(2) فضل سورة الفاتحة
إبراهيم بن سلطان العريفان
الْـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي تَفَرَّدَ بِالْكَمَالِ وَالْجَلَالِ، وَتَقَدَّسَ عَنِ النَّقْصِ وَالْمِثَالِ، أَنْزَلَ كِتَابَهُ هُدًى وَنُورًا، وَجَعَلَ فِيهِ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَفَتَحَ أَبْوَابَ الرَّحْمَةِ بِسُورَةٍ هِيَ أُمُّ الْكِتَابِ، وَمِفْتَاحُ الْخِطَابِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، شهَادَةً تُنَجِّي قَائِلَهَا مِنَ الْعَذَابِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الْمَبْعُوثَ بِأَشْرَفِ كِتَابٍ، وَأَصْدَقِ خِطَابٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ.
فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِيَ الْمُقَصِّرَةَ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهَا وَصِيَّةُ اللَّهِ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ]وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ[.
عِبَادَ اللَّهِ .. نَحْنُ فِي سِلْسِلَةٍ مِنَ الْخُطَبِ عَنْ تَدَبُّرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، سُورَةٌ تُتْلَى فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَيُدْعَى بِهَا فِي كُلِّ دُعَاءٍ، سُورَةٌ عَظِيمَةٌ حَوَتْ مَقَاصِدَ الْقُرْآنِ كُلَّهُ، وَجَمَعَتْ أُصُولَ الدِّينِ وَأَرْكَانَهُ، سُورَةُ الْفَاتِحَةِ فَاتِحَةُ الْخَيْرِ، وَمِفْتَاحُ النُّورِ، وَبَابُ الْهُدَى. هٰذِهِ السُّورَةِ الَّتِي لَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ، فَهِيَ تَتَكَرَّرُ عَلَى أَلْسِنَتِنَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَمَعَ ذٰلِكَ، كَمْ مِنَّا يَقِفُ مَعَ مَعَانِيهَا وِقْفَاتٍ تَدَبُّرٍ وَتَأَمُّلٍ؟ وَكَمْ مِنَّا يَعْقِلُ مَا يَقُولُ؟
إِنَّ سُورَةَ الْفَاتِحَةِ هِيَ أَعْظَمُ سُوَرِ الْقُرْآنِ، بَلْ هِيَ أَعْظَمُ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ ]وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ[ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: السَّبْعُ الْمَثَانِي هِيَ الْفَاتِحَةُ. وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "لَأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ" ثُمَّ قَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ".
تَأَمَّلُوا كَيْفَ جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ السَّمَاءِ، وَمَعَهُ مَلَكٌ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَى الْأَرْضِ قَبْلَ ذٰلِكَ الْيَوْمِ، لِيُبَلِّغَ النَّبِيَّ ﷺ هٰذَا الْخَبَرَ الْعَظِيمَ، فَقَالَ لَهُ "أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ".
ثُمَّ تَأَمَّلُوا كَيْفَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَقَالَ: "لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" فَهِيَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إِلَّا بِهَا، وَهٰذَا يَدُلُّ عَلَى مَكَانَتِهَا وَعِظَمِ شَأْنِهَا.
أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ .. لَقَدْ سَمَّاهَا النَّبِيُّ ﷺ بِالرُّقْيَةِ، فَقَدْ رُقِيَ بِهَا اللَّدِيغُ فَشُفِيَ، وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ" كُلُّ هٰذَا يَدُلُّنَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ: أَنَّ هٰذِهِ السُّورَةَ الَّتِي نَحْفَظُهَا مُنْذُ الطُّفُولَةِ، تَسْتَحِقُّ مِنَّا تَدَبُّرًا وَتَمَعُّنًا، لَا مُجَرَّدَ قِرَاءَةٍ مُعْتَادَةٍ.
إِنَّهَا سُورَةٌ تَجْمَعُ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ كُلِّهِ، فِيهَا التَّوْحِيدُ بِأَنْوَاعِهِ: تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَفِيهَا الْإِقْرَارُ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. وَفِيهَا الدُّعَاءُ وَالتَّضَرُّعُ. وَفِيهَا ذِكْرُ طَرِيقِ الْهِدَايَةِ. وَذِكْرُ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ. وَالتَّحْذِيرُ مِنْ طَرِيقِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: جَمَعَ اللهُ عُلُومَ الْكُتُبِ كُلَّهَا فِي الْقُرْآنِ، ثُمَّ جَمَعَ عُلُومَ الْقُرْآنِ فِي الْمُفَصَّلِ، ثُمَّ جَمَعَ عِلْمَ الْمُفَصَّلِ فِي الْفَاتِحَةِ، ثُمَّ جَمَعَ عِلْمَ الْفَاتِحَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ]إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنَا فَهْمَهَا وَتَدَبُّرَهَا وَالْعَمَلَ بِهَا.
أَقُولُ قَوْلِي هٰذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلٰهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ:
يَا عِبَادَ اللهِ .. مِنْ أَعْظَمِ مَا جَاءَ فِي فَضْلِ هٰذِهِ السُّورَةِ، مَا جَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَال: " قالَ اللَّهُ تَعالَى: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، ولِعَبْدِي ما سَأَلَ، فإذا قالَ العَبْدُ ]الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ[ قالَ اللَّهُ تَعالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وإذا قالَ ]الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[ قالَ اللَّهُ تَعالَى: أثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وإذا قالَ ]مَالِكِ يَومِ الدِّينِ[ قالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، فإذا قالَ ]إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ[ قالَ: هذا بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي، ولِعَبْدِي ما سَأَلَ، فإذا قالَ ]اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عليهم غيرِ المَغْضُوبِ عليهم ولا الضَّالِّينَ[ قالَ: هذا لِعَبْدِي ولِعَبْدِي ما سَأَلَ".
فَتَأَمَّلُوا هٰذَا الْخِطَابَ الرَّبَّانِيَّ، هٰذَا الْقُرْبَ، هٰذَا التَّفَاعُلَ مِنَ اللهِ مَعَ عَبْدِهِ وَهُوَ يَقْرَأُ هٰذِهِ السُّورَةَ! فَهَلْ نُحْسِنُ تَدَبُّرَهَا؟ هَلْ نَعِيشُ مَعَ كُلِّ آيَةٍ كَمَا أَرَادَ اللهُ؟
عِبَادَ اللهِ .. احْرِصُوا عَلَى أَنْ تَكُونَ قِرَاءَتُكُمْ لِسُورَةِ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاتِكُمْ قِرَاءَةَ قَلْبٍ وَعَقْلٍ، لَا مُجَرَّدَ لِسَانٍ.
افْتَحُوا قُلُوبَكُمْ لَهَا، تَأَمَّلُوا مَعَانِيَهَا، وَاسْتَشْعِرُوا عَظَمَةَ اللهِ، وَرَجَاءَ رَحْمَتِهِ، وَطَلَبَ الْهِدَايَةِ مِنْهُ وَحْدَهُ. اللَّهُمَّ اجْعَلِ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قُلُوبِنَا، وَنُورَ صُدُورِنَا، وَجِلَاءَ أَحْزَانِنَا، وَذَهَابَ هُمُومِنَا وَغُمُومِنَا. اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَتَدَبَّرُ كِتَابَكَ وَيَعْمَلُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ. اللَّهُمَّ اجْعَلْ سُورَةَ الْفَاتِحَةِ شَاهِدَةً لَنَا، لَا عَلَيْنَا.
وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
المرفقات
1754533738_(2) فضل سورة الفاتحة.docx
1754533831_(2) فضل سورة الفاتحة.pdf