الرؤى والأحلام

د. منصور الصقعوب

2025-11-16 - 1447/05/25
عناصر الخطبة
1/أقسام ما يراه الإنسان في نومه 2/آداب التعامل مع الرؤى والأحلام 3/أصدق الناس في الرؤى 4/التحذير من الكذب في الرؤى والأحلام 5/شروط تأويل الرؤى 6/أخطاء في تعبير الرؤى والأحلام.

اقتباس

الرؤيا تسرُّ ولا تضر، وقد تقع وقد لا تقع، فإن رأيت ما تحب وفُسِّر لك على ما تحب فافرح ولا تقطع، فربما أخطأ المعبر وإن كان عارفاً، فلقد عبر أبو بكر رؤيا بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم- له فقال له: "أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً"، فما بال البعض يرى تعبير المعبر واقعًا بلا محيد، فربما أخطأ الرائي أو وهم، وربما أخطأ المعبر أو خلط...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله....

 

وبعد: فإذا كان المرء في يقظته تقابله مواقف متعددة ما بين خير وشر وبشرى وإنذار وفرح وحزن، فإنه في حال النوم يقابله مثل ذلك وأكثر، ففي عالم الرؤى والأحلام تمر بالمرء أحوالٌ مختلفة، ما بين مفرحة ومحزنة مبشرة ومكدرة، يضع المرء رأسه ليرتاح فينام النومة يقوم منها فزعاً مما رأى في منامه، ولربما بقي فزعاً مدة، أو ينام النومة فيرى ما يستبشر به، فيود لو طالت نومته وما قام منها، وهذا وهذا كلاهما في فِراشه ما تحرَّك ولا تكلم.

 

ونتيجةً لهذه الأحوال والأحلام راجت سوق مُعبّري الرؤى، وتصدروا البرامج يعبرون لهذا وذاك، واختلط الحابل بالنابل، وأفتى في الرؤى الثقة الذي يحسن، والمتلاعب الذي لا يحسن، وبالغ البعض في ملاحقة المعبرين، فصار يسأل عن رؤاه أكثر من سؤاله عن دينه.

 

وبابٌ كهذا لم تتركه الشريعة بلا ضوابط، بل قررت له أحكاماً ومنهجاً ينبغي للمسلمين العنايةُ به كي تكون أحلامهم ورؤاهم خيراً وبشرى لهم.

 

وبادئ ذي بدئ يُقال: إن ما يراه النائم ليس كله رؤيا، فثمة تلاعبٌ من الشيطان، لا زمام له ولا خطام، وذاك لا ينبغي أن تذكره لأحد ولا أن تبحث له عن تأويل، وقد قال رجل يا رسول الله إني رَأَيْتُ في المَنَامِ كَأنَّ رَأْسِي ضُرِبَ فَتَدَحْرَجَ فَاشْتَدَدْتُ أعدو علَى أَثَرِهِ، فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "لا تُحَدِّثِ النَّاسَ بتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بكَ في مَنَامِكَ". 

 

وثمة رؤيا تراها وتسوؤك، لأن ظاهرها ما تكره، فهذه لا تبحث لها عن تأويل، بل انْسها والْهُ عنها، ولا تبحث لها عن تعبير، وتعوَّذ بالله من شرِّها ومن الشيطان، ولا تُحدِّث بها أحداً، فإن فعلت ذلك لم تضرك، وفي الصحيح قال أحد الصحابة: إن كنت لأرى الرؤيا فتُمرضني حتى سمعتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: "إذا رأى ما يكرهُ فليتعوذْ باللهِ من شرِّها ومن شرِّ الشيطانِ، ولْيَتْفِلْ ثلاثًا ولا يُحدِّثْ بها أحدًا، فإنها لن تضرَّه"، وفي لفظ: "فلْيتحول عن جنبه الذي كان عليه"، وفي لفظ: "فإذا رأى أحدُكم ما يكرهُ فليَقُمْ فليُصَلِّ".

 

وأما الثالث فهي الرؤيا الصالحة، وهذه جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة كما قال -صلى الله عليه وسلم-، ولا ينبغي أن تقصّها إلا على مَن يُحْسِن، وذاك مقام فتوى لا يجوز وُلوجه إلا لمن يعرف، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يقُصُّها إلَّا على وادٍّ أو ذي رأيٍ"؛ أي مُحِبّ أو ذي رأي عارف بالتأويل.

 

 ولا تُحدِّث برؤياك الحسنة إلا مَن تحب، وفي الصحيح: "إذا رأى أحدُكمْ ما يُحبُّ فلا يُحدِّثْ بهِ إلا منْ يُحبُّ"؛ وإذا ذكرتها لمعبر فينبغي له أن يحملها على الخير، وأن يعلم أن تأويلها تثبيت في الغالب لوقوعها، وفي الحديث "الرؤيا على رِجْلِ طائرٍ ما لم تُعبَرْ، فإذا عُبِرَتْ وَقَعت".

 

فإذا عُبِّرت على خيرٍ فاحمد الله واستبشر بها، ومع هذا فالرؤيا تسرُّ ولا تضر، وقد تقع وقد لا تقع، فإن رأيت ما تحب وفُسِّر لك على ما تحب فافرح ولا تقطع، فربما أخطأ المعبر وإن كان عارفاً، فلقد عبر أبو بكر رؤيا بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم- له فقال له: "أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً"، فما بال البعض يرى تعبير المعبر واقعًا بلا محيد، فربما أخطأ الرائي أو وهم، وربما أخطأ المعبر أو خلط، وإذا كان ابن سيرين -وهو من هو في تعبير الرؤى- يقول: إنما أُجيبُ بالظنِ، والظنُّ يُخطئُ ويُصيبُ، فما الظن بمن هو غيره.

 

قال المَرُّوْذِيُّ صاحبُ الإمامِ أحمد: أَدْخلتُ إِبْرَاهِيْمَ الحُصْرِيَّ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ فَقَالَ: إِنَّ أُمِّي رَأَتْ لَكَ مَنَاماً، هُوَ كَذَا وَكَذَا، وَذَكَرَتِ الجَنَّةَ، فَقَالَ أحمد: يَا أَخِي الرُّؤيَا تَسُرُّ المُؤْمِنَ وَلاَ تَغُرُّهُ، فإِنَّ سَهْلَ بنَ سَلاَمَةَ كَانَ النَّاسُ يُخْبرُونَه بِمِثلِ هَذَا، وَخَرَجَ إِلَى سَفكِ الدِّمَاءِ.

 

وكان سفيان الثَّوريُّ إذا قيل له: إنَّه رئي في المنام على حالٍ تسرُّ، يقول: "أنا أعرفُ بنفسي من أصحاب المنامات"؛ فيُزري على نفسه؛ دفعًا للاغترار والإخلاد إليها.

 

ولا يجوز للمرء أن يرتب على أحلامه أحكاماً ويتهم أناساً لأجل رؤيا، فذاك قلة فقه، وقد دخل شريكُ بن عبد الله القاضي على الخليفةِ المهديِّ، فلما رآه قال: عليَّ بالسيفِ والنَّطْعِ، قال: ولمَ يا أميرَ المؤمنين؟ قال: رأيتُ في منامي كأنك تطأُ بساطي، وأنتَ مُعرضٌ عَنِّي، فقصصتُ رؤيايَ على من عَبَّرها فقال لي: يُظهرُ لك طاعةً ويضمرُ معصيةً، فقال له شريكٌ: واللهِ ما رؤياكَ برؤيا إبراهيمَ الخليلِ، ولا إن مُعبِّرَكَ بيوسفَ -عليه السلام-، أفبالأحلامِ الكاذبةِ تضربُ أعناقَ المؤمنين؟ فاستحي المهديُ وقال: اخرجْ عني.

 

فما بال البعض ربما هجر بعض أقاربه لأجل رؤيا منام!

 

يا كرام: ويكثر وقوع الرؤى الصادقة في آخر الزمان، وأصدق الناس رؤى هو الصادق في حديثه في اليقظة، وفي الصحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا اقترب الزمانُ لم تكدْ رؤيا المسلمِ تكذبُ، وأصدقُهم رؤيا أصدقُهم حديثًا".

 

لأجل هذا قال ابن القيم: "ومن أراد أن تصدق رؤياه فليتحرَّ الصِّدقَ وأكلَ الحلال والمحافظةَ على الأمر والنّهي، ولينم على طهارةٍ كاملةٍ مستقبلَ القبلة، ويذكر الله حتّى تغلبه عيناه؛ فإنّ رؤياه لا تكاد تكذب البتّة".

 

ولئن كان الكذب حراماً إلا أن أشد الكذب: الكذبُ في الرؤيا، حتى وإن قصد بذلك مصلحةً، فيسوق من خياله أنه رأى كذا وكذا، وهو لم ير، وفي الصحيح "إن من أفرى الفِرَى أن يُري الرجل عينيه في المنام ما لم ترَ".

 

قال الطبريُّ: إنما اشتدَ الوعيدُ في الكذبِ في الحُلْم مع أنَّ الكذبَ في اليقظةِ قد يكونُ أشدَّ مفسدةً منه؛ لأنَّ الكذبَ في المنامِ كذبٌ على الله، لحديث "الرؤيا جزءٌ من النبوة"، وما كانَ من أجزاءِ النبوةِ فهو مِن قِبَل اللهِ.

 

عباد الله: تطلب الرؤى وذكرها في المجالس لا إشكال فيه، بل كان النبي -صلى الله عليه وسلم؛ كما قال سمرة بن جندب- مما يكثر أن يقول لأصحابه: "هل رأى أحد منكم من رؤيا؟"؛ فيقص عليه مَن شاء الله أن يقص.

 

فإذا كان الرائي صادقاً، والمعبر عارفاً، فذاك قد يكون حقاً للخاصة أو للعامة، وكم سيق في مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم-. 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده...

 

عالم تأويل الرؤى عالم فتوى، كما في سورة يوسف: (أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ)[يوسف: 43]، ولما عبر لهم يوسف -عليه السلام- قال: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ)[يوسف: 41].

 

وإن مما يؤسف له اليوم أن يكون مجال تأويل الرؤى حمى مستباحاً يلجه مَن لا يحسن، فضروا وأفسدوا، وترتب على صنيعهم مفاسد عديدة.

 

فقد يكون المتصدر للتأويل لا يعرف، أو يَعرف لكنه لا يحسن سوق التعبير بالصورة الأمثل، أو تنقصه الحكمة في الحديث، فحصل من أثر ذلك في بعض الأحيان إثارة للعداوات بين الأقارب والأصدقاء وبين الأزواج، حين يعبر لهم ما يُفرّق ويُشتّت.

 

وربما حصل دخولٌ في الخصوصيات مما لا علاقة له بالرؤى، أو التلفظ بما لا يليق على الملأ في قنوات التواصل.

 

ولربما استعان بعضهم بالجن، فتراه يخبر بأمور مفقودة، ونحو ذلك، ولربما أقحم بعضهم الرياضة ونتائج المباريات في تأويل الأحلام، وصار البعض بقصد التصدر يروج أن هذا الفريق سيفوز، ونحو ذلك من السخف الذي ينبغي أن ترفع عنه الرؤى التي هي من الله، وعامة ما يفسره هؤلاء هي أحاديث نفس لأقوام فتنوا بالمباريات حتى صارت في أحلامهم كما هي في يقظتهم، وما ذاك مما يُطلب له التعبير.

 

ولربما أدخل بعضهم الأحلامَ في قضايا الأمة، وخاض في أمور عظيمة بدون ورع ولا حكمة، وكل هذا مما يضر.

 

ولئن كانت هذه حال بعض المعبرين، فإن ثمة معبرين على ديانةٍ وحكمة وعقل ومعرفة، وهم بحمد الله كثير، محتسبون باذلون، يُفتون الناس في رؤاهم، وينصحون لهم حين يعبرون، وكم من معبرٍ كان تعبيره وتوجيهه من بعد ذلك سبباً لخير وهداية للرائي، فبارك الله في أوقاتهم وليتحسبوا الأجر فيما يعبرون، فذاك باب أجر لهم وخير.

 

وبعد: فإذا كان في الرؤى ما هو حق، ففي كثير من الأحلام ما هو بخلاف ذلك.

 

وإذا كان المرء يفرح إن رأى رؤيا تسره، فينبغي أن يفرح ويحرص على أن تكون حاله في يقظته تسره، باستقامة حاله، والناس يؤجرون على ما يكون في يقظتهم.

 

فهنيئاً لمن أصلح حاله مع ربه، وقد قال ابن سيرين: "اتق الله وأحسن في اليقظة، فإنه لا يضرك ما رأيت في المنام".

 

وصلوا وسلموا....

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life