26- روافد الفكر القبوري (جزء 1 من 4)

ماجد بن سليمان الرسي
1447/01/16 - 2025/07/11 10:07AM

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أنه تعالى خلق الخلق ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا كما قال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾، وأرسل الرسل لذلك قال: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إلـٰه إلا أنا فاعبدون﴾، ونهى عباده عن أن يشركوا معه في عبادته أحدًا غيره فقال: ﴿ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين﴾، وبـين لنا أن الشرك أعظم الذنوب فقال: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما﴾.

***

أيها المؤمنون، تقدم في الخطب الماضية بيان بعض مظاهر إهانة القبور، والتي يجب العلم بها، واليوم نتكلم بما يسر الله عن أسباب بقاء وانتشار الفكر القبوري في الأمة الإسلامية.

***

 عباد الله، لقد نَــخــرَ الفِـكر القبوري في جسد الأمة الإسلامية لعدة قرون، وقد كان لهذا الـنَّــخر أحد عشر رافدًا، أولها:

1. الانتفاع المادي من قِبل سدنة القبور –وهم خُدامها والمُتَوَلُّون أمورها- وأهل البلد التي فيها قبور معظمة، وكذا خِزانات بعض الدول!

أما السدنة، فإن عوائد القبور عليهم تعتبر مصدرا أساسيا للرزق عندهم، فالألوف من سدنة القبور تُصرف لهم إعانات مادية من وزارات الأوقاف والشئون الاجتماعية كما يُصرف لغيرهم من أصحاب الوظائف الدينية كالقضاة والمدرسين وأئمة المساجد.

وهناك موارد أخرى غير رسمية تدخل عليهم من وراء رعايتهم وخدمتهم للقبور، فالنذور والصدقات التي تُدفع لتلك القبور من قِبل زُوَّارها الذين يأتونها من كل فج تعتبر دافعًا هامًّا من دوافع استمرار السدنة في تلك الوظائف، ناهيك عن الذبائح والأنعام التي تُساق إلى هناك، وصدق الشاعر الكبير حافظ إبراهيم (رحمه الله) حين قال:

أحياؤنا لا يُرزقون بدرهمٍ


 
وبألفِ ألفٍ يُرزق الأمواتُ


مَن لي بحظِّ النائمين بحفرةٍ


 
قامت على أحجارها الصَّلَواتُ


أما عند تغيير كسوة الضريح وعِمامة الولي- مثلًا-، فالسَّدنة يقومون بعملية تجارية غير رسمية، فإنهم يمزقون الكسوة والعمامة القديمتين إلى قُصاصات صغيرة، ثم يبيعون هذه القصاصات نظير مبالغ كبيرة.

ولستُ بمفشٍ سرًّا إن قلت إن بعض سدنة القبور من أغنى الناس في تلك البلاد([1]).

عباد الله، هذا التحصيل للأموال من قِبَل السدنة يكون في سائر أيام السنة، أما في أيام الموالد التي تقام تكريمًا لأصحاب تلك القبور والأضرحة فلا تسأل عن استفادة أهل تلك البلد –من غير السدنة- من الحركة التجارية التي ليس لها نظير في موسم المولد، فالمطاعم والمقاهي تَستقبل رُوَّادها على مدار الساعة، ومَبيعات البخور والعطور –المستعمل لتطييب الضريح- يَصل إلى أعلى معدلاته، وكذا غيرُهم من التجار يستفيدون بما يدخل عليهم من ريع الإيجارات وبيع السلع للزوار والسُّياح (والحُجَّاج)، حتى إن بعض التجار يُعلقون أداء ديونهم على موسم المولد!

بل إن صناديق النذور والأوقاف التي تُـوقف على تلك القبور تعتبر أحد الموارد الاقتصادية لبعض الدول التي فيها جمعٌ من تلك الأضرحة.

2. أيها المسلمون، ومن عوامل بقاء الفكر القبوري العامل الثاني وهو الانتفاع المعنوي المتمثل بالوَجاهة (والشرف) اللذين يتمتع بهما القائمون على قبور (الأولياء) من السدنة ونحوهم، فخادم الضريح له مكانة ووجاهة بما (تشرَّف) به من خدمة الضريح، وبما انتقل إليه من بركة صاحب الضريح بسبب مجاورته لذاك الميت (ورضاه) عنه، بل ربما تَمَسَّح بذلك الخادم بعض الزوار (لنيل البركة).

ومن العجائب أن وجود الأضرحة في بعض المجتمعات ربما كان سببًا للفخر على مستوى البلد، فأهل البلد التي فيها قبور ربما افتخروا بكثرة قبور (الأولياء) عندهم على من ليس عندهم قبور أو أقل منهم.

والحق أن وجود قبور الصالحين في بلد ما لا يُعدُّ مفخرة في دين الإسلام، ولو كان الأمر كذلك لافتخر الصحابة في المدينة على مَن هم بخارجها بوجود القبر النبوي فيها وقبور الصحابة والتابعين وشهداء أُحُد التي تُـعد بالألوف، ولكن لم يكن من ذلك شيء، بل إنهم لم يتعرضوا للقبر النبوي ولا غيره من القبور بشيء إطلاقًا، لا خدمة ولا كسوة ولا غير ذلك، مع كونهم هم أعرف الناس بحقوق النبي (صلى الله عليه وسلم) وحقوق الصحابة، وهم أفضل الأمة إلى قيام الساعة.

3. أيها المؤمنون، ومن عوامل بقاء الفكر القبوري العامل الثالث وهو تعظيم بعض الحُكَّام للقبور، ولا يخفى ما لِولاة الأمر من صلاحية ونفوذ لنصرة الحق أو الباطل إلا ما شاء الله، ومِن أولئك الحكام الذين عَظَّموا القبور وشَيَّدوها عبيد الله بن السري بن الحكم، والي الأمويين على مصر، فإنه أول من بنى ضريحًا على قبر السيدة نفيسة بالقاهرة([2]).

وأما السلطان قلاوون الصالحي فهو أول مَن أنشأ قبة على قبر النبي (صلى الله عليه وسلم)، وكان ذلك في سنة 678هـ([3]).

أما الدولة العثمانية، فقد فاقت مَصْرُوفاتها على ضريح الجيلاني في السنة الواحدة ما كانت تصرفه على الحرمين الشريفين أضعافًا مضاعفة([4]).

والعثمانيون -كما هو معلوم- اعتنقوا الإسلام على يد مشائخ الطرق الصوفية قبل استقرارهم في آسيا الصغرى([5])، وهم أصحاب الدَّعم القوي للغلو في القبور.

***

وعلى الجانب الآخر، فلِوُلاة التوحيد شأن آخر مع تعظيم القبور، ومن ذلك ما كتبه الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود إلى سليمان باشا -من ولاة الدولة العثمانية-، قال فيه:

«وقد رأينا لمَّا فتحنا الحجرة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام عام اثنين وعشرين([6]) رسالة لسلطانكم سليم، أرسلها ابن عمه إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يستغيث به ويدعوه ويسأله النصر على الأعداء من النصارى وغيرهم، وفيها من الذل والخضوع والعبادة والخشوع ما يشهد بكذبكم.

وأولها: «من عُبَيدِك([7]) السلطان سليم وبعد: يا رسول الله، قد نالنا الضر، ونزل بنا من المكروه ما لا نَقدر على دفعه، واستولى عُـبَّاد الصلبان على عُـبَّاد الرحمـٰن، نسألك النصر عليهم والعون عليهم، وأن تكسرهم عنا»، وذكر كلامًا كثيرًا هذا معناه وحاصله»([8]).

وهكذا بعض سلاطين دولة المماليك، فالسلطان قايتباي -مثلًا- كان كثير الإعجاب بالبدوي والاعتقاد فيه، وقد زار ضريحه عام 888 هجري، ووسَّع في مقامه، وشَّيد له المباني العظيمة، وقد كان السلطان قايتباي هذا يعتقد في الشيوخ والأولياء عامة، وكان كثير الانجذاب إليهم والإقبال عليهم([9]).

وفي المغرب عندما تولى السلطان الحسن بن محمد (المتوفى سنة 1311هـ) مقاليد الحكم في بلاده، سارع إلى تقديم الذبائح إلى الضريح الإدريسي([10]).

وقد كان لسلاطين اليمن القدماء قَصَبُ السبق في هذا، فالإمام عبد الله بن حمزة الذي عاش في آخر القرن السادس وأوائل القرن السابع هو أول من سَنَّ لحكام الزيدية سُــنَّة البناء على المشاهد، ولم يُـسجل لأحد قبله شيء من هذا، وأول قبة بنيت في حضرموت هي قبة السلطان مسعود بن يماني، المتوفى سنة 648هـ.

ومُعظم المشاهد المعظمة في الديار الزيدية هي للأئمة وحواشيهم، وقل أن تجد مشهدًا لرجل فقير أو ضعيف، ولا حول ولا قوة إلا بالله، جعلوا الدين مطية للأطماع الشخصية.

عباد الله، وكذلك سلاطين الدولة الأيوبية- وهم معاصرون للدولة الزيدية ومنافسون لهم -، دُفـن معظم سلاطينها في قِـباب خاصة.

وعلى أنــقاض الدولة الأيوبية جاءت الدولة الرسولية الـمنــسوبة إلى مؤسسها نور الدين عمر بن علي بن رسول (647 هـ)، الذين رسَّخوا القبور في اليمن خلال قبور سلاطينهم، وتــبَـنَّوا بناء بعض المشاهد على قبور من يُـعتقد فيهم الصلاح، كمشهد أحمد بن علوان([11]).

***

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

***

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

أعد الخطبة: ماجد بن سليمان، واتس: 00966505906761



([1]) بتصرف من مقال: «عاصفة الأوهام» لخالد محمد حامد، وهو منقول برمته في كتاب «دمعة على التوحيد»، والمنقول يقع في (ص 173).
([2]) انظر كتاب «مساجد مصر وأولياؤها الصَّالحون» (1/ 126).

قلت: ولهذا كان الدعاء للولاة بالهداية للحق من أهم الأمور عند أهل السنة والجماعة، فإن الوالي إذا كان ضالًّا نشر ضلاله بقوة السلطان، والله المستعان.
([3]) انظر «تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة» (ص81).
([4]) انظر «الانحرافات العقدية والعِلمية في القرنين الرابع عشر والخامس عشر» لبخيت الزهراني، (ص308).
([5]) انظر «الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة».
([6]) بعد المائة الثانية عشرة.
([7]) انظر إلى التصريح بعبادة الرسول (صلى الله عليه وسلم)!
([8]) «الدرر السنية في الأجوبة النجدية» (1/304).
([9]) انظر «السيد البدوي ودولة الدراويش» (ص 141).
([10]) انظر  كتاب «الانحرافات العقدية والعِلمية في القرنين الرابع عشر والخامس عشر» (ص331).
([11]) ما تقدم من مظاهر الغلو في بلاد اليمن هو ملخص من الصفحات (263-273) من كتاب «القبورية.. نشأتها، آثارها، موقف العلماء منها» للشيخ أحمد بن حسن المعلم حفظه الله، الناشر: دار ابن الجوزي- الدمام.

المرفقات

1752217636_خطبة جمعة في روافد الفكر القبوري - جزء 1 من 4.doc

1752217636_خطبة جمعة في روافد الفكر القبوري - جزء 1 من 4.pdf

المشاهدات 50 | التعليقات 0