18- التعبد لله بزيارة الأماكن التي مر بها الأنبياء والصالحون لمجرد أنهم مروا بها
ماجد بن سليمان الرسي
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما).
أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
***
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أنه تعالى خلق الخلق ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا كما قال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾، وأرسل الرسل لذلك قال: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إلـٰه إلا أنا فاعبدون﴾، ونهى عباده عن أن يشركوا معه في عبادته أحدًا غيره فقال: ﴿ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين﴾، وبـين لنا أن الشرك أعظم الذنوب فقال: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما﴾.
***
أيها المؤمنون، تقدم في الخطب الماضية بيان بعض مظاهر الغلو في القبور المنتشرة في بعض بلاد المسلمين، واليوم نتكلم بما يسر الله عن مظهر جديد وهو مظهر التعبد لله بزيارة الأماكن والآثار التي مرها الأنبياء والصالحون لمجرد أنهم مروها.
***
عباد الله، قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في موضوع تعظيم الآثار:
· «إن تعظيم الآثار لا يكون بالأبنية والكتابات والتأسي بالكفرة، وإنما تعظيم الآثار يكون باتِّباع أهلها في أعمالهم المجيدة وأخلاقهم الحميدة وجهادهم الصالح قولًا وعملًا ودعوةً وصبرًا، هكذا كان السلف الصالح يعظمون آثار سلفهم الصالحين، وأما تعظيم الآثار بالأبنية والزخارف ونحو ذلك فهو خلاف هدي السلف الصالح، وإنما ذلك سُنَّة اليهود والنصارى ومَن تشبه بهم، وهو من أعظم وسائل الشرك وعبادة الأنبياء والأولياء كما يشهد به الواقع وتدل عليه الأحاديث والآثار المعلومة في كتب السنة». انتهى كلامه رحمه الله.
***
أيها المؤمنون، ومن أشهر الآثار التي يعظمها بعض الناس غار حراء الذي بمكة، والذي كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يتعبد فيه قبل البعثة، فتعظيم هذا الغار من البدع والمحدثات التي لم تكن معروفة بعد بعثة النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا في عهد الخلفاء ومن بعدهم، قال ابنُ تيمية رحمـه الله تعالى: «فتَحَنُّثُه وتعبُّده بغار حراء كان قبل المبعث، ثم إنه لما أكرمه الله بنبوته ورسالته، وفرض على الخلق الإيمان به وطاعته واتِّباعه؛ أقام بمكة بضع عشرة سنة، هو ومن آمن به من المهاجرين الأولين الذين هم أفضل الخلق، ولم يذهب هو ولا أحد من أصحابه إلى حراء، ثم هاجر إلى المدينة واعتمر أربع عُمَر: عمرة الحديبـية التي صَدَّه فيها المشركون عن البـيت، ثم إنه اعتمر من العام القابل عُمرة القَضِـيَّـة، ودخل مكة هو وكثير من أصحابه، وأقاموا بها ثلاثًا، ثم لما فتح مكة أتى بعمرة من الـجِعرانة إلى مكة، ثم إنه اعتمر عمرته الرابعة مع حجة الوداع، وحج معه جماهير المسلمين لم يتخلف عن الحج معه إلا مَن شاء الله، وهو في ذلك كله لا هو ولا أحد من أصحابه يأتي غار حراء ولا يزوره، ولا شيئًا من البقاع التي حول مكة، ولم يكن هناك عبادة إلا بالمسجد الحرام، وبين الصفا والمروة، وبمنى والمزدلفة وعرفات، وصلى الظهر والعصر ببطنِ عُــرَنة، وضُربت له القُـبَّة يوم عرفة بنمِرة المجاورة لعرفة.
ثم بعده خلفاؤه الراشدين وغيرهم من السابقين الأولين، لم يكونوا يسيرون إلى غار حراء ونحوه للصلاة فيه والدعاء، وكذلك الغار المذكور في القرآن في قوله تعالى: ﴿إذ هُـما في الغار﴾، وهو غار بجبل ثَور يماني مكة؛ لم يَشرع لأمته السَّفر إليه وزيارته والصلاة فيه والدعاء، ولا بنى رسول الله )صلى الله عليه وسلم) بمكة مسجدًا غير المسجد الحرام، بل تلك المساجد كلها مُحدثة: مسجد الـمَولِد وغيره، ولا شرَع لأمته زيارة موضع المولِد ولا زيارة موضع بـيعة العقبة الذي خلف منى، وقد بُنِيَ هناك له مسجد، ومعلوم أنه لو كان هذا مشروعًا مستحبًّا يُثيب الله عليه- لكان النبـي )صلى الله عليه وسلم) أعلم الناس بذلك ولكان يُعلِّم أصحابه ذلك، وكان أصحابه أعلم بذلك وأرغب فيه ممن بعدهم، فلما لم يكونوا يلتفتون إلى شيء من ذلك عُلِم أنه من البدع المحدثة التي لم يكونوا يَعُدُّونها عبادة وقربة وطاعة، فمن جعلها عبادة وقربة وطاعة فقد اتَّبع غير سبـيلهم، وشرع من الدين ما لم يأذن به الله.
وإذا كان حكمُ مَــقام نبـينا )صلى الله عليه وسلم) في مثل غار حراء الذي ابتُدئ فيه بالإنباء والإرسال، وأُنـزل عليه فيه القرآن، مع أنه كان قبل الإسلام يتعبد فيه، وفي مثل الغار المذكور في القرآن الذي أنـزل الله فيه سكينته عليه؛ فمن المعلوم أن مقامات غيره من الأنبـياء أبعد عن أن يُشرع قصدها والسفر إليها لصلاة أو دعاء أو نحو ذلك إذا كانت صحيحة ثابتة، فكيف إذا عُلِم أنَّها كذب، أو لم يُعلم صحتها؟».
***
· عباد الله، وقال ابنُ القيم )رحمه الله): «بل غار حراء الذي ابتُدئ فيه بـنـزول الوحي، وكان يـتحراه قبل النبوة، لم يقصده هو ولا أحد من أصحابه بعد النبوة مدة مقامه بمكة، ولا خَصَّ اليوم الذي أُنـزل فيه الوحي بعبادة ولا غيرها، ولا خَصَّ المكان الذي ابتدئ فيه بالوحي ولا الزمان بشيء، ومن خَصَّ الأمكنة والأزمنة من عنده بعبادات لأجل هذا وأمثاله كان من جنس أهل الكتاب الذين جعلوا زمان أحوال المسيح مواسم وعبادات، كيوم الميلاد، ويوم التَّعميد، وغير ذلك مِن أحواله».
***
· وقال الشيخ محمد حامد الفقي )رحمه الله) في مسألة تعظيم الصَّخرات التي بجانب جبل عرفة:
«وليس للصَّخرات مَيزة على بقية سفح عرفة، وإنما وقف النبـي )صلى الله عليه وسلم) عندها لتكون علامة لمن يريد أن يَلقى النبـي )صلى الله عليه وسلم) في هذا اليوم لأمر يَعرض له، كما عرض لهم أن يسألوه عمَّن وقع عن ناقته فمات في هذا اليوم، والله أعلم».
***
· أيها المؤمنون، ومن الأماكن المشتهر تعظيمها الموضع الذي يقال إن النبي (صلى الله عليه وسلم) وُلِد فيه، وهذا الموضع وإن قُدِّر أنه ثابت فعلا فتعظيمه غير جائز، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يحث الأمة على ذلك، ولو كان خيرا لدلنا عليه في حديث صحيح، قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله في مقال له بعنوان:
الاحتفاظ بما يُظن أنه موضع مولد النبي )صلى الله عليه وسلم)
«الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فقد تكررت الكتابات في الصحف والتحدث في المنتديات ... عن المكان الذي يَزعم أنه موضع مولد الرسول )صلى الله عليه وسلم) بمكة المكرمة، وأنه يجب الاحتفاظ به وإبقاؤه محافظة على المناسبة الأثرية، ونقول:
1- لم يثبت بنصٍّ من القرآن والسنة مكان مولد النبي )صلى الله عليه وسلم) ولو كان في معرفته خير لنا لبيَّنه الله ورسوله.
2- لو ثبت موضع ولادة الرسول )صلى الله عليه وسلم) تاريخيًّا كما يدَّعي الشيخ أبو سليمان لم تُشرع لنا المحافظة عليه، لأن الرسول )صلى الله عليه وسلم) وأصحابه لم يحافظوا عليه ولم يَعتنوا به، إنما تجب العناية بسنته )صلى الله عليه وسلم) وسنة خلفائه، كما أوصى بذلك النبي )صلى الله عليه وسلم).
3- وتجب المحافظة على المشاعر التي تُؤدَّى فيها المناسك والعبادات، كالمسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفات.
وأما البيوت والممتلكات التي في مكة فهي ملك لأصحابها، يتبايعونها ويتوارثونها كسائر أموالهم، ولذلك لما سُئل النبي )صلى الله عليه وسلم) حينما قدم إلى مكة: أتنزل في دارك غدًا؟ قال )صلى الله عليه وسلم): «وهل ترك لنا عقيلٌ من رِباعٍ (أي منزل) أو دُور؟» رواه البخاري، ومسلم أي أن عقيل بن أبي طالب باعها لما هاجر النبي )صلى الله عليه وسلم) وتركها فيمن تركوا من ديارهم وأموالهم وهاجروا إلى المدينة، وإنما كان النبي )صلى الله عليه وسلم) يَـنزل في مكة إذا قدمها في أي مكان تيسَّر له النزول فيه، كما نزل في الأبطح وفي المعلاة.
4- الاحتفاظ بهذه الأماكن يُغري الجهال والمنحرفين بالتبرك بها وزيارتها، وقد يُظن أنها من جملة المشاعر.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه».
عضو اللجنة الدائمة للإفتاء، وعضو هيئة كبار العلماء
***
· عباد الله، وقد وردت أحاديث كثيرة ضعيفة أو موضوعة في فضيلة بعض الأماكن أو الصلاة عندها أو الرِّباط فيها مثل جدة وصخرة بيت المقدس وحمص ومرو واليمن ولبنان وبلاد أفريقيا ومصر وغيرها من الأماكن، وكل هذه الأحاديث لا تَثبت عن النبي )صلى الله عليه وسلم).
***
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
***
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنه قد دلَّت النصوص الشرعية والآثار السلفية على بدعية اتخاذ الأماكن التي مَرَّ بها الأنبـياء أو سكنوها أو أُوحي إليهم فيها- أماكن عبادة وصلاة، لأن النبـي )صلى الله عليه وسلم) لم يشرع ذلك، ولو كان ذلك مستحبًّا لأرشد أمته إليه صراحة، فإنه ما من خير إلا ودل أمته عليه ولا شر إلا وحَذَّرهم منه، كما قال أبو ذر )رضي الله عنه): «لقد تركَـنا محمد )صلى الله عليه وسلم) وما يُـحرك طائر جناحيه في السماء إلا أذكرنا منه علمًا» رواه أحمد.
***
وعليه فلا تُشرع زيارة المواضع التي لم يَشرع النبـي )صلى الله عليه وسلم) زيارتها، سواء التي في المدينة أو التي في مكة كغار حراء أو ما يطلق عليه بيت النبـي )صلى الله عليه وسلم)، أو بعض المواضع المنتشرة في أنحاء العالم الإسلامي في الشام أو غيرها، فكلها محدثة في الدين، وتتبعها من البدع الديــنيــة التي لا يُؤجر عليها الإنسان بل يُؤزر، والأفضل لمن سافر إلى مكة هو البقاء في الحرم المكي أو النبوي، والإكثار من النوافل والذِّكر وقراءة القرآن والطواف، فهذا هو الذي كان يفعله السلف ودل عليه الكتاب والسنة، والله أعلم.
***
ثم اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
المرفقات
1746099168_خطبة جمعة في التحذير من التعبد لله بزيارة الأماكن التي مر بها الأنبياء والصالحون لمجرد أنهم مروا بها.doc
1746099168_خطبة جمعة في التحذير من التعبد لله بزيارة الأماكن التي مر بها الأنبياء والصالحون لمجرد أنهم مروا بها.pdf