21- التبرك المشروع والتبرك الممنوع - جزء 1 من 2

ماجد بن سليمان الرسي
1446/11/17 - 2025/05/15 12:54PM

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون).

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما).

أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

***

أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أنه تعالى خلق الخلق ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا كما قال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾، وأرسل الرسل لذلك قال: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إلـٰه إلا أنا فاعبدون﴾، ونهى عباده عن أن يشركوا معه في عبادته أحدًا غيره فقال: ﴿ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين﴾، وبـين لنا أن الشرك أعظم الذنوب فقال: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما﴾.

***

أيها المؤمنون، تقدم في الخطب الماضية بيان بعض مظاهر الغلو في القبور المنتشرة في بعض بلاد المسلمين، واليوم نتكلم بما يسر الله عن مظهر التبرك بالصالحين.

***

عباد الله، البركة هي كثرة الخير وثبوته في الشيء، يقال: رجل مبارك أي كثير الخير والنفع للآخرين، والقرآن وصفه الله بأنه مبارك لكثرة خيره ومنافعه واستقرار ذلك الخير فيه، فكأن الخير قد برك فيه.

والتبرك هو طلب البركة والتماسها، ومصدر البركة هو الله وحده لا شريك له، فهو خالقها وواهبها سبحانه، فكما أن الرزق والنصر والعافية من الله وحده وهو خالقها وواهبها؛ فكذلك البركة، واهبها هو الله وحده، وقد قرر النبـي )صلى الله عليه وسلم) ذلك في أحد أسفاره حتى لا يظن الناس أن النبي )صلى الله عليه وسلم) هو الذي يأتي بالبركة، فعن سالم بن أبي الجعد عن جابر )رضي الله عنه)، «أنَّ الماء قلَّ ذات يومٍ عند المسلمين، فقال النبـي )صلى الله عليه وسلم): «اطلبوا فضلةً من ماء»، أي بقية من ماء قليلة، فجاءوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء ثم قال: «حيَّ على الطَّهُور المبارك، والبركة من الله»([1]).»، فلقد رأيتُ الماء ينبُعُ من بـين أصابع رسول الله )صلى الله عليه وسلم). فقوله: «والبركة من الله» هو الشاهد من الحديث.

فإذا تقرر عندنا أن البركة من الله وحده؛ فبناء عليه فإن طلب البركة والتماسها من غير الله يعتبر شركًا في الدعاء، سواء كان ذلك المطلوب منه حيًّا أو ميتًا، نبيًّا أو رجلًا صالحًا أو دون ذلك، كائنًا حيًّا أو جمادًا، بل المشروع هو طلب البركة من الله وحده.

***

أيها المؤمنون، والتبرك منه ما هو مشروع في الشريعة الإسلامية ومنه ما هو ممنوع.

والتبرك المشروع يكون في خمسة أشياء: في الأقوال والأفعال والأمكنة والأزمنة والذوات.

فالتبرك الشرعي بالأقوال كذكر الله وقراءة القرآن والدعاء، وبركة ذلك تكون بما جعل الله في ذِكره ودعائه من الأجر والشفاء من الأمراض الحِسيَّة والمَعنوية والحصن من الشيطان وحصول المنافع الدينية والدنيوية، وغير ذلك من منافع الذِّكر([2]).

والتبرك بالأفعال كصلاة الجماعة والحج والجهاد وطلب العلم ونحو ذلك، وبَركته تحصل بما يترتب على القيام بذلك الفعل من الأجر والمثوبة وغفران الذنوب وعبادة الله على بصيرة.

والتبرك بالأمكنة يكون بما خص بعض الأماكن بمزيد بركة، كالمساجد عمومًا، والمساجد الثلاثة خصوصًا، وبركتها تكون بما جعل الله في الصلاة فيها من الأجر وإجابة الدعاء.

ومِن الأمكنة المباركة أيضًا مكة التي قال الرسول )صلى الله عليه وسلم) فيها: «واللهِ إنَّك لخير أرض الله وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت»([3]).

وبركتها تحصل بما يكون للعابد فيها من مضاعفة الأجر والثواب، فإنَّ الصلاة فيها خير من مائة ألف صلاة فيما سواها من المساجد.

ومن الأمكنة المباركة أيضًا المدينة النبوية، فإنَّ الله قد خَصَّها بمزيد بركة، فعن سفيان بن أبـي زهير )رضي الله عنه) أنه قال سمعت رسول الله )صلى الله عليه وسلم) يقول: «تُـفتح اليمن، فيأتي قوم يَبُـسُّـون (أي: يزينون للناس الخروج من المدينة)، فيتحمَّلون([4]) بأهليهم ومَن أطاعهم (أي: يحملون أهلهم ومتاعهم ويَرحلون)، والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون.

وتُـفتح الشام، فيأتي قوم يَبُـسُّـون، فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون.

وتُـفتح العراق فيأتي قوم يَبُـسُّـون، فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون»([5]).

ومن الأمكنة المباركة أيضًا الشام، فقد قال النبي )صلى الله عليه وسلم): «طُوبى للشام». قيل: ولِمَ ذلك يا رسول الله؟ قال: «لأن ملائكةَ الرحمـٰن باسطةٌ أجنحتها عليه»([6]).

ويدل لبركة الشام أيضًا قوله تعالى: ﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله﴾، والشام هو ما حول الأقصى.

فمن سكن المدينة أو مكة أو الشام ملتمسًا ما جعل الله في تلك البقاع من كثرة الأرزاق أو دفع الفتـن فإنه يُرجى له حصولُ مطلوبه، وهذه هي صفة التبرك الشَّرعي بتلك الأماكن.

***

أيها المسلمون، ومن التبرك بالأمكنة ما هو بدعيٌّ بل شركي، كالتبرك بالقبور وجدران البناء المبني عليها ونوافذه ونحو ذلك، وهذا منكر عظيم، إذ إن العكوف عند القبور والتمسح بها وتقبـيلها والدعاء عندها وفيها ونحو ذلك هو أصل الشرك وعبادة الأوثان ولهذا قال النبـي )صلى الله عليه وسلم): «اللهم لا تَجعل قبـري وثنًا، لعن الله قومًا اتَّخذوا قبور أنبـيائهم مساجد»([7]).

ولو كان التبرك بها من الخير لأرشد إلى ذلك النبـيُّ )صلى الله عليه وسلم)، الذي هو أنصح الخلق للخلق، ولفعله الصحابة في قبـره )صلى الله عليه وسلم)، ولكن الذي نجده هو إجماع الصحابة على بدعية ذلك كما سيأتي بيانه قريبًا إن شاء الله.

***

عباد الله، والتبرك يكون بالأزمنة التي دلَّ الشارع الحكيم على حصول البركة فيها، كرمضان والعَشر من ذي الحِجَّة ويوم عاشوراء، والتبرك بها يكون بعمل القُربات التي حثَّ الله على التقرب إليه فيها، من صيام وقراءة قرآن وصلاة وصدقة ونحو ذلك، لما يترتب على ذلك من أجر عظيم.

***

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

***

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن التبرك يكون بالذوات، أي الأشخاص، وهذا خاصٌّ بالنبي )صلى الله عليه وسلم)، ومنه ما هو مشروع ومنه ما هو ممنوع، فأمَّا المشروع فهو التبرك بخصوص ما اتَّصل بجسد النبي )صلى الله عليه وسلم) في حياته، وهو رِيقه ونُخامته وفَضل وَضوئه وعَرقه وشَعره وفضل طعامه، فكل ذلك قد جعل الله فيه البركة، فيجوز التبرك به على النحو الذي سيأتي بيانه، وكذلك يجوز الاستشفاء به.

وأما التبرك بما سوى ذلك من متاع النبي )صلى الله عليه وسلم) كجدران غرفته ونحو ذلك فهذا بدعة، وكذلك التبرك بغيره من الأشخاص فهو تبرك بدعي، لأنه لم يرد التبرك إلا في حقِّ النبي )صلى الله عليه وسلم)، وفي خصوص ما اتصل بجسده الشريف، وأمَّا ما سواه من الناس فلم يَرِد فيهم خصوصية بركة في ذواتهم، سواء كانوا من الصحابة أو ممن هو دونهم، فيكون التبرك بهم من البدع التي يجب تجنُّبها.

·  وعودًا على بدء، فمِن أنواع التبرك بذات النبي )صلى الله عليه وسلم) التبرك بريقه الشَّريف، ودليل ذلك «أن عليًّا )رضي الله عنه) اشتكى عينه، فدعاه النبـيُّ )صلى الله عليه وسلم) فبَصق في عينه فبَرِئت بإذن الله»([8]).

· ومن أنواع التبرك بذات النبي )صلى الله عليه وسلم) التبرك بِعَرَقِه، ودليله ما جاء في «صحيح البخاري» عن أنس أنَّ أم سليم كانت تَبسُط للنبـي )صلى الله عليه وسلم) نِــطْعًا (وهو جلد) فيقِيل عندها (أي ينام عندها القيلولة) على ذلك النِّطع، قال: فإذا نام النبـي )صلى الله عليه وسلم) أَخَذْتُ مِن عَرقه وشعره فجمعته في قارورة ثم جمعته في سَكٍّ (وهو طِيبٌ مُرَكَّب يُضاف إلى غيره)([9]) وهو نائم، قال: فلما حضر بأنس بن مالك الوفاة أوصى إلى أن يُـجعل في حَـنُوطه([10]) من ذلك السَّكِّ، قال: فجُعِل في حَنوطه([11]). والحَـنُوط: شيء من الطِّيب، تُـطَيَّب به أكفان الموتى وأجسادهم.

·    ومن أنواع التبرك بذات النبي )صلى الله عليه وسلم) التبرك بنُخامته وفضل وضوئه، ودليله ما جاء في قصة صلح الحديبـية عن المِسور بن مَخرمة ومروان قالا: «فوالله ما تَـنَخَّم رسولُ الله )صلى الله عليه وسلم) نُخامة إلا وقعت في كفِّ رجل منهم، فَدَلَك بها وجهه وجِلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يَقتــتلون على وَضوئه»([12]).

·    ومن أنواع التبرك بذات النبي )صلى الله عليه وسلم) التبرك بـيده الشريفة، ودليل ذلك «أن النبـي )صلى الله عليه وسلم) كان يَنفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات، فلما ثَقُل كانت عائشة تَـنفث عنه في يده ثم تمسح بها على نفسه لِبَركتها»([13]).

ولما كانت يدُ النبي )صلى الله عليه وسلم) مباركة؛ فقد كان الصحابة يَتبركون بفضل طعامه لكونه اتَّصل بيده الشريفة، فمن ذلك أن أبا أيوب الأنصاري )رضي الله عنه) كان يَتــتبع أثرَ أصابع النبـي )صلى الله عليه وسلم) في الإناء ويأكل منها، فعنه )رضي الله عنه) قال: «يا رسول الله، كنتَ تُرسل إليَّ بالطعام فأَنظُر، فإذا رأيتُ أثرَ أصابعك وضعتُ يدي فيه»([14]).

فهذه مظاهر خمسة من مظاهر التبرك الشرعي بما اتصل بجسم النبي )صلى الله عليه وسلم) الشريف، ولكن هذه المظاهر قد توقف العمل بها بموته )صلى الله عليه وسلم)، لكون تلك الآثار قد اضمحَلَّت.

***

ثم اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

أعد الخطبة: ماجد بن سليمان، واتس: 00966505906761



([1]) رواه البخاري (3579) عن جابر )رضي الله عنه)، ورواه الترمذي (3633)، والنسائي (77)، وأحمد (1/460)، والدارمي في (المقدمة)، باب (ما أكــــــــــرم الله النبي )صلى الله عليه وسلم) من تفجير الماء من بين أصابعه)، عن عبد الله بن عمر )رضي الله عنهما).
([2]) وقد ذكر العلامة ابن القيم في كتابه: «الوابل الصيب من الكلم الطيب» أنَّ للذِّكر أكثر من مائة فائدة، وذكر منها ثمانيا وسبعين، فليراجعها من أراد الفائدة.
([3]) رواه الترمذي (3925) واللفظ له، وابن ماجه (3108)، وأحمد (4/305) عن عبد الله بن عدي (رضي الله عنه)، وصححه الألباني في «صحيح الترمذي».
([4]) أي: يحملون أهلهم ومتاعهم ويَرحلون.
([5]) رواه البخاري (1875)، ومسلم (1388).
([6]) رواه أحمد (5/185)، وصححه الألباني )رحمه الله) في «صحيح الجامع» (3920)، من حديث زيد بن ثابت )رضي الله عنه).
([7]) «مجموع الفتاوى» (27/79).
([8]) انظر «صحيح البخاري» (4210) ومسلم (2406) عن سهل بن سعد )رضي الله عنه).
([9]) انظر  «النهاية».
([10]) انظر  «النهاية».
([11]) رواه البخاري (6281).
([12]) رواه البخاري (2734).
([13]) وقد جاء ذلك في «صحيح البخاري» (5735)، ومسلم (2192).
([14]) رواه مسلم (2053)، وأحمد (5/420) واللفظ له.

المرفقات

1747302889_التبرك المشروع والتبرك الممنوع - جزء 1 من 2.doc

1747302891_التبرك المشروع والتبرك الممنوع - جزء 1 من 2.pdf

المشاهدات 102 | التعليقات 0