عناصر الخطبة
1/التعريف بذي القرنين 2/الآيات الواردة في القرآن عن ذي القرنين 3/أهم الدروس من قصة ذي القرنيناقتباس
فَجَعَلَ اللَّهُ هَذَا الْمَلِكَ مَثَلاً لِمَنِ ابْتَلاَهُمُ اللَّهُ بِالْمَسْؤُولِيَّاتِ عَظُمَتْ أَمْ صَغُرَتْ، مِنَ الْحِرْصِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَسَلاَمَتِهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالثَّبَاتِ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى الْمَوْتِ، وَأَيْضًا: التَّوَاضُعُ لِلَّهِ، فَالْمُلْكُ وَالْقُوَّةُ وَالْعَظَمَةُ لِلَّهِ -تَعَالَى-...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: نَتَكَلَّمُ عَنْ مَلِكٍ مِنَ الْمُلُوكِ، مَلَكَ الأَقَالِيمَ كُلَّهَا حَيْثُ بَلَغَ مُلْكُهُ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ، وَعَمَّ الْعَدْلُ فِي رُبُوعِ مُلْكِهِ، بَلْ أَثْنَى عَلَيْهِ الرَّبُّ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِالْعَدْلِ، إِنَّهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ الْخَلِيلِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-، وَكَانَ مَلِكًا صَالِحًا مُوَحِّدًا لِرَبِّهِ مُخْلِصاً فِي عِبَادَتِهِ؛ وَلِذَلِكَ سَأَلَتْ عَنْهُ قُرَيْشٌ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لِيَسْتَعْلِمُوا نُبُوَّتَهُ، فَأَوْحَى إِلَيْهِ رَبُّهُ بِقَوْلِهِ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا)[ الكهف : 83 ]، أَيْ: عَنْ بَعْضِ أَحْوَالِهِ وَشَأْنِهِ.
قَالَ -تَعَالَى-: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا)[ الكهف : 84 ]، أَيْ: ثَبَّتْنَا مُلْكَهُ فِي الأَرْضِ، وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ وَقُوَّةٍ فِي السِّيَاسَةِ وَتَجَيُّشِ الْجُيُوشِ، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (فَأَتْبَعَ سَبَبًا) أَيِ: انْتَفَعَ بِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ -تَعَالَى- مِنَ الأَسْبَابِ، فَجَاهَدَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَلِيُعَظَّمَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ-عَلَيْهِ السَّلاَمُ- بَيْنَ النَّاسِ؛ فَنَشَرَ التَّوْحِيدَ، وَحَارَبَ الشِّرْكَ وَأَهْلَهُ.
وَيَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ الاخْتِبَارُ وَالابْتِلاَءُ فِي الْمُلْكِ وَالْمَسْؤُولِيَّةِ، قَالَ -تَعَالَى-: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا)[الكهف: 86]، أَيْ: أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- خَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يُعَذِّبَ الأَعْدَاءَ بِالْقَتْلِ، أَوِ التَّعْذِيبِ بِالسَّجْنِ، أَوْ أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِمْ وَيَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا، وَلأَنَّ الرَّجُلَ مَلِكٌ عَاقِلٌ عَادِلٌ نَجَحَ فِي هَذَا الاخْتِبَارِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا)[ الكهف :87 ] أَيْ: مَنِ ارْتَكَبَ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ وَهُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ أَوْ مَا دُونَهُ مِنَ الذُّنُوبِ، فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ بِمَا يَسْتَحِقُّ مِنَ الْقَتْلِ أَوْ فِيمَا دُونَهُ، ثُمَّ قَالَ: (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا)[ الكهف : 88 ]، أَيْ: مَنْ جَمَعَ بَيْنَ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَلَهُ الْحَيَاةُ الْحَسَنَةُ، مِنْ جَمِيلِ الْعَطَا وَبَذْلِ النَّدَى.
فَجَعَلَ اللَّهُ هَذَا الْمَلِكَ مَثَلاً لِمَنِ ابْتَلاَهُمُ اللَّهُ بِالْمَسْؤُولِيَّاتِ عَظُمَتْ أَمْ صَغُرَتْ، مِنَ الْحِرْصِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَسَلاَمَتِهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالثَّبَاتِ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى الْمَوْتِ، وَأَيْضًا: التَّوَاضُعُ لِلَّهِ، فَالْمُلْكُ وَالْقُوَّةُ وَالْعَظَمَةُ لِلَّهِ -تَعَالَى-، قَالَ -تَعَالَى-: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[القصص: 83]، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللهُ"(رواه مسلم).
فَلَمَّا وُفِّقَ ذُو الْقَرْنَيْنِ وَنَجَحَ فِي الاِخْتِبَارِ وَالابْتِلاَءِ، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا)[الْكَهْف: 89]، أَيْ: ذَهَبَ إِلَى طَرِيقٍ آخَرَ فَانْتَصَرَ فِيهِ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ بِذِي الْقَرْنَيْنِ، أَيْ: أَنَّهُ مَلَكَ أَقْصَى مَا تَصِلُ إِلَيْهِ الشَّمْسُ مِنْ مَشْرِقِهَا إِلَى مَغْرِبِهَا، فَثَبَتَ مُلْكُهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ اللَّهُ -تَعَالَى- فِي ذَلِكَ، قَالَ -تَعَالَى-: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)[إبراهيم: 27].
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى-، وَاعْلَمُوا أَنَّ فِي قِصَّةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ دُرُوسًا وَعِبَرًا، مِنْ أَهَمِّهَا: الثَّبَاتُ عِنْدَ الابْتِلَاءِ، فَاللَّهُ ابْتَلَى ذَا الْقَرْنَيْنِ بِالْمُلْكِ وَهُوَ ابْتِلاَءٌ عَظِيمٌ، حَيْثُ سَخَّرَ لَهُ جَمِيعَ مُقَوِّمَاتِ الْمُلْكِ وَمُثَبِّتَاتِ حُكْمِهِ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ مَنِ ابْتُلِيَ بِالْمَسْؤُولِيَّةِ وَالرِّعَايَةِ وَأُوتِيَ مِنْ مَالٍ وَقُوَّةٍ، فَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فِي صَلاَحِهِمْ وَطَلاَحِهِمْ؛ لِيَسْعَدَ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عمَّا اسْتَرْعَاهُ: حَفِظَ أمْ ضَيَّعَ؟ حَتى يَسْألَ الرَّجُلَ عَنْ أهْلِ بَيْتِهِ"(رواه ابن حبان، وصححه الألباني).
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً؛ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رَواهُ مُسْلِمٌ)، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ التَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنَّا مَعَهُمْ بِمَنِّكَ وَإِحْسَانِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَ الدِّينَ، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا، وَسَائِرَ بِلادِ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا التَّمَسُّكَ بِالدِّينِ، وَالاعْتِصَامَ بِالْحَبْلِ الْمَتِينِ، حَتَّى نَلْقَاكَ وَأَنْتَ رَاضٍ عَنَّا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَانْصُرْ جُنُودَنَا، وَأَمِّنْ حُدُودَنَا، وَأَيِّدْ بِالْحَقِّ إِمَامَنَا وَوَلِيَّ أَمْرِنَا، وَجَمِيعَ وُلاةِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
التعليقات