20-19 التحذير من خوف السر من صالحي الموتى ووصفهم بالربوبية
ماجد بن سليمان الرسي
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما).
أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
***
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أنه تعالى خلق الخلق ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا كما قال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾، وأرسل الرسل لذلك قال: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إلـٰه إلا أنا فاعبدون﴾، ونهى عباده عن أن يشركوا معه في عبادته أحدًا غيره فقال: ﴿ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين﴾، وبـين لنا أن الشرك أعظم الذنوب فقال: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما﴾.
***
أيها المؤمنون، تقدم في الخطب الماضية بيان بعض مظاهر الغلو في القبور المنتشرة في بعض بلاد المسلمين، واليوم نتكلم بما يسر الله عن مظهرين جديدين وهما مظهر خوف السر منهم ومظهر وصفهم بصفات الربوبية.
***
عباد الله، من مظاهر الغـلو في أصحاب القبور تعظيمهم إلى حدِّ الخوف من بطشهم وعقابهم، فقد بلغ الأمر ببعض المنتسبين للإسلام أن يخافوا من أصحاب الأضرحة كخوفهم من الله تعالى، ومن ذلك قول بعضهم إذا مَرَّ بجانب قبر (ولي): (اسـتر)، فهو يطلب الستر من غير الله، وهذا الخوف يعتبر شركًا أكبر، لأن الخوف خوفان:
خوف طبيعي، وهو الخوف من الأشياء الحسية الطبيعية، كالخوف من الأسد، ومن عدو كاسر كلصٍّ ونحوه، وهذا الخوف ليس بمذموم، لأنه من طبيعة البشر التي جَبَلهم الله عليها.
والنوع الثاني هو خوف السر، وهو اعتقادُ مخلوقٍ أن لمخلوقٍ مشيئةً وعِلمًا وتدبيرًا خفيًّا يُضاهي مشيئة الله وعلمه وتدبيره، فيخشاه كما يخشى الله، فيخشى أن يصيبه بمرض أو فقر ونحو ذلك، فهذا النوع من الخوف يسمى خوف السر، ومن وقع فيه فقد أشرك، لأن خوف السر عبادة لا يجوز صرفه إلا إلى الله وحده، فمن صرفه لغير الله فقد أشرك، قال تعالى (فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين).
والحق أن تدبير هذا الكون وتقدير ما فيه بيد الله وحده لا شريك له، ليس للعباد فيه تدبير أو تقدير أو مشيئة إلا ما مكَّنهم الله منه، فمن خاف من غير الله أن يُصيبه أو أولاده بمرض أو بموت ونحوه فقد صرف له حقًّا من حقوق الله، وجعل هذه العبادة القلبية الجليلة شِركة بين الله وبين خلقه.
ومع الأسف الشديد، فقد جُعِلت بعضُ الأضرحة الوثنية حَرَمًا آمنًا يُهرع إليها المجرمون والفارون، ويلجأ إليها الخائفون، ليأمنوا في رحابها، ويستريحوا في ظلالها، ولم يكن ليجرؤ أحد من الحكام في ذلك الزمن أن ينتهك حرمة ضريح لاذ به مجرم، أو عاذ به فارٌّ فيُلقي عليه القبض، مهما كان جرمه، ومهما بلغت جنايته، وكثيرًا ما عُفي عن اللائذين بالأضرحة من المجرمين إكرامًا للمدفونين، أو خشية ورهبة من انتقامهم وبأسهم([1]).
***
وقد ذكر ابنُ تيمية أن طائفة من أصحاب الكبائر كانوا إذا رأوا قُبة الميت أو الهلال الذي على رأس القبة خَشي من فعل الفواحش، ويقول أحدهم لصاحبه: (ويحك هذا هلال القبة)، فيخشون المدفون تحت الهلال، ولا يخشون الذي خلق السماوات والأرض.([2]) انتهى.
***
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
***
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن مِن أعظم وأقبح مظاهر تعظيم الصالحين اعتقاد أنهم يتصفون بشيء من صفات الربِّ، كتدبير أمور الكون من رزق وإحياء وإماتة وإعطاء ولد وغير ذلك، أو وصفهم بعلم الغيب، والحق أن هذه الأفعال خاصة بالله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: ﴿إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يُغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين)، والأمر يدخل فيه جميع أفعال الله التي تتعلق بتدبير الكون والتصرف فيه من خَلق ورزق وإحياء وإماتة، والتي يُـعَــبَّر عنها بالربوبية.
فمن جعل شيئًا من أفعال الله شِــركةً بين الله وبين خلقه- فقد كفر بربوبية الله على خلقه، وهو أقبح أنواع الشرك.
وقد خاطب الله بهذا نبيه )صلى الله عليه وسلم)، قال تعالى: ﴿ليس لك من الأمر شيء﴾، ومع هذا فإنك تجد أناسًا يقولون إن للأولياء الذين هم دون النبي (صلى الله عليه وسلم) في المنزلة قدرة على التصرف بالكون، خصوصًا بعد مماتهم!
***
كما أخبر الله تعالى بأنه المتفرد بعلم الغيب، قال الله تعالى (قل لا يعلم ما في السماوات والأرض الغيب إلا الله).
وأما السنة؛ فعن خالد بن ذكوان قال: قالت الرُّبـيِّع بنت مُعوِّذ: جاء النبيُّ r يدخل حين بُنِيَ عليَّ ، فجلسَ على فِراشي كمجلِسكَ[3] منّي ، فجَعَلتْ جُوَيْرِياتٌ[4] لنا يَضربنَ بالدُفِّ ويَندُبنَ[5] مَن قُتلَ من آبائي يومَ بدرٍ ، إذ قالت إحداهنَّ: وفينا نبيٌّ يَعلمُ ما في غَدِ.
فقال: دَعي هذِهِ ، وقولي بالذيِ كنتِ تقولين.[6]
وفي لفظ قال: أَمَّا هٰذَا فَلاَ تَقُولُوهُ، مَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلاَّ اللَّه.[7]
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي r مَرَّ بنساء من الأنصار في عُرسٍ لهن يُـغَـــنِّين:
وأهدَى لها كبشًا تَــنَــحْنَحَ[8] في الـمِربدِ[9] وزَوجُكُمُ في النادي[10] ويعلم ما في غدِ
فقال رسولُ الله r : لا يعلم ما في غدٍ إلا الله.[11]
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسولَ الله r قال: مفاتيحُ الغيب خمسٌ لا يعلمها إلاَّ الله: لا يَعلمُ ما في غَدٍ إلا الله، ولا يَعلمُ ما تَغِيضُ[12] الأرحامُ إلا الله، ولا يعلمُ متى يأتي الـــــــــــــــــــــمطرُ أحدٌ إلاّ الله، ولا تـدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموت، ولا يعلمُ متى تقومُ الساعة إلا الله.[13]
***
فالذين يُـخرِجون الرسول )صلى الله عليه وسلم) -أو مَن دونه مِن البشر مِـمَّن يوصفون بالأولياء- عن حَيِّز البشرية إلى حَيِّز الربوبية ويمنحونهم بعض خصائصها بدعوى تعظيمهم، ويخلعون عليهم بعض صفات الرب؛ ما هم إلا ضالُّون مشركون خارجون عن الإسلام، ساعُون في هدمه بدعوى تعظيم من جاء به، ومنهم السحرة والكهان والمنجمون، وما ذلك إلا لتشويه الإسلام، ومحاربته وهدم أعظم أُسسه، وإعادة للوثنية التي بُعث النبي )صلى الله عليه وسلم) بمحاربتها وهدمها والقضاء على جذورها في أعماق القلوب، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون([14]).
***
قال الشيخ عبد الرحمـٰن بن محمد بن قاسم )رحمه الله): «ثم أكثرهم قد تجاوز القنطرة وغرِق في بحار الشرك في الربوبية، مع ما هو فيه من الشرك في الألوهية، فادَّعى للأولياء والصالحين شِركةً في التدبير والتأثير، وشركةً في تدبير ما جاءت به المقادير، وأوحى إليهم إبليسُ اللعين أنَّ هذا من أحسن الاعتقاد في الصالحين، وأن هذا من كرامة أولياء الله المقربين، تعالى الله عما يقول الظالمون، وتقدَّس عما افتراه أعداؤه المشركون، وسبحان الله ربِّ العرش عما يصفون»([15]).
وقال أحد الباحثين في دراسة الانحرافات العقدية في بلاد المسلمين: «فمِن شِرك الربوبية ظهرَ واضحًا اعتقاد القبوريين في الأضرحة وأصحابها أنهم يسمعون ويبصرون ويُجيبون مَن يتوجه إليهم، وأنهم يعلمون الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وأن لهم قدرة في التصرف والتأثير في الكون بما ليس في طاقة البشر، كالخلق والإفناء، والإحياء والإماتة، وشفاء الأمراض، والنفع والضر، والعطاء والمنع، والإغناء والإفقار، وتحويل الأشياء عن حقيقتها. كما زعم القبوريون أن في الأضرحة وأصحابها القدرة على الرفع والوضع في الدنيا والآخرة، وتفريج الكربات، وقضاء الحاجات، ومحو الذنوب وغفرانه»([16]).
***
ثم اعلموا رحمكم الله أنه قد انتشر عند أهل الغلو في الأشخاص -لا سِيَّما الصوفية- أن هناك أشخاصًا على هذه الأرض لهم خصوصية تأثير في الكون، يُسمَّون بـ(الأبدال والنقباء والنجباء والأوتاد والأقطاب والغوث)، وهذا كله من الخرافات والأوهام،
وقد تكلم ابن تيمية رحمه الله في بيان بطلان هذه المصطلحات الوثنية، وفند الشبهات المتعلقة بها، فليرجع إليها من أراد التفصيل.([17])
***
ثم اعلموا رحمكم الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
أعد الخطبة: ماجد بن سليمان، واتس: 00966505906761
([1]) انظر «الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الرابع عشر والخامس عشر» لبخيت الزهراني ص (339).
([2]) انظر «الاستغاثة في الرد على البكري» (2/469).
[3] لم يأتِ في الحديث بيان من هو المخاطَب، والظاهر أنه خالد بن ذكوان، راوي الحديث عن الرُّبَيِّع، رضي الله عنها.
[4] الجويرية تصغير جارية، والمقصود بنيات صغيرات.
[5] الندب هو عَدُّ خصال الميت ومحاسنه.
[6] قال ابن حجر رحمه الله: فيه إشارة إلى جواز سماع المدح والمرثية مما ليس فيه مبالغة تفضي إلى الغلو.
[7] رواه ابن ماجه (1897)، وصححه الألباني رحمه الله، وأصله في البخاري (5147).
[8] تنحنح أي تردَّد صوته في جوفه. انظر «المعجم الوسيط».
[9] المربد هو الموضع الذي تحبس فيه الغنم والإبل. انظر «النهاية».
[10] النادي هو مجتمع القوم وأهل المجلس. انظر «النهاية».
[11] أخرجه الطبراني في «الأوسط» (3401)، وحسن إسناده ابن حجر في «الفتح» تحت حديث رقم (5147).
[12] الغيض هو النقص، والمقصود هو أن الله متفرد بعلم ما نقص من حمل المرأة عن تسعة أشهر، وهو يعلم كذلك كم يزيد حملها عن تسعة أشهر إن حملت، قال تعالى ]الله يعلم ما تحمل كل أثنى وما تغيض الأرحام وما تزداد[، انظر تفسير الآية في «تفسير القرآن العظيم» لعماد الدين ابن كثير رحمه الله، سورة الرعد.
[13] أخرجه البخاري (4797).
([14]) انظر «أوضح الإشارة في الرد على من أجاز الممنوع من الزيارة» (ص305- 306)، للشيخ أحمد النجمي، بتصرف يسير.
([15]) «السيف المسلول على عابد الرسول» (ص 200).
([16]) من مقال: «أفيون الشعوب الإسلامية، النتائج والآثار»، خالد أبو الفتوح، نقلًا من (ص 61) من «دمعة على التوحيد».
([17]) انظر «الفرقان بين أولياء الرحمـٰن وأولياء الشيطان» (ص70- 74)، وانظر «مجموع الفتاوى» (27/96)، ثم استطرد كعادته في بيان بطلان هذا المصطلح في نحو عشر ورقات، فانظرها فإنها مفيدة.
المرفقات
1746687876_خطبة جمعة في التحذير من خوف السر من الموتى من الصالحين ووصفهم بصفات الربوبية.doc
1746687876_خطبة جمعة في التحذير من خوف السر من الموتى من الصالحين ووصفهم بصفات الربوبية.pdf