عناصر الخطبة
1/كثرة الحديث عن النفاق والمنافقين في القرآن 2/خوف الصحابة من النفاق 3/من خصال وصفات المنافقين 4/الحث على تطهير النفس من خصال النفاق 5/التحذير من رمي الناس بالنفاقاقتباس
وَاللَّمْزُ وَالسُّخْرِيَةُ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَأَعْمَالِهِمْ سِمَةٌ ثَابِتَةٌ فِي المُنَافِقِينَ، فَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "لَمَّا أُمِرْنا بالصَّدَقَةِ كُنَّا نَتَحامَلُ، فَجاءَ أبو عَقِيلٍ بنِصْفِ صاعٍ، وجاءَ إنْسانٌ بأَكْثَرَ منه، فقالَ المُنافِقُونَ: إنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عن صَدَقَةِ هذا، وما فَعَلَ هذا الآخَرُ إلَّا رِئاءً...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أما بعد: دَاءٌ خَطِيرٌ، وشَرٌّ مُسْتَطِيرٌ، تَنْبُتُ بَذْرَتُهُ الخَبِيثَةُ في القَلْبِ، فَتَنْمُو وتَتَوَسَّعُ، وتَنْتَشِرُ وتَسْتَشْرِي، حَتَّى يَسْوَدَّ القَلْبُ، وتَفْسُدَ الرُّوحُ.
والعَجِيبُ في هَذَا الدَّاءِ أَنَّهُ خَفِيٌّ، فَقَدْ يُصَابُ بِهِ المَرْءُ وهُوَ لَا يَحُسُّ، وكَثِيرًا مَا يَعُمُّ شَرُّ وَبَائِهِ الخَلْقَ وهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، إِنَّهُ دَاءُ النِّفَاقِ.
ذَاكَ المَرَضُ الَّذِي تَكَاثَرَتْ فِي بَيَانِهِ الآيَاتُ القُرْآنِيَّةُ، وتَنَوَّعَتْ فِيهِ الأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ، فَكَانَ الحَدِيثُ عَنِ النِّفَاقِ فِي سَبْعَ عَشْرَةَ سُورَةً مَدَنِيَّةً، مِنْ أَصْلِ ثَلَاثِينَ سُورَةً، وَسُمِّيَتْ سُورَةٌ فِي القُرْآنِ بِاسْمِ "سُورَةِ المُنَافِقُونَ"، وبَلَغَ عَدَدُ الآيَاتِ فِي ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ مِائَةِ آيَةٍ، كُلُّ ذَلِكَ توْضِيحًا لِشَرِّ الدَّاءِ، وتَنْبِيهًا لِأَهْلِ الإِيمَانِ، وتَحْذِيرًا مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ.
وَإِذَا كَانَ الحَدِيثُ عَنِ النِّفَاقِ اسْتَغْرَقَ هَذَا الكَمَّ الهَائِلَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ، وعَصْرِ الصَّحَابَةِ، فَمَا مِقْدَارُ الكَمِّ الَّذِي سَنَحْتَاجُهُ لِلْحَدِيثِ عَنِ النِّفَاقِ فِي زَمَانِنَا؟!.
هَذَا حُذَيْفَةُ بْنُ اليَمَانِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الصَّحَابِيُّ العَالِمُ بِالفِتَنِ، الخَبِيرُ بِالنِّفَاقِ، أَمِينُ سِرِّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- الَّذِي أَخْبَرَهُ بِأَعْيَانِ المُنَافِقِينَ وأَسْمَائِهِمْ، يَتَحَدَّثُ مَعَ تَلَامِيذِهِ مِنَ التَّابِعِينَ فَيَقُولُ لَهُمْ: "إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- فَيَصِيرُ بِهَا مُنَافِقًا، وإِنِّي لَأَسْمَعُهَا مِنْ أَحَدِكُمُ اليَوْمَ فِي المَجْلِسِ عَشْرَ مَرَّاتٍ"، وقَالَ يَوْمًا: "لَقَدْ أُنْزِلَ النِّفَاقُ عَلَى قَوْمٍ خَيْرٍ مِنْكُمْ".
وَلِذَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَخْشَوْنَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ، وَلَا يُبَرِّئُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنْهُ، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: "أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ".
فَمَا هُوَ النِّفَاقُ؟ ومَا هِيَ خِصَالُهُ؟ النِّفَاقُ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- مِنْهُ مَا هُوَ نِفَاقٌ اعْتِقَادِيٌّ أَكْبَرُ مُخْرِجٌ مِنَ المِلَّةِ، وهُوَ إِظْهَارُ الإِسْلَامِ وإِبْطَانُ الكُفْرِ الصَّرِيحِ، ومِنْهُ مَا هُوَ نِفَاقٌ عَمَلِيٌّ أَصْغَرُ لَا يُخْرِجُ مِنَ المِلَّةِ، لَكِنَّ مَنْ دَخَلَ فِيهِ فَإِنَّهُ يَسِيرُ فِي المُنْحَدَرِ الَّذِي يُوصِلُهُ إِلَى النِّفَاقِ الأَكْبَرِ مَا لَمْ يَتَدَارَكْ نَفْسَهُ.
وَإِنَّ أَصْلَ دَاءِ النِّفَاقِ نَابِعٌ مِنْ انْعِدَامِ أَوْ ضَعْفِ الإِيمَانِ بِالغَيْبِ وَاليَقِينِ بِاللَّهِ وَالدَّارِ الآخِرَةِ، فَالمُنَافِقُ مُنْغَمِسٌ فِي الدُّنْيَا، لَا يَعْرِفُ سِوَاهَا، وَلَا يَسْعَى إِلَّا إِلَى تَحْصِيلِهَا؛ وَلِأَنَّ الأَمْرَ خَطِيرٌ، وَالدَّاءَ خَفِيٌّ، فَقَدْ بَيَّنَ لَنَا الوَحْيُ بِجَلَاءٍ أَوْصَافَ أَهْلِ النِّفَاقِ، وَخِصَالَهُمْ، وَأَخْلَاقَهُمْ، حَتَّى لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَحَتَّى نَحْذَرَ أَفْعَالَهُمْ.
مَعَاشِرَ المُسْلِمِينَ: سَأَقُومُ بِسَرْدِ خِصَالِ المُنَافِقِينَ وصِفَاتِهِمْ، ولَكِنَّ المَأْمُولَ مِنَ المُتَكَلِّمِ والسَّامِعِ أَلَّا يُزَكِّيَ نَفْسَهُ، ولَا يَأْمَنَ حَالَهُ، وأَنْ يُحَاسِبَهَا فَيَتَأَكَّدَ مِنْ سَلَامَتِهِ مِنْ تِلْكَ الخِصَالِ، وقَدْ قَالَ رَجُلٌ لِحُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ مُنَافِقًا"، فَقَالَ لَهُ: "لَوْ كُنْتَ مُنَافِقًا مَا خِفْتَ النِّفَاقَ، إِنَّ المُنَافِقَ قَدْ أَمِنَ النِّفَاقَ".
مِنْ خِصَالِ المُنَافِقِينَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالأُمُورِ العِبَادِيَّةِ: فَهُمْ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا، وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى، وَإِذَا أَدَّوْا ظَاهِرَ العِبَادَةِ فَإِنَّكَ تَجِدُهُمْ يَطْلُبُونَ رِضَا النَّاسِ لَا رِضَا اللَّهِ -سُبْحَانَهُ-، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا)[النساء: 142]، وقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: "إِنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ، وَصَلَاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا"، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَلَا يُوقِنُونَ بِمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ، فَيَرَوْنَ أَنَّ فِي أَدَاءِ الصَّلَاةِ تَفْوِيتًا لِمُتَعِ الدُّنْيَا مِنْ لَهْوٍ أَوْ لَعِبٍ، أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ نَوْمٍ.
وَمِنْ خِصَالِهِمْ: بُخْلُهُمْ عَنِ الإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهُمْ يَشُكُّونَ فِي وَعْدِ اللَّهِ بِمُبَارَكَةِ الصَّدَقَاتِ، وَمَا تَجْلِبُهُ مِنَ الحَسَنَاتِ، فَلَا يَرَوْنَ فِي الإِنْفَاقِ إِلَّا تَضْيِيعًا لِلْمَالِ، فَتَجِدُهُمْ لَا يُنْفِقُونَ إِلَّا تَحْتَ الإِكْرَاهِ، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ)[التوبة: 54].
وَمِنْ خِصَالِ النِّفَاقِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالأُمُورِ السُّلُوكِيَّةِ وَالأَخْلَاقِيَّةِ، فَقَدْ بَيَّنَ لَنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- عِدَّةَ عَلَامَاتٍ تَكْشِفُ حَالَ النِّفَاقِ فِي أَنْفُسِنَا وَمَنْ حَوْلَنَا، فَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: "آيَةُ المُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ"، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ يَقُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: "أَرْبَعٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا -أَوْ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِن أَرْبَعَةٍ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ- حتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ".
فَالمُنَافِقُ يَكْذِبُ؛ لِأَنَّهُ يَرَى فِي الكَذِبِ مَصْلَحَةً دُنْيَوِيَّةً، وَلَا يَهُمُّهُ إِنْ كَانَ فِيهِ مَفْسَدَةٌ أُخْرَوِيَّةٌ، وَيُخْلِفُ الوَعْدَ وَيَغْدِرُ بِالعَهْدِ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَبْعَدَ مِنْ قَلْبِهِ رَقَابَةَ اللَّهِ وَشَهَادَتَهُ عَلَيْهِ، وَيَخُونُ الأَمَانَةَ مَتَى مَا كَانَ فِي ذَلِكَ تَحْقِيقًا لِلْمَكَاسِبِ وَتَحْصِيلًا لِلْأَرْبَاحِ، وَيَفْجُرُ فِي الخُصُومَةِ، فَيَتَّهِمُ وَيَفْتَرِي وَيَنْتَقِمُ، وَلَا ترَى عَينُهُ إِلَّا الفَوْزَ الدُّنْيَوِيَّ، أَمَّا خَسَارَةُ الآخِرَةِ وَتَرَاكُمُ السَّيِّئَاتِ فَلَا تَعْنِي لَهُ شَيْئًا.
وَمِنْ خِصَالِ النِّفَاقِ مَا يَتَعَلَّقُ بِعَلَاقَتِهِمْ بِأَهْلِ الإِيمَانِ وَأَهْلِ الكُفْرِ، وَتَأْثِيرِهِمْ فِي المُجْتَمَعِ المُسْلِمِ،
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالمُنْكَرِ، فَيَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ وَيُزَيِّنُونَهُ لَهُمْ، وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنِ المَعْرُوفِ وَيُحَقِّرُونَ مِنْ شَأْنِهِ، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[التوبة: 67]، ذَلِكَ هُوَ أَصْلُ دَائِهِمْ، وَأَسَاسُ مُصَابِهِمْ، أَنَّهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَلَا يَعْتَبِرُونَ رِضَاهُ وَسُخْطَهُ، وَحَلَالَهُ وَحَرَامَهُ، فَكَانَتِ النَّتِيجَةُ أَنْ نَسِيَهُمْ وَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ، فَهُمْ سَادِرُونَ فِي الغَفْلَةِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا.
وَإِذَا نَصَحَهُمْ أَهْلُ الإِيمَانِ اسْتَهْزَؤُوا بِهِمْ وَرَمَوْهُمْ بِالسَّفَهِ، قال -سبحانه-: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ)[البقرة: 11 - 13].
وَاللَّمْزُ وَالسُّخْرِيَةُ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَأَعْمَالِهِمْ سِمَةٌ ثَابِتَةٌ فِي المُنَافِقِينَ، فَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "لَمَّا أُمِرْنا بالصَّدَقَةِ كُنَّا نَتَحامَلُ، فَجاءَ أبو عَقِيلٍ بنِصْفِ صاعٍ، وجاءَ إنْسانٌ بأَكْثَرَ منه، فقالَ المُنافِقُونَ: إنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عن صَدَقَةِ هذا، وما فَعَلَ هذا الآخَرُ إلَّا رِئاءً، فَنَزَلَتْ: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[التوبة: 79]".
وَمِنْ خِصَالِ المُنَافِقِينَ الظَّاهِرَةِ: خَوْفُهُمْ وَهَلَعُهُمْ مِنَ التَّضْحِيَةِ بِالنَّفْسِ وَالمَالِ، وَفِرَارُهُمْ مِنْ نُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ -بِضَعْفِ إِيمَانِهِمْ- أَنَّ فِي ذَلِكَ هَلَكَةً لِدُنْيَاهُمْ الَّتِي هِيَ رَأْسُ مَالِهِمْ، وَمُنْتَهَى أَحْلَامِهِمْ، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ)[محمد: 20]، وقال -سبحانه-: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)[التوبة: 44 - 45]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَن ماتَ ولَمْ يَغْزُ، ولَمْ يُحَدِّثْ به نَفْسَهُ؛ ماتَ علَى شُعْبَةٍ مِن نِفاقٍ".
وَتَجِدُهُمْ يُحَقِّرُونَ مِنْ نُصْرَةِ أَهْلِ الإِيمَانِ، وَيَرَوْنَ وَعْدَ اللَّهِ بِالنَّصْرِ بِأَنَّهُ خِدَاعٌ وَغُرُورٌ، فَقُوَى الكُفْرِ أَعْظَمُ فِي أَعْيُنِهِمْ مِنْ قُوَّةِ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ- قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا)[الأحزاب: 12]، وَقَالَ -سُبْحَانَهُ- فِي شَأْنِ غَزْوَةِ بَدْرٍ: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ)[الأنفال: 49].
وَإِذَا حَلَّتِ الهَزِيمَةُ بِالمُؤْمِنِينَ رَأَوْا أَنَّ قُعُودَهُمْ عَنِ النُّصْرَةِ نِعْمَةٌ يَتَوَفَّرُ بِهَا الأَمْنُ، وَإِذَا جَاءَ النَّصْرُ تَعَلَّقُوا بِالمُؤْمِنِينَ يَطْلُبُونَ حُظُوظَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَالَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا)[النساء: 72 - 73].
وَمِنْ خِصَالِهِمُ الظَّاهِرَةِ: التَّذَبْذُبُ بَيْنَ أَهْلِ الإِيمَانِ وَأَهْلِ الكُفْرِ، فَيَدُورُونَ حَيْثُ دَارَتِ الغَلَبَةُ وَالمَصْلَحَةُ، بِدُونِ ثَبَاتٍ عَلَى المَبَادِئِ، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[النساء: 141].
وَهَكَذَا فَلَا يَجِدُونَ غَضَاضَةً مِنْ تَوَلِّي الكَافِرِينَ وَمُعَاوَنَتِهِمْ وَمُنَاصَرَتِهِمْ عَلَى المُؤْمِنِينَ مَتَى مَا رَأَوْا -بِقِصَرِ نَظَرِهِمْ- أَنَّ الغَلَبَةَ لَهُمْ، كَمَا قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)[النساء: 138 - 139].
تِلْكَ هِيَ بَعْضُ خِصَالِ المُنَافِقِينَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَاجْتَنِبُوهَا وَاحْذَرُوا أَهْلَهَا، وَفِرُّوا مِنَ النِّفَاقِ وَالمُنَافِقِينَ فِرَارَكُمْ مِنَ الأَسَدِ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ، أَمَّا بَعْدُ:
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا)[النساء: 145- 146].
إِنَّ هَذِهِ الخُطْبَةَ دَعْوَةٌ لِلْجَمِيعِ -وَأَنَا أَوَّلُكُمْ- بِأَنْ نَتُوبَ تَوْبَةً شَامِلَةً مِنَ النِّفَاقِ، فَنُطَهِّرَ أَنْفُسَنَا مِنْ خِصَالِهِ وَشُعَبِهِ، وَنُدَاوِيَ قُلُوبَنَا مِنْ أَمْرَاضِهِ وَأَدْوَائِهِ.
وَهِيَ دَعْوَةٌ كَذَلِكَ إِلَى الحَذَرِ مِنَ المُنَافِقِينَ، فَلَا نُنْصِتْ لِأَبَاطِيلِهِمْ، وَلَا نَتَأَثَّرْ بِاسْتِهْزَائِهِمْ، وَلَا تَخُرْ نُفُوسُنَا بِتَعْوِيقِهِمْ وَتَثْبِيطِهِمْ.
وَيَجِبُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ المَقْصُودُ مِنَ الكَلَامِ عَنِ النِّفَاقِ هُوَ تَحْدِيدُ أَعْيَانِ المُنَافِقِينَ، وَاتِّهَامُ النَّاسِ بِذَلِكَ، فَهَذَا أَمْرٌ خَطِيرٌ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ عَامَّةِ النَّاسِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: "لا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلًا بالفُسُوقِ، ولا يَرْمِيهِ بالكُفْرِ؛ إلَّا ارْتَدَّتْ عليه إنْ لَمْ يَكُنْ صاحِبُهُ كَذلكَ"، وَلَكِنَّ المَقْصُودَ هُوَ اتِّبَاعُ مَنْهَجِ القُرْآنِ بِبَيَانِ خِصَالِ النِّفَاقِ، وَفَضْحِ صِفَاتِ أَهْلِهِ، وَالحَذَرِ مِنْ أَفْعَالِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَعْيِينٌ لَهُمْ.
اللَّهُمَّ طَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنْ النِّفَاقِ، وَأَعْمَالَنَا مِنَ الرِّيَاءِ، وَأَلْسِنَتَنَا مِنَ الْكَذِبِ، وَأَعْيُنَنَا مِنَ الْخِيَانَةِ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلَنَا كُلَّهُ صَالِحًا، وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِكَ خَالِصًا، وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا.
التعليقات