الانتفاع بالموعظة

الشيخ سعد بن عبدالرحمن بن قاسم

2025-09-14 - 1447/03/22
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/العبد بين الخوف والرجاء 2/الانتفاع بالمواعظ 3/ذكر بعض مواعظ القرآن 4/صور من عذاب أهل النار 5/التأثر بالمواعظ من علامة خشية الله.

اقتباس

تذكر زفيرهم وشهيقهم فيها، وشهيقها وفورانها حال إلقائهم فيها، وأنها تكاد تميز من الغيظ عليهم... تذكر صراخهم فيها وعويلهم حال سقوطهم فيها وحال تعذيبهم، وحالتهم وهي ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر... تذكر ظلمتها ووحشتها ولهيبها...

الخطبةُ الأولَى:

 

الحمد لله مُوقظ القلوب بالوعظ والتذكير، فقلب يخشى الله حقاً ويتقيه أكثر اتعاظاً، وأظهر اعترافاً بالتقصير، فسبحانه من إله عظيم يسَّر أسباباً كثيرة لإصلاح القلوب، وبصلاحها تصلح الأجساد وتنقاد لطاعة مولاها، وناصرها، فنعم المولى ونعم النصير.

 

أحمده -تعالى- وأشكره وأستغفره وأتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي القدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، نبي طاعته من طاعة الله، واتباعه شرط في محبة الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد: أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى- وكونوا من المنتفعين بالوعظ والتذكير، وليكن للوعد والوعيد أثر على نفوسنا وجوارحنا.

 

 تَبصَّرْ -يا عبد الله- وانظر في نفسك هل يقشعرُّ جلدك وتَدْمَعُ عينُك عند ذكر أهل النار وما توعدهم الله به، خوفاً من عقوبة الله وذلاً بين يديه، واعترافاً بالتقصير؟

 

وهل تبتهج نفسك ويلين جلدك عند ذكر أهل الجنة وما أعد الله لهم فيها من النعيم والسعادة والهناء، فتشتاق ويهُب فيها داعي الجدَّ والاجتهاد والطموح لنيل أعْلَى الدرجاتِ، وأشرفِ المقامات؟

 

تذكر صفة الأبرار الذين يخشون ربهم حقاً فيتأثرون عند سماع الآيات القرآنية فتقشعر جلودهم من خشية الله، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، قال -تعالى-: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ)[الزمر: ٢٣].

قال ابن كثير -رحمه الله-: "هذه صفة مَن هداه الله، ومن كان على خلاف ذلك فهو ممن أضله الله، ومن يضلل الله فما له من هاد"، فهل أنت -يا عبدَ الله- من المؤمنين الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون؟ هل يزيدكُ سماع القرآن خشية ويغذي قلبك بالإيمان فَتْزداد قوة في طاعة الله والإنابة إليه؟

 

معشر المسلمين: ليكن للتذكير والوعظ أثرٌ على جوارحِنَا وخصوصاً عند سماع الوعد والوعيد، لقد توعد الله العصاة بأنواع من العقوبات، فليكن هذا الوعيد رادعاً لنا عن الوقوع في المعاصي والمحرمات، قال -تعالى-: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا)[المزمل: ١٢ – ١٣]، وقال -تعالى-: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا)[الإنسان: ٤]، وقال -تعالى-: (وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ)[الحج: ٢١]، فما أعظمه من تهديد ووعيد، يتعظ به من يخشى الله حقيقة فيقلع عن المعاصي خوفاً من عقوبته -تعالى-، وينيبُ إليه ويندَمُ على ما حصل من غفلة وتقصير.

 

ومما يزيد المؤمن خشيةً من عقاب الله: تذكره لحالة أهل النار وما يكون عندهم من حسرة وندم وأسف، قال -تعالى- (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا)[الأحزاب: ٦٦ – ٦٧]، فتذكر أخي المسلم حالة هؤلاء وهم يسحبون في النار على وجوههم ويقال لهم إهانة ذوقوا مس سقر، تذكر قوله -تعالى-: (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ)[المؤمنون: ١٠٤]، وعتاب الله لهم بقوله: (أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ)[المؤمنون: ١٠٥].

 

تذكر زفيرهم وشهيقهم فيها، وشهيقها وفورانها حال إلقائهم فيها، وأنها تكاد تميز من الغيظ عليهم، وأنهم يلقون فيها أفواجاً كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها سؤال توبيخ وتقريع: ألم يأتكم نذير؟!، تذكر صراخهم فيها وعويلهم حال سقوطهم فيها وحال تعذيبهم، وحالتهم وهي ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر، والملائكة الغلاظ الشداد الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

 

تذكر ظلمتها ووحشتها ولهيبها، وأنها تطلع على الأفئدة، وأن صاحبها يأتيه الموتُ من كل مكان وما هو بميت، وأنها مُغْلَقةُ الأبوابِ على أصحابها، وأنهم لا يقضى عليهم فيموتوا، ولا يخفف عنهم من عذابها، كل هذا سيحصل -يا عباد الله- وأكثر منه للكفار والمنافقين، فهل من مدكر؟

 

 تذكر هذا كله وأكثر منه وقارن بينه وبين ما وعد الله به المؤمنين والمؤمنات من الجناتِ والخلودِ فيها والمساكنِ الطيبة والرضوانِ من الله -تعالى-، قال -تعالى-: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[التوبة: ٧٢]، فالفرق كبير بين من يعمل أعمالاً صالحة تكون سبباً لرفعته إلى أعلى عليين، ومن يعمل أعمالاً سيئة تكون سبباً لهبوطه إلى أسفل سافلين.

 

 أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: ١٦]، بارك الله...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد الله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعله عوجاً، قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات بأن لهم أجراً حسناً، ماكثين فيه أبداً، أحمده -تعالى- وأشكره، وأستغفره وأتوب إليه.

 

 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو بها النجاة من عذابه والفوز بجناته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، نبي بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خيرِ آل وصحبٍ، وكذا من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد: أيها المسلمون: فإن التأثر بالمواعظِ من علامة خشية الله، قال -تعالى-: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى)[الأعلى: ٩ – ١٠]، فمن يخاف من عقوبة الله حقاً أكثر انتفاعاً من غيره لما عنده من التصديق لما يسمع من كلام الله، قال -تعالى-: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ)[ق: ٤٥].

 

أما أهل الضلال فتظهر حالتهم وكراهتهم للذكر ومخالفتهم له عند السماع، ومن ذلك ما قال الله عنهم: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)[فصلت: ٢٦]، وقال -تعالى-: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ)[محمد: ١٦].

 

وقال عن الكفار من قوم نوح مبيناً أنهم لم يقبلوا دعوته ونصيحته: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا)[نوح: ٥ – ٧].

 

 اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب، اللهم اشرح صدورنا للإسلام، اللهم نور قلوبنا بالإيمان، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

 

(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life