعَذِّبه في جهنم».
وقال: إن كنت لابد فاعلًا فاصنع الشجر وما لا نَفس له.([13])
***
4. وعن أبـي هريرة )رضي الله عنه) قال: قال رسول الله )صلى الله عليه وسلم): «تَخرج عنقٌ من النار يوم القيامة، لها عينان تُبصران، وأذنان تَسمعان، ولسان ينطق، يقول: إني وُكلت بثلاثة: بكل جبَّار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلـٰهًا آخر، وبالمصورين»([14]).
***
5. عباد الله، ومما يدل على قبح اتخاذ التماثيل أن الرسول )صلى الله عليه وسلم) لما دخل مكة فاتحًا أمر بتطهير البـيت الحرام من الأصنام المصورة، وشارك بـيده الشريفة في تكسيرها، وكان عددها ستين وثلاثمائة، فعُلِم من هذا أن ما كان وسيلة لهدم التوحيد في النفوس فحقه الهدم ابتداء، فعن ابن مسعود )رضي الله عنه) قال: «دخل النبيُّ )صلى الله عليه وسلم) مكة يوم الفتح، وحول البيت ستون وثلاثمائة نُصب([15])، فجعل يَطعنها بعودٍ في يده ويقول: ﴿جاء الحق وزهق الباطل﴾، ﴿جاء الحق وما يُبدىء الباطل وما يعيد﴾»([16]).
***
6. أيها المسلمون، وكان بداخل الكعبة صور لإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وهم يَستقسمون بالأزلام (أي يسألون القِداح أن يقسمن لهم([17])، فلُطِّخت بالزعفران، ولم يدخل الكعبة إلا بعد إخراجها منها، وقال: «قاتلهم الله، ما كان إبراهيم يستقسم بالأزلام»([18]).
وفي رواية للبخاري: «هذا إبراهيم مُصَوَّر، فما لَه يَستقسم؟»([19]).
وروى الإمام أحمد([20]) عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما) قال: «كان في الكعبة صور، فأمر النبـي )صلى الله عليه وسلم) عمر بن الخطاب أن يمحوها، فبلَّ عمر ثوبًا ومحاها به، فدخلها رسول الله )صلى الله عليه وسلم) وما فيها منها شيء».
***
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
***
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
أعد الخطبة: ماجد بن سليمان، واتس: 00966505906761
([1]) رواه البخاري (4920).
([2]) «تفسير ابن جرير»، سورة نوح: (24).
([3]) «إغاثة اللهفان» (1/332).
([4]) موضع في شمال جزيرة العرب.
([5]) انظر تتمة حديث ابن عباس السابق الذي رواه البخاري.
([6]) «تفسير ابن جرير»، تفسير سورة نوح: (24)، (12/254).
([7]) «زاد المعاد» (3/458).
([8]) «إغاثة اللهفان» (975).
([9]) «الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح» (1/346)، باختصار.
([10]) رواه البخاري (427)، ومسلم (528) واللفظ له.
([11]) «فتح الباري» لابن رجب، شرح حديث رقم (427).
([12]) رواه مسلم.
([13]) رواه البخاري (2225)، ومسلم (2110) واللفظ له).
([14]) رواه الترمذي (2574)، وصححه الألباني.
([15]) قال القرطبي )رحمه الله): «قال علماؤنا: إنما كانت بهذا العدد، لأنهم كانوا يُعظمون في كل يوم صنمًا، ويخصون أعظمها بيومين». انظر «الجامع لأحكام القرآن»، تفسير سورة الإسراء: (81).
([16]) رواه البخاري (4280)، ومسلم (1781).
([17]) قال ابن جرير )رحمه الله) موضحًا معنى قوله تعالى ﴿وأن تستقسموا بالأزلام﴾ في مطلع سورة المائدة: «وأن تطلبوا عِلم ما قُــسِم لكم أو لم يُقسم بالأزلام، وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا أراد سفرًا أو غزوًا أو نحو ذلك أجال القِدَاح (أي: أدارها)، وهي الأزلام، وكانت قداحًا مكتوبًا على بعضها: «نهاني ربِّي»، وعلى بعضها: «أَمَرني ربي»، فإن خرج القدح الذي هو مكتوب عليه: «أمرني ربي»- مضى لما أراد من سفر أو غزو أو تزويج وغير ذلك، وإن خرج الذي عليه مكتوب: «نهاني ربي»- كفَّ عن الـمُضي لذلك وأمسك، فقيل: ﴿وأن تستقسموا بالأزلام﴾، لأنهم بفعلهم ذلك كانوا كأنهم يسألون أزلامهم أن يَقسمن لهم». انتهى باختصار.
([18]) رواه البخاري (4288) عن ابن عباس (رضي الله عنه).
([19]) رواه البخاري (3351).
([20]) (3/396)، وقال محققوه: «حديث صحيح، وهذا إسناد حسن».
المرفقات
1745462522_خطبة جمعة - التحذير من تصوير الصالحين على هيئة تماثيل.doc
1745462522_خطبة جمعة - التحذير من تصوير الصالحين على هيئة تماثيل.pdf