آداب المقرض والمقترض

د. منصور الصقعوب

2025-09-07 - 1447/03/15
التصنيفات: المعاملات
عناصر الخطبة
1/من محاسن هذه الشريعة الإسلامية 2/آداب الإقراض والمداينة 3/آداب الاقتراض من الآخرين 4/آداب المقرضين 5/الصبر على المعسر والتخفيف عنه

اقتباس

وإن مِن أكثر ما يُخيف في أمر الدين، أن يَعجز عن وفائه، فيموتَ مديوناً، وحقوقُ الناس أمانة في عنقه، فربما حَبَسَ الدَّيْنُ صاحبَه عن دخول الجنة... وإذا كان الشهيد الذي بذل نفسه في سبيل الله -تعالى-، وتُغفَر له ذنوبه، لا تسقط عنه أموال الناس؛ بل تبقى ذمته مشغولة حتى يُقضى عنه...

الخُطْبَة الأُولَى:

 

الحمد لله....

 

المال به قِوامُ الحياة، ولربما تهيَّأ في يد المرء وربما قلّ أو انعدم، ومن حكمة الله أن جعل المال دُولَة بين الناس، ولو بقي في يد أحد لما وصل لك، وقد قيل: المال لا ينفعك إلا إذا فارقك.

 

حديث اليوم -يا كرام- هو عن أمرٍ متعلق بالمال، ولئن مضى الحديث عن كسبه، وإنفاقه، فإن حديث اليوم هو عن إقراضه، عن القرض الحسن، وذاك أمرٌ يحتاجه الكثير، إما مقرضاً أو مقترضاً.

 

ومن محاسن هذه الشريعة أنها رعت مصالح العباد، في المعاش والمعاد، وحرصت على استقامة أمورهم، وتيسر معايشهم، وتشريع كل ما من شأنه تقوية الروابط بينهم، وما تركت أمراً إلا وبينت أحكامه، وحدوده، فللدين والقرض فقهٌ وآداب، متعلقة بكلٍّ من طرفي التداين، جدير بنا التذكير بها.

 

فمن أدب الإقراض والمداينة أن يُكتَب الدَّيْن ويُعرف؛ كي لا تضيع الحقوق، وفي القرآن: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا)... ثم قال في آخِرِ الآية: (ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا)[البقرة: 282].

 

وكم هي الخلافات التي تحدث بسبب التقصير في هذا الأمر، يستحي مِن توثيق الدَّيْن، وقته وموعده وقدره، ويظنُّ أنَّ فيه تخويناً للمستدين، ولا سيما إذا كان بين الطرفين قرابة، أو جوار، أو صداقة، والإنسان عُرضة للنسيان أو للوفاة.

 

 يا كرام: ومما أدَّب الله به عبادَه المؤمنين: الإشهادَ على الدَّين؛ فقال: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى)[البقرة: 282]؛ والقصدُ بهذا أنه أقرب لتوثيق المكتوب، وأبعدُ من أنْ يُنكِر أحد الطرفين، أو يُبدِّل، أو يُغيِّر في الحق والواقع.

 

عباد الله: ومن أدبِ الاقتراض أن لا يقترض إلا عند الضرورة، ذلك أنه قد ابتُلِيَ بعضُ الناس -في هذا العصر- بالانشغال بالكماليات والاستزادة منها والتفاخر بها؛ فلربما اقترضَ لأمرٍ من الفضول أو الكماليات، فأذلّ وجهه بالدين، وأحرج نفسه وغيره به، ولو ترفَّع عن ذلك واستغنى لارتاح، وليس يخفى أن يد المُقترض هي السُّفلى، وأنَّ الدين هَمٌّ بالليل وذُلٌّ بالنهار.

 

ومن أدب الاقتراض كذلك: العزيمة على قضاء الدَّيْن، وصاحب هذا القصد مُعانٌ من الله على الوفاء، وقد حذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من أخذ أموال الناس بغير هذا القصد؛ فقال: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ»(رواه البخاري)؛ فمن عزم على قضاء دَيْنه أعانه الله على ذلك، ويسر له قضاء الدين؛ وفي الحديث: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الدَّائِنِ حَتَّى يَقْضِيَ دَيْنَهُ، مَا لَمْ يَكُنْ فِيمَا يَكْرَهُ اللَّهُ»(رواه ابن ماجه).

 

وأمَّا مَنْ أخذ أموالَ الناس يُريد إتلافها على صاحبها، فإن الله يتلفه، فيذهب المال في الدنيا بلا انتفاع، ويعاقب على هذا في الآخرة.

 

وإن مِن أكثر ما يُخيف في أمر الدين، أن يعجز عن وفائه، فيموتَ مديوناً، وحقوقُ الناس أمانة في عنقه، فربما حَبَسَ الدَّيْنُ صاحبَه عن دخول الجنة؛ وفي الحديث أن النبيِّ  -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ صَاحِبَكُمْ مَحْبُوسٌ بِبَابِ الجَنَّةِ بِدَينٍ عَلِيْهِ»، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ»(رواه الترمذي).

 

وإذا كان الشهيد الذي بذل نفسه في سبيل الله -تعالى-، وتُغفَر له ذنوبه، لا تسقط عنه أموال الناس؛ بل تبقى ذمته مشغولة حتى يُقضى عنه، فإن المرء ينبغي أن لا يأخذ إلا إن احتاج وقدر حاجته، وفي الحديث: «يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلاَّ الدَّيْنَ»(رواه مسلم)، وقال: «الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ الدَّيْنَ».

 

عباد الله: ومن أدب الاقتراض كذلك: الوفاءُ بالدَّيْن في موعده، وعدم المماطلة، فإخلاف الوعد في الوفاء ظلم؛ وإضرارٌ بحقوق الناس ومصالحهم، وفي الصحيح «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ»، ومن علامات المنافق أنه إذا وعد أخلف.

 

يا كرام: وقد عدّ النبي -صلى الله عليه وسلم- من حُسْن القضاء أن تزيد على ما أخذت، لكن بلا اتفاق مسبقٍ بينكما، في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا تقاضاه رجل بعيراً -كان قد اقترضه منه- أرسل مَنْ يشتري له غيرَه، فقالوا: لاَ نَجِدُ إِلاَّ أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ! فقَالَ لهم -صلى الله عليه وسلم-: «اشْتَرُوهُ، فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ؛ فَإِنَّ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً»(متفق عليه).

 

ومن حسن القضاء كذلك: الدعاءُ لمن أقرضك ووسع عليك، وشكره على إحسانه، وفي الحديث عند النسائي وغيره عن عبد الله بن أبي ربيعة قال: استقرض مني النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعين ألفًا، فجاءه مال فدفعه إليَّ، وقال: «بارك الله لك في أهلك ومالك، إنما جزاء السلف الحمد والأداء».

 

وبعد: فلقد كان من دعاء المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم". والمغرم: الدَّيْن، فقال له قائل: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ، حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ».

 

فاللهم إنا نعوذ بك من المأثم والمغرم، ومن غلبة الدين وقهر الرجال. وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله...

 

وأما المقرض فثمة آدابٌ متعلقةٌ به وردت بها الأحاديث: فمن أدب المقرض أن يستحضر النية الصالحة باحتساب الأجر عند الله في إقراضه لأخيه، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن أجر القرض يعدل نصف أجر التصدق بالمبلغ، فقال: «مَنْ أَقْرَضَ وَرِقًا مَرَّتَيْنِ؛ كَانَ كَعِدْلِ صَدَقَةٍ مَرَّةً»(رواه البيهقي).

 

فاستحقَّ هذه المكافأة؛ بنيته الصالحة، وإحسانه لأخيه، وتفريج كربته، وحِفْظ ماء وجهه، وإعفافه إياه عن المسألة، وصار الإقراضُ نوعاً من الصدقة بالمال.

 

ومن أدب المقرض كذلك: حُسْن المُطالبة والاقتضاء؛ فإذا أراد الدائنُ المطالبة بحقه؛ فليكنْ ذلك بالرفق والأدب، ولا يشكوه إلاَّ عند المماطلة، وليكنْ سمحاً في مطالبته؛ فإنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى»(رواه البخاري). وقال أيضاً: «أَدْخَلَ اللَّهُ الْجَنَّةَ رَجُلاً، كَانَ سَهْلاً مُشْتَرِيًا وَبَائِعًا، وَقَاضِيًا وَمُقْتَضِيًا»(رواه النسائي).

 

ومن أدب المقرض كذلك: إنظار المُعسر، وإعطاؤه مهلةً من الزمن حال عدم قدرته على السداد، فذلك من الرحمة به، وهو بابُ أجرٍ عظيم للدائن، رغب ربنا فيه فقال: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ)[البقرة: 282].

 

ورغَّب فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ، أَوْ يَضَعْ عَنْهُ»(رواه مسلم)؛ أي: يَمُدُّ ويُؤخِّرُ المُطالبة.

 

 فإنْ كان المدينُ عاجزاً عن القضاء؛ استُحِبّ التجاوز عنه، وهو أفضلُ من إنظاره؛ كما قال الله: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)[البقرة: 282]؛ أي: وأنْ تتصدَّقوا على المُعسِر؛ بإسقاط الدَّينِ عنه، فذلك خير لكم في الدنيا والآخرة.

 

ومما جاء من الترغيب في وضع الدَّين عن المُعسر: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ؛ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ»(رواه البخاري).

 

عباد الله: والإقراضُ قصده الأجرُ والإحسان، والتوسعة على المسلمين، ولأجل ذلك حرم العلماء الانتفاع بالقرض بأيّ وجه من أوجه الانتفاع، وأصّلوا الأصل الشهير: "كل قرض جرّ نفعاً فهو ربًا"، ولهذا صور كثيرة، يجمعها أن ينتفع المقرض بالقرض.

 

فمن ذلك مثلاً: أن يهدي لك المقترض قبل الوفاء ولم يكن من عادته ذلك، أو تنتفع بماله أو عقاره بلا مقابل، أو يعطيك شيئاً بلا ثمن، أو أن تشترط عليه أن يرد عليك أكثر مما اقترض منك، وغيرها من الصور.

 

وبعد: فتلك كانت إلماحةٌ لفِقْه القرض وآدابه، واليقين أنه لو ارتسم الناس هذه المُثُل والآداب، مقرضين ومقترضين، لكان في القرض باب صلة، ورفعة قدر وزيادة أجر.

 

ويبقى المالُ وسيلةً لعيشك على مراد الله، فإن أُعطِيت منه فاحمد الله، وإن حُرِمت منه فارض بقَدَر الله، وليس وجوده سبباً لحبّ ربك، ولا فقده كذلك، وهو بوابة للجنان، أو قنطرةٌ للنيران، والفيصل في ذلك "من أين اكتسبه وفيم أنفقه".

 

اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك.

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life