24- زيارة القبور الشرعية والشركية
ماجد بن سليمان الرسي
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما).
أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
***
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أنه تعالى خلق الخلق ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا كما قال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾، وأرسل الرسل لذلك قال: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إلـٰه إلا أنا فاعبدون﴾، ونهى عباده عن أن يشركوا معه في عبادته أحدًا غيره فقال: ﴿ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين﴾، وبـين لنا أن الشرك أعظم الذنوب فقال: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما﴾.
***
أيها المؤمنون، تقدم في الخطب الماضية بيان بعض مظاهر إهانة القبور، والتي يجب تجنبها، واليوم نتكلم بما يسر الله عن نوعي زيارة القبور الشرعية والشركية.
***
عباد الله، شرع النبي )صلى الله عليه وسلم) لأمته زيارة القبور لقصد العبرة والاتعاظ وتذكر الموت، ومما يشرع أيضًا السلام على الموتى والدعاء لهم عند دخول المقبرة، فعن أبـي هريرة )رضي الله عنه) قال: قال رسول الله )صلى الله عليه وسلم): «زُوروا القبورَ، فإنَّها تُذَكِّر الموت»([1]).
وعن أبـي سعيد )رضي الله عنه) قال: قال رسول الله )صلى الله عليه وسلم): «إنِّي نَهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنَّ فيها عبرة»([2]).
وعن ابن بُريدة عن أبيه قال: قال رسول الله )صلى الله عليه وسلم): «نهيتُكم عن زيارة القبور فزوروها»([3]).
ولفظ النسائي: «ونهيتكم عن زيارة القبور، فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هُجرًا»، ومعنى هجرا أي فحشا، وقد كانت العرب في الجاهلية تتسخط على أقدار الله عند المصيبة، وكانوا يقولون هجرًا كقولهم: يا خيبة الدهر.
فالحاصل أن المقصود من زيارة القبور أمران: الأول تذكر الآخرة، والثاني الدعاء للميت، بالترحم عليه والاستغفار له وسؤال الله العافية له، فمن زاد أو غيَّر في الحكمة من هذا التشريع فقد أحدث في دين الله ما ليس منه، وعمله مردود عليه ليس بمقبول، لقول النبـي )صلى الله عليه وسلم): «مَن عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ».
قال الشيخ أحمد الرومي الحنفي([4]) في كتابه «المجالس الأربعة من مجالس الأبرار»:
«فعلى هذا فيَنبغي على كل مَن يريد أن يزور القبور من الرجال أن لا يكون حظه من زيارته لها الطَّواف عليها كالبهائم، بل ينبغي له إذا جاءها أن يُسَلِّم على أهلها، ويسأل الله الرحمة والمغفرة والعافية، ثم يَعتبر ممن كان تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب، وأنه حين دخل القبر ابتُـلي بالسؤال، هل أصاب في الجواب وكان قبره روضة من رياض الجنة، أو أخطأ الجواب وكان قبره حفرة من حفر النار؟
ثم يجعل نفسه كأنه مات ودخل القبر وذهب عنه ماله وأهله وأولاده ومعارفه، وبقي وحيدًا فريدًا، وهو الآن يُسأل فماذا يُجيب؟ وماذا يكون حاله؟ ويكون مشغولًا بهذا الاعتبار ما دام هناك، ويتعلق بمولاه في الخلاص من هذه الأمور الخطيرة العظيمة، ويلجأ إليه»([5]).
ثم قال: «وأمَّا الزيارة البدعية فهي زيارة القبور لأجل الصلاة عندها، والطَّواف بها، وتقبيلها واستلامها وتعفير الخدود عليها، وأخذِ ترابها، ودعاءِ أصحابها والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية والولد، وقضاء الدَّيْن وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفان، وغير ذلك من الحاجات التي كان عبَّاد الأصنام يسألونها من أصنامهم، فإنَّ أصلَ هذه الزيارة البدعية الشركية مأخوذ منهم، وليس شيء من ذلك مشروعًا باتفاق علماء المسلمين، إذ لم يفعله رسولُ ربِّ العالمين، ولا أحد من الصَّحابة والتّابعين وسائر أئمة الدَّين، بل قد أنكر الصحابة ما هو دون ذلك بكثير.
ولقد جرَّد السّلف الصالح التوحيد وحَموا جانبه، حتى كانت الصحابة والتابعون حين كانت الحُجرة النبوية منفصلة عن المسجد زمن الوليد بن عبد الملك لا يدخل فيها أحد، لا لصلاة ولا لدعاء ولا لشيء آخر مما هو من جنس العبادة، بل كانوا يفعلون جميع ذلك في المسجد، وكان أحدهم إذا سَلَّم على النبي )صلى الله عليه وسلم) وأراد الدعاء استقبل القبلة وجعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا، وهذا مما لا نزاع فيه بين العلماء، وإنَّما نزاعهم في وقت السلام عليه.
قال أبو حنيفة: يستقبل القبلة عند السَّلام أيضًا، ولا يَستقبل القبر.
وقال غيره: لا يستقبل القبر عند الدعاء، بل قالوا إنه يستقبل القبلة وقت الدعاء، ولا يستقبل القبر حتى لا يكون الدعاء عند القبر، فإن الدعاء عبادة، كما ثبت بالحديث المرفوع: «الدُّعاء هو العبادة».
والسلف الصالح من الصحابة والتابعين جعلوا العبادة خالصة لله تعالى، ولم يفعلوا عند القبور شيئًا منها إلا ما أَذن فيه النبي )صلى الله عليه وسلم)، مِن السلام على أصحابها، وسؤال الرحمة والـمغفرة والعافية مِن الله لهم، وسبب ذلك أن الميت قد انقطع عمله وهو يحتاج إلى مَن يدعو له ويشفع لأجله، ولهذا شُرع في الصلاة عليه من الدعاء له -وجوبًا أو ندبًا- ما لم يُشرع مثله في الدعاء للحي، فإنا لما كنا إذا قمنا إلى جنازة ندعو له ونشفع لأجله، فبعد الدفن أولى أن ندعو له ونشفع، لأنه في قبره بعد الدفن أشدُّ احتياجًا إلى الدعاء له منه على نعشه، لأنه حينئذ مُعرض للسؤال وغيره، على ما روي عن عثمان بن عفان، أنه )صلى الله عليه وسلم) كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنَّه الآن يُسأل»([6]).
فهذه سنة رسول الله )صلى الله عليه وسلم) في أهل القبور بضعًا وعشرين سَنة، وهذه سنة الخلفاء الراشدين وطريقة جميع الصحابة والتابعين، فبدَّل أهل البدع والضلال قولًا غير الذي قيل لهم، فإنهم قصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله )صلى الله عليه وسلم) -إحسانًا إلى الميت وإلى الزائر- سؤالَـهم للميت والاستعانة به، وليس هذا إلا الفتنة التي قال فيها عبد الله بن مسعود: «كيف إذا لبستكم فتنة يَهرم فيها الكبير، وينشأ فيها الصغير، تجري على الناس يتخذونها سُــنَّة، إذا غُـيِّـرت قيل غُـيِّـرت السنةُ»».
انتهى كلام الشيخ أحمد الرومي )رحمه الله)([7]).
***
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
***
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا رحمكم الله أنه يمكن مما سبق أن نـخلُص بأن زيارة القبور تنقسم إلى ثلاثة أنواع: شرعية وبدعية وشركية.
فأما الشرعية فهي التي يَقصد بها صاحبها ما قصده النبي )صلى الله عليه وسلم) وصحابته من زيارة القبور؛ تذكُّر الآخرة والدعاء للميت.
وأما الزيارة الشركية فهي التي يقصد بها صاحبها التقرب لذلك الميت؛ بدعائه وطلب الحوائج منه، أو الذبح له، أو النذر له، أو الطواف بقبره، أو السجود لقبره.
والزيارة البدعية هي التي يَقصد بها فعل أمور مبتدعة لم يَرِد بها الشرع، ولكنها لا تُخرج الإنسان من دين الإسلام، كدعاء الله عندها وقراءة القرآن، ظنًّا أن هذا له مزية وفضل، فمن عمل هذا فعمله بدعة، وعبادته مردودة عليه، لأنه فعلها على خلاف الهدي النبوي، فالنبي لم يقل إن العبادات عند القبور لها مزية وفضل، وقد قال )صلى الله عليه وسلم): «مَن عمل عملًا ليس عليها أمرنا فهو رد».
***
ثم اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
أعد الخطبة: ماجد بن سليمان، واتس: 00966505906761
([1]) رواه مسلم (976).
([2]) رواه أحمد (3/38)، وصححه محققو «المسند» (17/429).
([3]) رواه مسلم (977) واللفظ له، والترمذي (1054)، ورواه أحمد (3/63) عن أبي سعيد الخدري )رضي الله عنه).
([4]) هو أحمد بن محمد الأقحصاري الحنفي، ويعرف بالرومي، من علماء الدولة العثمانية، له تصانيف واشتغال بعلوم الشريعة، توفي سنة 1043هـ. انظر ترجمته موسعة في «هدية العارفين» (1/157)، ط دار الكتب العلمية، سنة 1413هـ.
([5]) (ص 56- 57)، باختصار وتصرف يسير.
([6]) رواه أبو داود (3221)، وصححه الألباني.
([7]) (ص 59- 63)، باختصار، وقد استفاد )رحمه الله) جزءًا من كلامه المنقول من كتاب «إغاثة اللهفان» لابن القيم )رحمه الله)، فرحم الله علماء أهل السنة، يَغرف بعضهم من إناء بعض.
المرفقات
1750315663_خطبة جمعة في زيارة القبور الشرعية والشركية.doc
1750315664_خطبة جمعة في زيارة القبور الشرعية والشركية.pdf