اقتباس
ومنها: الدعاء مع كل فعل من أفعال الوضوء: مع أنه لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه دعا أثناء الوضوء، وإنما كان -صلى الله عليه وسلم- يذكر ربه أول الوضوء وآخره؛ فأما في أوله فقد روي أبو هريرة أن..."
ديننا هو دين الطهارة والنقاء؛ طهارة معنوية وطهارة حسية، ونقاء روح ونفس مع نقاء الجسد والثوب... لدرجة أن ديننا قد اشترط لصحة عبادة عظيمة كالصلاة أن يكون المسلم طاهرًا من الحدثين الأكبر والأصغر، فالأكبر يطهر منه بالغسل: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) [المائدة: 6]، والأصغر يطهر منه بالوضوء: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)[المائدة: 6]، وعن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"(متفق عليه).
بل لقد جعل نبينا -صلى الله عليه وسلم- الطهارة شطر الإيمان؛ فعن أبي مالك الأشعري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الطهور شطر الإيمان"(رواه مسلم)، "فقيل معناه: أن الأجر فيه ينتهي تضعيفه إلى نصف أجر الإيمان، وقيل معناه: أن الإيمان يجب ما قبله من الخطايا وكذلك الوضوء؛ لأن الوضوء لا يصح إلا مع الإيمان فصار لتوقفه على الإيمان في معنى الشطر، وقيل: المراد بالإيمان هنا الصلاة كما قال الله -تعالى-: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ)[البقرة: 143]، والطهارة شرط في صحة الصلاة فصارت كالشطر، وليس يلزم في الشطر أن يكون نصفًا حقيقيًا، وهذا القول أقرب الأقوال"(شرح النووي على مسلم).
ولهذا فإن للوضوء في دين الإسلام كثير من الفضائل والخصائص والمزايا، أولها: أن الوضوء شعار أهل الإسلام وسيماهم وبه يُعْرَفون ويُميَزون يوم القيامة؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى المقبرة، فقال: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا" قالوا: أولسنا إخوانك؟ يا رسول الله قال: "أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد"، فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك؟ يا رسول الله فقال: "أرأيت لو أن رجلًا له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟" قالوا: بلى يا رسول الله قال: "فإنهم يأتون غرًا محجلين من الوضوء"(متفق عليه)، وليس بعيدًا عن هذا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "تبلغ الحلية من المؤمن، حيث يبلغ الوضوء"(رواه مسلم).
والوضوء باب واسع من أبواب تكفير الذنوب ومحو الخطايا؛ فعن عثمان بن عفان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من تحت أظفاره"(متفق عليه)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا توضأ العبد المسلم -أو المؤمن- فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء -أو مع آخر قطر الماء-، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء -أو مع آخر قطر الماء-، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء -أو مع آخر قطر الماء- حتى يخرج نقيًا من الذنوب"(رواه مسلم).
ومن فضائل الوضوء أيضًا أن المحافظة عليه من دلائل الإيمان وعلاماته؛ فعن ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "... ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن"(رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)
****
لكن -وللأسف الشديد- فإن فئامًا من الناس يضيِّعون كل هذا الفضل والخير العميم -أو بعضه-؛ بأخطاء يرتكبونها عند وضوئهم:
فمنها: عدم إسباغ الوضوء؛ أي عدم إتمامه وإكماله وإحسانه؛ فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: رجعنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا بماء بالطريق تعجل قوم عند العصر، فتوضئوا وهم عجال فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء"(متفق عليه).
ومنها: غسل أعضاء الوضوء أكثر من ثلاث مرات؛ فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: جاء أعرابي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأله عن الوضوء؟ فأراه ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: "هكذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم"(رواه النسائي، وصححه الألباني).
ومنها: الإسراف في ماء الوضوء؛ فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر بسعد وهو يتوضأ، فقال: "ما هذا السرف"، فقال: أفي الوضوء إسراف، قال: "نعم، وإن كنت على نهر جار"(رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني).
ومنها: إدخال اليدين في إناء الوضوء بعد النوم دون غسلها؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "... وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده"(متفق عليه).
ومنها: الدعاء مع كل فعل من أفعال الوضوء؛ مع أنه لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه دعا أثناء الوضوء، وإنما كان -صلى الله عليه وسلم- يذكر ربه أول الوضوء وآخره؛ فأما في أوله فقد روي أبو هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله -تعالى- عليه"(رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، وأما في آخره، فعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ -أو فيسبغ- الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد الله ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء"(رواه مسلم).
***
وأما عن الكيفية الصحيحة للوضوء فقد نقل إلينا حمران مولى عثمان بن عفان أنه رأى عثمان بن عفان -رضي الله عنه- دعا بوضوء، فأفرغ على يديه من إنائه، فغسلهما ثلاث مرات، ثم أدخل يمينه في الوضوء، ثم تمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثًا ويديه إلى المرفقين ثلاثًا، ثم مسح برأسه، ثم غسل كل رجل ثلاثًا، ثم قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يتوضأ نحو وضوئي هذا، وقال: "من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر الله له ما تقدم من ذنبه"(متفق عليه)، فهذا هو وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
هذا وقد بقيت أمور كثيرة في الوضوء؛ موجباته وأركانه وسننه ومكروهاته ونواقضه... وقد تناول هذه الموضوعات وغيرها خطباء نابهون متفقهون ومفوهون، وقد نقلنا ها هنا بعضًا من خطبهم فلعلها تكون تعليمًا للجاهلين وتذكرة للعارفين:
التعليقات