عناصر الخطبة
1/حديث ثوبان عن أقوام تحبط أعمالهم 2/من صور ذنوب الخلوات 3/من آثار ذنوب الخلوات 4/عظم ستر الله لعباده

اقتباس

مِنَ الآثَارِ السَّيِّئَةِ لِذُنُوبِ الْخَفَايَا: الْفَضِيحَةُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "أَنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يُخْفِي مَا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَيُظْهِرُهُ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- عَلَيْهِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ، وَيُنْطِقُ الأَلْسِنَةَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْهُ النَّاسُ...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هَبَاءً مَنْثُورًا"، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ، قَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ؛ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا"(صححه الألباني).

 

فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَصْفٌ لِفِئَاتٍ مِنَ النَّاسِ عَمِلُوا أَعْمَالاً كَثِيرَةً وَجَلِيلَةً فِي أَعْيُنِ النَّاسِ، لَكِنَّهَا لَمْ تَكُنْ خَالِصَةً لِلَّهِ -تَعَالَى-، كَانَتْ نِفَاقًا وَرِيَاءً، يُظْهِرُونَ أَمَامَ النَّاسِ الصَّلاَحَ وَالتَّقْوَى، فَإِذَا ابْتَعَدُوا عَنْ أَعْيُنِهِمْ ظَهَرُوا عَلَى حَقِيقَتِهِمْ، فَلَمْ يُرَاعُوا لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- حُرْمَةً، كَمَا قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا)[النساء: 108].

 

فَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الآثَارِ السَّيِّئَةِ عَنْ هَذَا الْعَمَلِ هُوَ ضَيَاعُ حَسَنَاتِهِمُ الَّتِي تَعِبُوا عَلَيْهَا، وَكَانَتْ أَمْثَالَ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الآثَارِ السَّيِّئَةِ لِذُنُوبِ الْخَفَايَا: الْفَضِيحَةُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "أَنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يُخْفِي مَا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَيُظْهِرُهُ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- عَلَيْهِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ، وَيُنْطِقُ الأَلْسِنَةَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْهُ النَّاسُ"، وَذَكَرَ قِصَّةَ حَبِيبٍ الْعَجَمِيِّ الَّذِي كَانَ تَاجِرًا يُقْرِضُ الدَّرَاهِمَ بِالرِّبَا، فَمَرَّ ذَاتَ يَوْمٍ بِصِبْيَانٍ يَلْعَبُونَ، فَقَالَ بَعضُهم لِبَعضٍ: قَد جَاءَ آكِلُ ‌الرِّبا، فَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَقَالَ: يَا رَبِّ، أَفْشَيْتَ سِرِّي إلى الصِّبْيَانِ، فَرَجَعَ إلى بَيتِهِ تَائِبًا، وَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ، وَاجْتَهَدَ في العِبَادَةِ، وَبَعْدَ زَمَنٍ مَرَّ بِأُولَئِكَ الصِّبْيَانِ، فَقَالُوا: اسْكُتُوا، قَدْ جَاءَ ‌حَبِيبٌ الزَّاهِدُ الْعَابِدُ، فَبَكَى وَقَالَ: يَا رَبِّ، الكُلُّ مِنْكَ. وَصَدَقَ؛ فَمَن أَحْسَنَ فِيمَا بَينَهُ وَبينَ اللهِ -تَعَالَى-، أَحْسَنَ اللهُ فِيمَا بَينَهُ وَبَيْنَ العِبَادِ؛ (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)[فصلت: 46].

 

وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: "يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ مَا لَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟! فَيَقُولُ: بَلَى، قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ".

 

أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى-، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَخْطَرِ آثَارِ ذُنُوبِ الْخَفَايَا السَّيِّئَةِ: فَضِيحَةَ مُرْتَكِبِهَا بَيْنَ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ مَا لَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ"(متفق عليه).

 

فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَرَاقِبُوا رَبَّكُمْ فِي سِرِّكُمْ وَعَلاَنِيَتِكُمْ، وَخَلْوَتِكُمْ وَجَلْوَتِكُمْ، وَتَجَنَّبُوا ذُنُوبَ الْخَلَوَاتِ، وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ -تَعَالَى-: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)[التوبة: 78].

 

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذُنُوبِ الخُلُوَاتِ إِلاَّ الْحَيَاءُ مِنَ اللهِ يَوْمَ الْعَرْضِ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحْيَحْيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إنَّ اللَّهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عليه كَنَفَهُ ويَسْتُرُهُ -أَيْ: يَضَعُ عَلَيْهِ سِتْرَهُ عَنْ رُؤيةِ الْخَلْقِ لَهُ- فيَقُولُ: أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فيَقولُ: نَعَمْ، أَيْ رَبِّ، حتَّى إذَا قَرَّرَهُ بذُنُوبِهِ، ورَأَى في نَفْسِهِ أنَّه هَلَكَ، قالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وأَنَا أغْفِرُهَا لَكَ اليَومَ، فيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ بِيمينِه".

 

وَإِذَا خَلَوْتَ بِرِيبَةٍ فِي ظُلْمَةٍ *** وَالنَّفْسُ دَاعِيَةٌ إِلَى الطُّغْيَانِ

فَاَسْتَحْيِ مِنْ نَظَرِ الإِلَهِ وَقُلْ لَهَا *** إِنَّ الَّذِي خَلَقَ الظَّلَامَ يَرَانِي

 

هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رَواهُ مُسْلِمٌ)، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ التَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنَّا مَعَهُمْ بِمَنِّكَ وَإِحْسَانِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَ الدِّينَ، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا، وَسَائِرَ بِلادِ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا التَّمَسُّكَ بِالدِّينِ، وَالاعْتِصَامَ بِالْحَبْلِ الْمَتِينِ، حَتَّى نَلْقَاكَ وَأَنْتَ رَاضٍ عَنَّا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَانْصُرْ جُنُودَنَا، وَأَمِّنْ حُدُودَنَا، وَأَيِّدْ بِالْحَقِّ إِمَامَنَا وَوَلِيَّ أَمْرِنَا، وَجَمِيعَ وُلاةِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life