عناصر الخطبة
1/اتباع الوحيين القرآن والسُّنة 2/تعظيم السلف الصالح للسنة النبوية 3/وجوب امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم أوامره 4/خطورة معارضة السنة بالرأي والهوى 5/السنة وحي كالقرآن 6/الدفاع عن السنة في أقوالها وتشريعاتها.اقتباس
واجبٌ علينا الدفاع عن السنة في أقوالها وتشريعاتها، والدفاع عمن صدرت عنه وهو نبينا -صلى الله عليه وسلم-، واليقين أنه لا عز لنا ولا رفعة إلا بامتثال الوحيين، وتعظيمهما عملاً وقولاً، وكلما امتلأ القلب تعظيماً للسنة، وحباً لها، ازداد هدى وتقوى...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله....
يتفق جميع المسلمين على أن للقرآن كامل التعظيم، تُعظّم آياته وأوامره ونواهيه، بل وأوراقه وغلافه، ولا غرو فهو كلام رب العالمين، والمعجزة الخالدة إلى يوم الدين.
ومع هذا فإن لسُنّة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حقّ التعظيم والاحترام كذلك، فقائلها هو من لا ينطق عن الهوى، ومن أُوتي القرآن ومثله معه، فكم حوت من أوامر ونصوص، ولو تمسك الناس بهذين الوحيين لعزّوا، ولو اعتصموا بهما لعُصِمُوا.
وإطلالةٌ على تعظيم السلف للسنة تنبيك عن قدر السُّنة وقائلها في قلوبهم، وتُجلّي لك تقصيرنا تجاهها، والله المستعان.
لقد السلف يعظمون سنّة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وضربوا في ذلك النماذج العظيمة، ولن يحيط محيط بذلك في خطبة لكنها معالم وإشارات في هديهم.
فمن المعالم: اتباعهم للسنة وترك قول مَن خالفها، كائناً من كان، ولقد صرَّح أبو بكر -رضي الله عنه- بقوله: "لست تاركًا شيئًا كان رسول -صلى الله عليه وسلم- يعمل به، إلا عملت به، وإني لأخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ".
بل إن ابن عباس -رضي الله عنهما- لما أخبر ببقاء التمتع في الحج، قال عروة بن الزبير: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة! فقال ابن عباس: أراهم سيهلكون، أقول: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويقول: نهى أبو بكر وعمر!!(أخرجه أحمد).
وكم ستجدُ من أقوالٍ لأئمةٍ أنهم إذا ورد الكلام عن رسولنا فعلى الرأس والعين، وسمعاً وطاعةً، واضربوا بقولنا الحائط وخذوا بالحديث.
وثاني المعالم: تعظيمهم سماع السنة، ولهم في هذا عجيب الأحوال، قال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذَكر النبي -صلى الله عليه وسلم- يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوماً في ذلك؟ فقال: لو رأيتم ما رأيت؛ لما أنكرتم عليَّ ما ترون، لقد كنت أرى محمد بن المنكدر، وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا ويبكي حتى نرحمه، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد، وكان كثير الدعابة والتبسم؛ فإذا ذُكِر عنده النبي -صلى الله عليه وسلم- اصفر لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا على طهارة.
ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر -صلى الله عليه وسلم- فينظر إلى لونه كأنه نزف من الدم وقد جف لسانه في فمه هيبةً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذُكِرَ عنده النبي -صلى الله عليه وسلم- بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع.
ولقد رأيت الزهري، وكان من أهنأ الناس وأقربهم، فإذا ذُكر عنده النبي -صلى الله عليه وسلم- كأنه ما عرفك ولا عرفته.
ولقد كنت آتي صفوان بن سليم وكان من المتعبدين المجتهدين؛ فإذا ذَكر النبي -صلى الله عليه وسلم- بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه.
وأما ابن هبيرة فقد قال صاحب سيرته: كنا عنده يومًا المجلس غاصّ بولاة الدين والدنيا وأعيان الأماثل وابن شافع يقرأ عليه الحديث إذا فجأنا من باب الستر وراء ظهر الوزير صراخ بشع وصياح مرتفع فاضطرب له المجلس فارتاع الحاضرون والوزير ساكن ساكت، حتى أنهى ابن شافع قراءة الإسناد ومتنه، ثم أشار الوزير إلى الجماعة أن على رسلكم، وقام ودخل الستر ولم يلبث أن خرج فجلس وتقدم بالقراءة، فدعا له ابن شافع والحاضرون، وقالوا: قد أزعجنا ذلك الصياح، فإن رأى مولانا أن يعرفنا سببه، فقال الوزير: حتى ينتهي المجلس، وعاد ابن شافع إلى القراءة حتى غابت الشمس، وقلوب الجماعة متعلقة بمعرفة الحال، فعاودوه فقال: كان لي ابن صغير مات حين سمعتم الصياح عليه، ولولا تعيَّن الأمر عليّ بالمعروف في الإنكار عليهم ذلك الصياح لما قمت عن مجلس حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-(شذرات الذهب ج4/ص195).
عباد الله: ومن معالم تعامل السلف مع السُّنة: غضبهم على مَن خالف السنة ولو كان أقرب قريب، فإذا جاء في الأمر آيةٌ أو حديثٌ فليس لأحدٍ كلام بعد كلام الله ورسوله.
لقد غضب ابن عمر على ولده حين حدّث ابن عمر بحديث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"؛ فقال ابنه بلالٌ بدافع الغيرة: والله لنمنعهن!! فسبّه ابن عمر سباً شديداً ما سُمع مثله قط، كيف يعارض كلام رسول الله-صلى الله عليه وسلم-؟
وأما ابن مسعود فإنه حين حدّث أحدَ أصحابه بالنهي عن الخذف بالحصى عاد الرجل مرة أخرى فخذف، فقال: أُحدثك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عنه ثم تخذف! لا أُكلمك أبداً.
وأما ابن جبير فإنه حين حدّث بالحديث رفع رجل بينه وبين سعيد قرابة حصاة من الأرض فقال: هذه! وما يكون هذه! فقال سعيد: ألا أراني أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم تَهاون به، لا أكلمك أبداً.
وحدّث أبو معاويةَ الضريرُ يوماً عند هارون الرشيد بحديث أبي هريرة: "احتج آدم وموسى"؛ فقال عم الخليفة: أين التقيا يا أبا معاوية؟ فغضب الرشيد من عمّه غضبًا شديدًا، وقال: أتعترض على الحديث؟! عليّ بالنطع، والسيف، ليقتله، فقام الناس إليه يشفعون فيه، فقال الرشيد: هذه زندقة، ثم أمر بسجنه، وقال: لا يخرج حتى يخبرني مَن ألقى إليه هذا. فأقسم بالأيمان المغلظة ما قال له أحد، وإنما كانت بادرةً مني، فأطلقه.(البداية والنهاية: 14/ 32).
لم يكن في الحق مجاملة، ومادام النص قد جاء من الرسول -عليه السلام- فليس لأحدٍ بعده كلام.
معشر الكرام: ولقد كان السلف رجاعين للسنة، متّبعين لها، ضربوا في ذلك الأمثلة الرائعة، في المبادرة والمسارعة، لامتثال أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتعظيم أوامره، ولم يكن هذا عند الواجبات فحسب، بل تعدى ذلك إلى المستحبات.
أخرج أحمد بإسناد حسن أن عمر -رضي الله عنه- قلع ميزاباً للعباس -رضي الله عنه- على ممر الناس، فقال له العباس: أشهد أن رسول الله هو الذي وضعه في مكانه، فأقسم عمر: لتصعدن على ظهري ولتضعنه في موضعه؛ إجلالاً للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ورجوعاً عما وقع فيه.
وأتى عبد الله بن رواحة والنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يخطب فسمعه يقول: اجلسوا، فجلس ابن رواحة مكانه خارج المسجد حتى فرغ النبي من خطبته، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: "زادك الله حرصاً على طواعية الله ورسوله"(أخرجه البيهقي).
يا كرام: وكان السلف مطبقين للسنة على الدوام، تروي أم حبيبة حديث السنن الرواتب أنها اثنتا عشرة ركعة، ثم قالت: ما برحت أصليهن بعد أن سمعتهن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال الراوي عنها: ما برحت أصليهن بعدما سمعتهن من أم حبيبة، وهكذا كل راوٍ يقول ذلك، فطيب الله تلك الأنفاس.
أخبار عديدة، ومواقف منيفة، ومعالم رفيعة، تنبيك عن قَدْر السنة وصاحبها -عليه السلام- في نفوس الصحابة ومن جاء بعدهم، ولا غرو ولا عجب، فهي آثار سيد الورى، ومن ختم به الأنبياء، وأحب الخلق لله وأرفعهم قدراً، ويبقى القول عن دورنا نحن تجاه هذه السنة قولاً وفعلاً وتشريعاً.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: ما مضى من حديث هو عن حال السلف مع السنة، وهو -بحمد الله- حال الكثير اليوم معها، ولكننا بتنا اليوم نسمع من البعض طرحاً شاذاً، ورؤى نشاز، مؤداه نسف الوحيين.
كمثل دعوى أن بعض الأحاديث لا تدخل العقل، أو أن السنة ليست كالقرآن، السنة قيلت قبل قرون، فكيف نعتمد أقوالها! وقائلها -صلى الله عليه وسلم- كان يخاطب جيلاً غير جيلنا، فالزمن تغير!
ولربما رأيت من يُجادِل في مُسَلَّماتٍ وثوابتَ، فإذا أَوردت عليه حديثاً صحيحاً أتبع حجتك بالجدال والتشغيب!!
وما هذا البلاء بجديد، بل كان يتبناه سابقاً أهل البدع، فيردّون السنة لأنها آحاد، ويقدمون عقولهم على صريحها، وهذا معلوم من منهجهم، لكنّ الخلل أن يتسرب لنا التقصير في تعظيم السنة والاحتجاج بها.
لأجل هذا فنحن اليوم بحاجة إلى أن يُعاد للسنة قَدرُها ومكانَتُها، واعتقادُ أن هذه الأحاديث النبويةَ، بما حوته من تشريعاتٍ ربانية، صالحةٌ لكل زمن ومكان، ولن تستقيم الأمور، ولن تعود الأمة لسابق عزها إلا إن تمسكت بها، وفي الحديث "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله وسنتي".
عباد الله: تعظيم السنة يكون بأن نعتقد أنها مع القرآن وحيٌ يجب العمل به، ومشرّعها –وهو النبي -صلى الله عليه وسلم- قولاً وفعلاً هو مَن لا ينطق عن الهوى، فكما نقل لنا القرآن وهو كلام ربنا، فقد أتى بالتشريع من قوله وفعله، وهو القائل: "ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه"، وقال الله (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)[النساء: 113]، (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ)[الأحزاب: 34]؛ قال الشافعي: "ذكر اللَّه -تعالى- الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت مَن أرضى مِن أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة هي سُنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
تعظيم السنة يكون بأن نقف عند نصوصها، فإذا سمعت في الحديث أمراً سعيت لامتثاله، أو نهياً هرعت لاجتنابه، وهذا ناتج عن تعظيمك لصاحبها، وهو النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولك بالأسلاف قدوة، فإن لم تمتثل فاعترف بالتقصير، ولا يستهوينك الشيطان لتعتذر لتركك الحديث بأنه حديث وليس قرآنًا، فكم بُلِيَ بمثل هذه الدعاوى من أقوام!
وبعد: فواجبٌ علينا الدفاع عن السنة في أقوالها وتشريعاتها، والدفاع عمن صدرت عنه وهو نبينا -صلى الله عليه وسلم-، واليقين أنه لا عز لنا ولا رفعة إلا بامتثال الوحيين، وتعظيمهما عملاً وقولاً، وكلما امتلأ القلب تعظيماً للسنة، وحباً لها، ازداد هدى وتقوى، وصدق الله إذ قال: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)[النور: 54].
وصلوا وسلموا....
التعليقات