عناصر الخطبة
1/تنظيم الإسلام أحكام الأموال تصريفاً واكتساباً 2/الأمر بتوثيق الحقوق 3/أهمية توثيق الديون وكتابة الحقوق 4/شروط الوصية الشرعية 5/من صور الإضرار في الوصية 6/من آداب الوصية 7/ صيغة لوصية كتبها بعض أهل العلم.

اقتباس

شُرع للمسلم، بل قد يكون واجباً، بيان ما له وما عليه من الحقوق، لا سيما عند عدم الكتابة والإشهاد، لحفظ أموال الورثة أو حتى لا يأكلون ما لا يستحقون، ويأخذون ما ليس لهم، والإثم والوزر على من فرط، حتى ضاعت الحقوق، وطالت الأمور بين أروقة المحاكم، وكان بالإمكان وبأسهل ما يكون توثيق ذلك في وصية يسيرة...

الخطبةُ الأولَى:

 

الحمد لله؛ نحمده -سبحانه- ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل من صلى وزكى وصام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً.

 

أما بعد: عباد الله: لقد نظّم لكم ربكم أحكام الأموال تصريفاً واكتساباً في الحياة وبعد الممات، كما عظّم حرمة أموال المسلمين، فحرّم التعدي عليها بكافة الأشكال؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)[سورة النساء: 29].

 

وفي الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحلُّ مال امرئ مسلم من مال أخيه شيء إلا بطيب نفس منه"(رواه الدارقطني، والترمذي).

 

ولهذا أمر بتوثيق الحقوق في وقت لم تكن العرب تكتب، فأمر بكتابة الدَّيْن؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ)[البقرة: 282]؛ بل هي أطول آية في كتاب الله -عز وجل-، وأمر بالإشهاد على البيوع: (وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ)[البقرة: 282].

 

وطلب توثيق البيع بالرهان، إن تعذرت الكتابة والشهود؛ (وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ)[البقرة: 283].

 

وأرشد المسلمين إلى أمر فوق ذلك بأن وكل الأمر مع ذلك إلى أمانتهم؛ (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ)[البقرة: 283]، هذا في الحياة.

 

وكذلك الأمر بعد الممات، فقد حسم الله بنفسه المواريث؛ (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا)[النساء: 11].

 

وأخبر أنها من حدوده، وحذَّر من التساهل فيها، فقال -سبحانه وتعالى- بعد آية المواريث: (وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ)[النساء: 14].

 

عباد الله: من أجل هذا وغيره شُرع للمسلم بل قد يكون واجباً ببيان ما له وما عليه من الحقوق، لا سيما عند عدم الكتابة والإشهاد، لحفظ أموال الورثة أو حتى لا يأكلون ما لا يستحقون، ويأخذون ما ليس لهم، والإثم والوزر على من فرط، حتى ضاعت الحقوق، وطالت الأمور بين أروقة المحاكم، وكان بالإمكان وبأسهل ما يكون توثيق ذلك في وصية يسيرة.

 

يقول المولى -سبحانه وتعالى-: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)[البقرة: 180]، كانت الوصية واجبة قبل المواريث فأصبحت مستحبة وسنة مؤكدة، بل واجبة عند خوف إضاعة الحقوق، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وعنده شيءٌ يُوصِي فيه إلا وصيته مكتوبة عند رأسه"(رواه الطبراني)؛ قال ابن عمر: فوالله ما تركت ذلك منذ سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

فتوثيق الديون، وكتابة الحقوق، أمرٌ في غاية الأهمية لتبرئة الذمم؛ فإننا مسؤولون، فلا تأخذنا غفلة الحياة عن هذا الأمر العظيم مع سهولته ويسره.

 

والوصية -عباد الله- قد تكون واجبة في هذه الأحوال، كما أنها تستحب في أغلب الأحوال، وذلك بأن يوصي أولاده وذويه بتقوى الله -تعالى-، وعدم الاختلاف، وأن يوصي بعد موته ببعض ماله إن كان ميسوراً، وإن أوقفه في حياته كان أعظم أجراً ليستمر نفعه بعد موته، يقول -سبحانه وتعالى-: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)[البقرة: 180].

 

وهذه الآية، وإن كانت نسخت وجوباً، ونُسِخَت في الوالدين والورثة بعد آيات المواريث، فلا زالت مشجعة في أعمال الخير، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو عِلم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له"(رواه مسلم).

 

ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "إن الله تصدَّقَ عليكم بثلث مالك بعد موتكم زيادة في حسناتكم"(رواه الدارقطني).

 

فيا حسرةً من فَرْطٍ في هذه الهدية الإلهية، فالوصية لها شرطان، ألا تكون أكثر من الثلث، وألَّا تكون لوارث، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث"(رواه النسائي، وأبو داود).

 

فتحرم الوصية في هاتين الحالتين، وفي حالة ثالثة: وهي قصد الإساءة والإضرار، فلا يجوز له حرمان بعض الورثة، أو تفضيل بعضهم على بعض؛ يقول -سبحانه وتعالى-: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ)[النساء: 12].

 

ومن صور الإضرار: منع بعض الورثة من المال بأيّ حيلة من الحِيَل، فعلى الوصي أن يقصد بوصيته تقوى الله -تعالى- والرغبة في الخير، وأن يُخرج منها ما زاد عن حاجة ورثته، لحديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- لما أراد أن يُوصي بثلثَي ماله أرجعه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الثلث، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "يا سعد الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكفَّفون الناس"(متفق عليه).

 

ولأنه عدول عن الأقارب المحتاجين إلى الأباعد وهو خلاف مقصود الشرع، فالوصية بالثلث إنما تُستحَب للأغنياء الموسرين، وما عداهم فلا بد من مراعاة حال الورثة، فربما كان الأفضل السدس أو أكثر من ذلك أو أقل، وعليه في وصيته مراعاة المحتاجين من الأقربين، وأن يجعل فيها سهماً لخدمة الدعوة إلى الإسلام وأعمال البر العامة.

 

كما لا يجوز الوصية في الأمور المبتدعة؛ كالنياحة، والتبذير، والبناء على القبور، والتكفين بالحرير، والإسراف في البناء، أو زخرفة المساجد، ونحو ذلك.

 

وتتأكد الوصية عند السفر أو اشتداد المرض أو استقبال خطر، والحزم فِعْلها حال الصحة والرضاء، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وعند شيء يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه"(رواه الطبراني).

 

ولا تؤخر في الحالات الحرجة، والأولى الوقف حال الحياة، وإمضاؤها قبل الوفاة.

 

وقد قال -عليه الصلاة والسلام- عندما سئل: أيُّ الصدقة أعظم أجراً؟ قال -عليه الصلاة والسلام-: "أن تصدَّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تهمل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم، قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان كذا"(متفق عليه).

 

عباد الله: الوصية مشروعة باتفاق المسلمين، دلَّ عليها كتاب ربنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "من مات وقد أوصى مات على سبيل وسُنة"، وهي سبيل لعدم انقطاع الأعمال بعد الوفاة، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث وذكر منها صدقة جارية"(رواه مسلم).

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا وإياكم بسنة خير المرسلين، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله إقراراً بوحدانيته، والشكر له على سوابغ نعمته، وفَّق أهل الإيمان بصدق معاملته، ومَنَّ على العاصي بقبول توبته، ومد للمسلم عملاً صالحاً بوصيته، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأزواجه بإحسان إلى يوم الدين.

 

اتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من أدب الوصية: الوصية بتقوى الله وتوحيده، وما يتفرع من ذلك من العمل الصالح والألفة والاجتماع، وتأملوا قول المولى -سبحانه وتعالى- في وصية إبراهيم -عليه السلام-: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[البقرة: 131]، ثم امتدحهم -سبحانه وتعالى- بقوله: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ)[البقرة: 143].

 

عباد الله: هذه صيغة لوصية كتبها بعض أهل العلم:

هذه وصية فلان، وهو يشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبدالله ورسوله، وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.

 

أوصي أهل بيتي بتقوى الله -عز وجل- في السر والعلن، والحرص على طاعته والبعد عن معصيته، وأن يكونوا يداً واحدة متواصين متعاونين على البر والتقوى.

 

واعلموا أني مفارقكم وإن طال المدى، فهذه أدوات السفر تجمع، ومنادي الرحيل يسمع، ولو عمر ألف سنة: إن الله كتب الموت على بني آدم، فهم ميتون (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)[الزمر: 30 -31].

 

فأكيسهم أطوعهم لربه، وأعملهم ليوم معاده، هذه وصية مودع ونصيحة مشفق، حسبي وحسبكم الله لم يخلق الخلق هملاً ولكن ليبلوكم أيكم أحسن عملاً.

 

فأوصيكم بالصلاة أعظم فرائض الدين، والتوحيد، والزكاة، والصوم، والحج مع الاستطاعة، وعليكم بالعلم النافع والعمل الصالح، وعليكم بالاجتماع وصلة الأرحام ولا تفتنكم الدنيا فتفرقكم.

 

الزموا الصدق فإنه شعار المؤمنين، وعلى نسائي الحجاب والحشمة، واحذروا التباغض والحسد، وعلى أولادي الكبار أن يتقوا الله في إخوتهم الصغار، وأن يربوهم التربية الصالحة وعليهم البر بأمهم، ثم على الجميع تقوى الله فإنها جماع الأمر، والسلام عليكم من حبيب مودع.

 

ونحو ذلك من العبارات.

 

ثم يبين الوصية بالمال والحقوق من دين ونحوه، ثم أن يشهد على الوصية إن تيسر، وأن يطلع عليها ذو علم وبصيرة، وعلى الوارث تقوى الله -تعالى- وألا يخفي الوصية أو يتصرف فيها (فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[البقرة: 181].

 

وفَّقني الله وإياكم لطاعته، وعملاً بقول المولى -سبحانه وتعالى-: (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ)[النساء: 11]، وقول نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وعنده ما يوصي به إلا وصيته مكتوبة عند رأسه"(رواه الطبراني).

 

أقول ما تسمعون، سائلاً المولى -سبحانه وتعالى- أن ينفعنا بالقرآن العظيم وبسنة نبيه الكريم، ثم أُصلِّي وأُسلِّم على النبي الكريم.

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life