إيثار في زمن الأثرة

أحمد بن عبد العزيز الشاوي

2025-11-03 - 1447/05/12
عناصر الخطبة
1/نماذج عملية من الأتقياء الأنقياء 2/نماذج من أهل الإيثار 3/دافع المتقين إلى الإيثار وفعل الخير 4/حب الخير للآخرين من صفات المحسنين 5/من مظاهر الأثرة والأنانية

اقتباس

لا تبخل في تمني الخير للآخرين، فإن غناهم لن ينقصك من رزقك شيئا، وإن صحتهم وعافيتهم لن تأخذ من صحتك شيئا، وتمني طلب البركة لهم في الأهل والولد والعمل لن يقلل من بركة حياتك شيئا؛ ولهذا كن على يقين أن طلبك الخير للغير سيزيدك ولن ينقصك...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمد لله الغفور الشكور، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إنه بعباده خبير بصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الكريم الصبور، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة إلى يوم النشور، وسلم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد: فاتقوا الله -يا عباد الله-؛ فإن من اتقى الله وقاه وحفظه وكفاه.

 

في عالم الأتقياء الأنقياء الأزكياء يحدث مثل هذا الموقف: كان لمحمد بن المنكدر أقمشة بعضها بخمسة دراهم وبعضها بعشرة، فباع غلامه في غيبته لأعرابي قطعة من الخمسيات بعشرة، فلما عاد ابن المنكدر وعرف لم يزل يطلب ذلك الأعرابي طوال النهار، حتى وجده فقال له: "إن الغلام قد غلط، فباعك ما يساوي خمسة بعشرة"، فقال الأعرابي: يا هذا قد رضيت، فقال: "وإن رضيت فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا، فاختر إحدى ثلاث: إما أن تأخذ قطعة من العشريات بدراهمك، وإما أن نرد عليك خمسة، وإما أن ترد القطعة وتأخذ دراهمك".

 

في هذا العالم النقي تجد ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: "وإني لأسمع بالغيث يُصيب البلاد من بلدان المسلمين فأفرحُ به، وما لي بها سائمةٌ ولا راعية!، وإني لآتي على آيةٍ من كتاب اللَّه -تعالى-، فوددتُ أن المسلمين كلَّهم علموا منها مثل ما أعلم".

 

في عالم الإيثار نجد سعد بن الربيع الأنصاري يعرض على أخيه عبدالرحمن بن عوف المهاجري أن يشاطره ماله ويتزوج إحدى نسائه!.

 

في عالم التقى والنقاء تجد ثريا يملك اثنتين وأربعين شقة مؤجرة، وعندما ارتفعت الأسعار نادى أولاده، وأوصاهم ألا يرفعوا الأسعار على الساكنين؛ مؤثرا ما عند الله على أموال سيفقدها تقارب المليون سنويا، وآخر يأبى الزيادة في أسعار وحداته قائلا: لنجعل الزيادة صدقة جارية.

 

في عالم الإيثار والمروءة والرحمة تجد مثل هذا الموقف: كان لرجل وحدات يؤجرها على أناس بسطاء على قدر حالهم، فيقول أحد العاملين في العمل الخيري: "يأتيني كل شهر ابن لصاحب هذه الوحدات ويعطيني مبلغا من المال قائلا: أعطه للمستأجرين ليدفعوها لوالدي عن إيجار بيوتهم، والأب يأتي بقيمة الإيجار ويدفعها لي قائلا: اشتر بها للمستأجرين ما يحتاجون من طعام وغيره، والأب لا يعلم بصنيع ابنه ولا الابن يعلم بصنيع أبيه"، فلله در هذه النفوس الكريمة.

 

في عالم الإيثار ستجد بائعا في دكانه إذا باع أول النهار وجاء أحد يشتري منه قال: "اذهب لـجاري؛ فإنه لم يبع منذ الصباح".

 

هؤلاء يمثلون فئة ممن تحلوا بالمحبة والإيثار، وآمنوا أن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، إنها قلوب تزينت بالإيمان حتى حلقت في السماء؛ لتصل بأصحابها إلى أعالي الجنان، إنها قلوب تشربت ووعت حديث المصطفى العدنان: "حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".

 

إنهم قوم يرجون ما عند الله، ويطعمون لوجه الله، لا يريدون جزاء ولا شكورا، وإنما يخافون من ربهم يوما عبوسا قمطريرا.

 

إنهم يتذكرون ذلك الرجل الذي أخبرنا عنه -صلى الله عليه وسلم- فقال: "كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ؛ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ"، وفي رواية لمسلم: "قال اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ تَجَاوَزُوا عَنْهُ".

 

إنهم يرتجون هذا الجزاء ففي الحديث: "ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة"، وحديث: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ، أَوْ يَضَعْ عَنْهُ".

 

إن تحقيق هذا الكمال الإيماني في النفس، يتطلب منها سموا في التعامل، ورفعة في الأخلاق مع الغير، انطلاقا من رغبتها في أن تُعامل بالمثل، وهذا يحتّم على صاحبها أن يصبر على أذى الناس، ويتغاضى عن هفواتهم، ويعفو عمن أساء إليه، وليس ذلك فحسب، بل إنه يشارك إخوانه في أفراحهم وأتراحهم، ويعود المريض منهم، ويواسي المحتاج، ويكفل اليتيم، ويعيل الأرملة، ولا يألو جهدا في تقديم صنائع المعروف للآخرين، ببشاشةِ وجه، وسعة قلب، وسلامة صدر.

 

لقد تبدلت مفاهيم الناس وظنوا أنهم إن بذلوا الخير لإخوانهم حُرموا منه أو نقص من عندهم، إن حب الخير للآخرين يرتقي بصاحبه في مراتب الإيمان، ويجعل صاحبه من المفلحين؛ (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: 9]، وبه يسلم قلب صاحبه من الحقد ويطهره من الأثرة، وبه يحبه الخلق ويقدروا له صنيعه، فيحصل بذلك الألفة والمحبة بين الناس.

 

وهو دليل على علو الهمة والارتقاء بالنفس عن الدنايا، والذي يُحِبُّ الخَيْرَ لأَخِيه كَما يُحِبُّهُ لِنَفْسِه يَنجُو بِنَفِسِه منَ النَّارِ، ومَنْ زُحزِحَ عَنِ النَّارِ فَازَ ودَخَلَ الجَنَّةَ مَعَ الأَبرار، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزحزَحَ عَنِ النَّارِ ويَدخلَ الجَنَّةَ؛ فلْتُدركْهُ منِيَّتُهُ وهُو مُؤْمِنٌ بِاللهِ واليومِ الآخرِ، ويأتي إلى الناسِ الَّذي يُحِبُّ أَنْ يُؤتَى إِلَيه".

 

فيا عبد الله: لا تبخل في تمني الخير للآخرين، فإن غناهم لن ينقصك من رزقك شيئا، وإن صحتهم وعافيتهم لن تأخذ من صحتك شيئا، وتمني طلب البركة لهم في الأهل والولد والعمل لن يقلل من بركة حياتك شيئا؛ ولهذا كن على يقين أن طلبك الخير للغير سيزيدك ولن ينقصك، بل ستكون كبيرا وعظيما أمام نفسك وفي عيون الآخرين، كما يكفيك شرفا أنك ستكون عظيما أمام ربك في قناعتك ويقينك به.

 

أما في جيل الأنانية والأثرة وحب الذات فستجد عالما مليئا بالمواقف المؤلمة، ستجد من يستأجر استراحة أو بيتا أو سيارة وتحت شعار: "حلل قيمة الإيجار"، يستبيحون ما استأجروه تهشيما وتحطيما وتدميرا!.

 

ستجد من يجلس في حديقة أو متنزه بري، ويقوم منه وقد شوه جماله ببقايا نفاياته ومخلفات متاعه، بحجة أنه لن يعود له ثانية، فهل يفعل ذلك لو كان هذا ملكه؟!.

 

ستجد من يغلق بسيارته باب جاره، وويل لمن يقف عند جداره، ستجد في شوارعنا وعند الإشارات والتقاطعات صورا تنبئ عن الأثرة وانعدام الإيثار والشعور بالجسد الواحد.

 

ستجد من يخطب على خطبة أخيه، ومن يبيع على بيع أخيه، ستجد من يسمع غيبة أو نميمة في أخيه فلا يحرك ساكنا، ولا يدفع عن عرض أخيه، فهل يرتضي ذلك لنفسه؟!.

 

بينما في عالم الأثرة تجد من يحاول إسقاط جاره والتزهيد في تجارته، هكذا يحصل حينما تنعدم روح الأخوة ويتخلى المسلمون عن توجيه نبيهم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".

 

أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

إذا كنت تجد في عالم الإيثار تجارا بررة أخيارا يتاجرون بلا احتكار، ولا رفع للأسعار ولا غش ولا ضرر ولا ضرار، يحبون لإخوانهم ما يحبون لأنفسهم، يرحمون الخلق، وينشدون الحق، ويطيّبون الرزق، فيجبرون كسيرا، وينظرون معسرا، ويضعون عن عاجز، فستجد من أهل الأثرة من يحاولون الارتقاء على أكتاف الآخرين، وينشدون الثراء على حساب إخوانهم المستهلكين.

 

أنانيون لا يهمهم إذا أثروا أن يتضرر إخوانهم، يمارسون الغش والتدليس، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من غش فليس منا"، يحتكرون السلع يتحينون ارتفاع أسعارها، وقد حذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا الفعل، وأخبر بأن فاعلَه آثم خاطئ، فقال: "مَن احتكر فهو خاطئ"، وقال: "مَن احتكر على المسلمين طعامًا، ضربه الله بالجذام والإفلاس".

 

تجار جمعوا بين ضعف الوازع الديني وضعف الرقيب البشري، فصاروا يتلاعبون بالأسعار، غير آبهين بقانع ولا معتر ولا بائس فقير، تجار جشعون ضحاياهم شباب بدؤوا تجارتهم بنجاح وانتهوا بخسارة، حينما وجدوا أنفسهم بين مطرقة التهديد بإخلاء العقار وسندان رفع الأسعار، فما وجدوا طاقة فلجؤوا إلى ترك التجارة والرضا بالخسارة.

 

ضحاياهم شباب متزوجون دخلهم محدود، وحينما استقر بهم المقام في سكن مستأجر فاجأهم الملاك برفعِ مبالغِ فيه في الأسعار، أوقعهم في هم وغم وكدر، إن هؤلاء قد يكسبون مالا لكنهم سيخسرون مبادئ وقيماً.

 

إن المسلم الذي تشرب قلبه حب إخوانه وحب الخير لهم كما يحبه لنفسه، يجب أن يضع نصب عينيه حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما"، فيتمنى لهم صلاح دينهم ودنياهم وآخرتهم، ويتعامل معهم كما يحب أن يعامله الآخرون.

 

ألستم تحبون أن يغفر الله لكم؟ ألستم تودون أن يرضى الله عنكم ويزحزحكم عن النار ويدخلكم الجنة؟ ألستم تحبون لأنفسكم أن تردوا القيامة بصفحة بيضاء نقية من الذنوب والخطايا؟ ألا تحبون أن يفرج الله كربكم يوم القيامة، ويتجاوز عنكم، ويغفر لكم؟ "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ"، و(هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)[الرحمن: 60].

 

ألا تدفعكم نصوص الوعد والجزاء لتسابقوا إلى نفع إخوانكم والتخفيف عليهم، إن آية واحدة (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)[آل عمران: 92]، دفعت أبا طلحة لتوقيف حائطه وبه ستمئة نخلة؛ ايثارا لما عند الله، فهل بهذا الجيل تحتذون، وبالمواقف الجميلة للمحسنين تقتدون؟.

 

إن التلاعب بأسعار العقار ورفعه بشكل جنوني أوقع الناس في حرج وعنت، مما دفع أصحاب القرار من ولاة الأمر لاتخاذ موقف صارم بإيقاف رفع الأسعار، وتلك خطوة حكيمة، ليتها تمتد لكل حاجات الناس ومشترياتهم، وياليت الجهات الأخرى تعالج غلاء أسعار العقار بخطوات عملية، من تيسير التخطيط، والإكثار من المخططات، وتخفيض رسوم الخدمات، وهذا هو ما يليق بالقيادة الحكيمة وأياديها الكريمة.

 

"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، فلنجعل هذا الحديث نبراسا يضيء لنا تعاملنا في كل شؤون ديننا ودنيانا، فاستعينوا على حب الخير للغير بالتطهر من دنس الأنانية والأثرة، والتحلي بالمحبة والإيثار، والاستعانة بالدعاء كما فعل الصالحون في دعائهم: (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا)[الحشر: 10]، "وَخَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ"،(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: 9].

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life