الفرج بعد الشدة

د. منصور الصقعوب

2025-11-20 - 1447/05/29
عناصر الخطبة
1/الدنيا لا تدوم على حالة واحدة 2/تقلب أحوال البشر بين السراء والضراء 3/حسن الظن والأمل في رحمة الله تعالى 4/من فوائد الابتلاءات والمِحَن 5/انتظار الفرج وحسن الرجاء في الله تعالى.

اقتباس

ستمضي هذه الدنيا بشدائدها وابتلاءاتها، بحُلوّها ومرّها، وليس الشأن كيف تتنعم فيها، بل الشأن كيف تُرضي الله فيها، فاحمد الله أن أبقى لك دينك وجعل ابتلاءك في دنياك، وانظر لمن هم أشد منك بلاء، واحمد ربك أن لم يكن البلاءً أشد مما هو، وارضَ بما قدّره عليك مولاك...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله....

 

الإنسان في هذه الحياة يُقلّبه الله الحكيم -سبحانه- بين أحوالٍ مختلفة، بين الصحة والمرض، والسعادة والحزن، والغنى والفقر، والسفر والإقامة، والخوف والأمن، والجوع والشبع، وبين الخير والشر، والنفع والضر.

 

ولئن كانت الأكدار تؤذي وتُعنِّي، فإن المسلم تجده مرتاحَ الخاطر أينما توجهت به الأمور، ومهما مرّ به من أحوال، فإنه يعلم أن العسرَ يتبعه اليسر، والهناءَ بعد العناء.

 

ولقد تقرر في ذهن المسلمين أن الفرج بعد الشدة، فكم رأوا في الزمان من اشتدت عليه الكرب ففرَّج الله عنه كربته، وأزال غُمَّته.

 

والشدائدُ تتفاوت، فالمرضُ والعقم، والسجنُ والغربة، والحربُ والكرب، والفقرُ والعَوَز، والرهبةُ والخوف، كلها شدائد، يستقلّ الناس منها ويستكثرون، والناس فيها يتمايزون بقدر رضاهم عن الله، وصبرهم على بلائه وانتظارهم غِيَره، فدعونا نتذاكر ما يعين على استشعار ذلك، ليقر في القلب اليقين بالرضا وتلمس الفرج.

 

أيها المسلم: الأجر يبحث عنه المرء أينما كان، وربما كان الأجر فيما تكره لا ما تحب، فحين تأتيك الشدة، فارضَ بها ولا تجزع، فالله:

إذا منّ بالسرّاء عمّ سرورها *** وإن مسّ بالضرّاء أعقبها الأجرُ

 

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن يرد الله به خيراً يُصِبْ منه"(رواه البخاري)، وأخبر "أنّ الله إذا أحبّ قوماً ابتلاهم"(رواه الترمذي)، وفي الحديث «ما يصيب المسلم من نَصَب، ولا وصب، ولا همٍّ، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه»، و«ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة».

 

وكم تهون الشدائد، ويحلو الصبر، عند سماع قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "إذا سبقت للعبد من الله منْزلةٌ لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صبَّرَه، حتى يُبَلِّغَه المنْزلة التي سبقت له منه».

 

وقد قيل: المِحَن تأديبٌ من الله، والأدبُ لا يدوم، فطوبى لمن تصبَّر على التأديب، وتثبت عند المحنة.

 

وكتب محمد بن الحنفية إلى أحد السلف بعد إخراج الأمير له من بلده، يقول: يا ابن عم، إنما يُبْتَلى الصالحون، وتُعدّ الكرامة للأخيار، ولو لم تؤجر إلا فيما تحب، لقلّ الأجر، وقد قال الله: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة: 216].

 

وبرئ أحدُ الأولين من عِلَّةٍ كان فيها، فقال له الفضل بن سهل: "إن في العِلل لَنِعماً لا ينبغي للعاقل أن يجهلها: تمحيصٌ للذنب، وتعرّضٌ لثواب الصبر، وإيقاظٌ من الغفلة، وتذكير بالنعمة في حال الصحة، واستدعاءٌ للمثوبة، وحضٌّ على الصدقة، وفي قضاء الله وقدَره بعد ذلك الخير".

 

أيها المبتلى: لقد ابتلى الله أفاضل الناس وصفوة الخلائق. وابتلاؤه -سبحانه- تكفير ورفعة، وزيادة زلفى وقربة.

أولم يَبْتَلِ أيوب بالمرض، ثم كَشَف عنه بعد طول ضر؟ أولم يَبْتَلِ زكريا بالعقم، ثم رزقه الولدَ بعد كِبَر؟ أولم يَبْتَلِ يونس ببطن الحوتِ ثم أخرجه سالماً؟

 

أولَم يَبْتلِ يوسف بالبئر ثم بالسجن ثم أخرجه وجعله عزيزًا؟ وإبراهيمَ بالإلقاء بالنار ثم نجاه وجعلها برداً وسلاماً؟ تلك سنته في الأنبياء، ومَن بعدهم ممن آمَن فعلى التبع، يتنوع البلاء، فمن رضي فله الرضا، ومن سَخِط فله السخط.

 

يا أيها المبتلى: لا تجزع فكم من عِلَّةٍ صارت مِنّة، ونقمةٍ تجلّت عن نعمة، وقد قيل: العاقلُ لا يذلّ بأول نكبة، ولا يفرحُ بأول نعمة، فربما أقلع المحبوب عمّا يضر، وانجلى المكروه عما يَسُرّ.

 

فصبراً على حلو القضاء ومرّه *** فإنّ اعتياد الصبر أدعى إلى اليسر

وخير الأمور خيرهنّ عواقباً *** وكم قد أتاك النفع من جانب الضرّ

 

يا أيها الموفق: حين يشتدُّ بك الكربُ، ويطولَ بك الغمُّ؛ فاعلم أن الفرج ربما لم يكن بينك وبين وقوعِه إلا لحظة، وكان يقال: العاقل يتعزَّى فيما نزل به من المكروه بأمرين؛ أحدهما السرور بما بقي له، والآخرُ رجاء الفرج مما نزل به. والجاهلُ يجزع في محنته بأمرين؛ أحدهما استكثار ما أُدِي إليه، والآخر تخوّفه مما هو أشد منه.

 

يا أيها المبتلى بشدة: الفرج قريب والحال ستتبدل، فدوام الحال محال، وقد كان عمرو بن أحيحة يقول: "عند تناهي الشدة، تكون الفرجة، وعند تضايق البلاء، يكون الرخاء، ولا أبالي أيّ الأمرين نزل بي عسرٌ أم يسر؛ لأن كلّ واحد منهما يزول بصاحبه".

 

كذا تكون القلوب المتعلقة بالله؛ لأنها علمت أن الله حكيم له في كل تقدير حكمة وإن غابت عنا، وعلمت أن الله لطيف إذا ابتلى لطف. فاللهم رضِّنا بقضائك وصبرنا على بلائك.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده....

 

فيا أيها المبتلى بالشدة: تذكر أن الضجر لا يُغيِّر من الواقع شيئاً، بل إنه يزيدك همّا وكرباً، وقد قيل: احذر الضجر، إذا أصابتك أَسِنَّةُ المِحَن، وأعراضُ الفتن، فإن الطريق المؤدي إلى النجاة صعب المسلك.

وأما الصبور، فإنه يدرك أحمد الأمور.

 

يا أيها المبتلى بشدة: الأيام وإن مرت بالأكدار فإن الكدر مع الصبر رفعة وأجر، والمحروم حقاً من حرم الصبر والاحتساب، وتبرم من حكم الحكيم الوهاب، قال علي-رضي الله عنه-: "إنك إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور"، فحين يَمسَّك طائفٌ من الابتلاء والشدّة فأحسن الظن بالمولى، فهو القائل كما في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء".

 

أيها المبتلى: لئن دام البلاء، وطالت الظلمة فإن الصبح سيأتي فالله يرى المبتلى، وفرجُه قريب؛ ولربما كان سببُ الفرج بعد توفيق الله معروفٌ فعلته ولو صغر، فقد أنجى الله يونس لأنه كان من المسبّحين، وكم من مكروب زالت كُربته لأجل صدقة بذلها، وكُربةٍ عن غيره فرّجها، ففرج الله عنه.

 

غضب الخليفة المهديُ على يعقوب بن داود، فحبسه في بئر بنيت عليها قبة، قال: فكنت فيها خمس عشرة سنة، حتى مضى صدر من خلافة الرشيد، وكان يُدلَّى لي في كلِّ يومٍ رغيفٌ وكوز ماء، وأؤذن بأوقات الصلاة، فلما كان رأس ثلاث عشرة سنة، أتاني آتٍ في منامي، فقال:

حَنَا على يوسفٍ ربٌّ فأخرجه *** من قعر جبّ وبئر حولها غمم

 

فحمدت الله -تعالى-، وقلت: أتاني الفرج، ثم مكثت سنة لا أرى شيئاً، فلما كان رأس الحول، أتاني ذلك الآتي، فقال:

عسى فرجٌ يأتي به اللّه إنّه *** له كلّ يوم في خليقته أمر

 

ثم أقمت سنة لا أرى شيئاً، ثم أتاني ذلك الآتي، بعد الحول، فقال:

عسى الكرب الّذي أمسيت فيه *** يكون وراءه فرج قريب

فيأمن خائف ويُفكّ عانٍ *** ويأتي أهلّه النائي الغريب

 

فلما أصبحت نُوديت، فظننت أني أؤذن بالصلاة، فدُلي إليَّ حبل وقيل لي: شُدَّ به وسطك، ففعلت، فأخرجوني، فلما تأملت الضوء، غشي بصري، فأخذوني وألبست ثياباً، وأدخلت إلى مجلس، فقيل لي: سلم على أمير المؤمنين.

 

فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين المهدي

فقال: لست به، لقد مات المهدي.

فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين الهادي

فقال: لست به، فلقد مات.

فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين الرشيد.

 

فقال: وعليك السلام، يا يعقوب بن داود، والله ما شفع أحدٌ فيك إليَّ، غير أني حَملتُ الليلةَ صبيةً لي على عنقي، فذكرت حملك إياي على عنقك، فرثيت لك من المحل الذي كنت فيه، فأخرجتك، ثم أكرمه، وقرّب مجلسه.

 

وبعد فيا أيها المصاب بشدة: ستمضي هذه الدنيا بشدائدها وابتلاءاتها، بحُلوّها ومرّها، وليس الشأن كيف تتنعم فيها، بل الشأن كيف تُرضي الله فيها، فاحمد الله أن أبقى لك دينك وجعل ابتلاءك في دنياك، وانظر لمن هم أشد منك بلاء، واحمد ربك أن لم يكن البلاءً أشد مما هو، وارضَ بما قدّره عليك مولاك، واجعل دار الابتلاء مركباً موصلاً إلى أعالي درج الجنة هناك.

 

وصلوا وسلموا....

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life