اقتباس
إن قصر الخطبة يعين على كتابتها، ويريح عند إلقائها، ويتيح للمصلين المتابعة. ولتحقيق هذا الهدف لا بدّ من جعل الخطبة تؤكد على فكرة واحدة دون استقصاء بقية جوانب الموضوع؛ فهذا هو المطلوب من الخطيب، والخطيب ليس باحثًا يجب عليه جمع الموضوع من أطرافه، ولمّ شتاته...
خطبة الجمعة شعيرة دينية أسبوعية، تلقى في يوم له قدره عند المسلمين، فهو يوم قيّم بما فيه من شعائر وسنن، وما فيه من علم وتعليم ووعظ واجتماع. هذه الخطبة جاء الحث الشرعي على حضورها، والإنصات لها، مع الابتعاد عما يشغل المصلي عن ذلك، وبالمقابل حضّ النبي الكريم -عليه الصلاة والسلام- الخطيب على تقصير الخطبة؛ فهذا أدعى للفهم والوعي والنقل، وأرفق بالمصلين ذوي الحاجات، أو من يجلس تحت الشمس، وفوق ذلك فالخطبة عمل أسبوعي متكرر، فالخطيب غالبًا هو نفسه، والمصلون هم هم، وبالتالي فلا داعي للتطويل، واستكثار المعلومات.
وقد سعدت نهاية الأسبوع الفائت بزيارة مدينة حرمة التاريخية مع رفقة كريمة، بضيافة الأستاذ عبدالكريم بن محمد التركي، الذي كان أحد السبّاقين للحفاظ على تاريخية الجوامع والمساجد والأوقاف والبيوت في حرمة، حتى أصبحت القرية التاريخية مزارًا لأبناء الوطن وللزوار، تحكي لهم سير السالفين، وتحفظ لمجتمعنا الذكرى والعراقة، وتدعو الأجيال لشكر الله وحمده على النعم، والعمل على حفظها واستدامتها وزيادتها.
لقيت في تلكم الزيارة جمعًا كريمًا من المؤلفين والأدباء، وأهديت لي مؤلفات منها كتاب عنوانه: الموجز من الخطب، تأليف: عبدالمحسن بن إبراهيم اللعبون، الذي صدر عن دار العقيدة عام (1443=2022م)، ويقع في جزءين: الأول منهما عدد صفحاته (415) صفحة، والثاني يقع في (380) صفحة. يمتاز المؤلف الشيخ عبدالمحسن بأنه يجمع بين العلم الشرعي، واللغوي، مع براعة أدبية، وحسن عرض وحديث، إضافة إلى الاسم الفخم الجميل الذي يحمله “عبدالمحسن”، وأجد نفسي مقبلة على صاحبه من حيث الابتداء الذي يستمر غالبًا.
يتكون هذا الكتاب من المقدمة، ثم الخطب مقسمة على ثمانية أصناف، ويختلف عدد الخطب وحجم كل صنف تبعًا لذلك، وليته مؤلفها أضاف خاتمة فيها فوائد عن الإلقاء، ومواقف حدثت له بعد بعض الخطب. وإذا نظرنا لأقسام الخطب فسنجد أن أول قسم هو خطب العقيدة، وفيها أربعة وعشرون خطبة، ثمّ خطب الفرائض وفيها ثلاثة عشر خطبة، يليها إحدى عشرة خطبة اجتماعية، فست خطب أسرية. أما خطب الفضائل فبلغت ثلاثًا وعشرين خطبة، وبعدها ستة عشر خطبة عن المناهي.
واختتم الجزء الأول، وابتدأ الجزء الثاني بخطب المناسبات بما فيها من أشهر ومواسم رمضان والعيدين والحج والشتاء وغيرها، وعدد خطب هذا القسم الكبير ثمانية وستون خطبة، وآخر قسم بعنوان خطب أخرى، وقد ضمّ خطبًا متنوعة في أبواب شتى عددها أربعة وسبعون خطبة. امتازت هذه الخطب مع قصرها، وتكثيف محتواها، بأنها تحدثت عن موضوعات قديمة، وأخرى حديثة، وبما أن الأصل أن لكل نازلة حكم شرعي يستند إلى دليل أو قاعدة أو مقصد، فكذلك أي موضوع يستطيع الخطيب الماهر ابتكار خطبة عنه سواء بطرقه مباشرة، أو بما يشبه الالتفات المعروف في اللغة.
هذه الخطب التي بلغت مئتين وخمس وثلاثين خطبة خطبها الشيخ الأديب عبدالمحسن ابن لعبون في جامع حرمة خلال أربعة وعشرين عامًا بين عامي (1418-1442)، وسعى جاهدًا لتكون الخطب مناسبة لجماعة المصلين، قريبة من اهتمامهم، وهذه حكمة يتطلعها كل خطيب أو هكذا يجب. وقد شاركه الأجر في النشر -بإذن الله- الشيخ أحمد بن عبدالله الحزيمي رئيس مكتب الدعوة من المجمعة؛ إذ حفزه لجمعها وطباعتها ونشرها، وتابعه في ذلك حتى أنجز المشروع، والله يتقبلها.
ولما كان عمل المؤلف الشيخ عبدالمحسن في هذه الخطب ينحي منحى الإيجاز أسمى كتابه الموجز من الخطب، فهذه الخطب كتبت بأسلوب موجز، وبعضها مختصرة من خطب أخرى مطولة؛ فجمع هذا العنوان االمعنيين معًا، وهذه براعة في الكتابة. وقد آثر المؤلف الخطيب أن تكون الخطبة قصيرة لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:”إن طول صلاة الرجل وقصر خطيبته مئنة من فقهه”.
إن قصر الخطبة يعين على كتابتها، ويريح عند إلقائها، ويتيح للمصلين المتابعة. ولتحقيق هذا الهدف لا بدّ من جعل الخطبة تؤكد على فكرة واحدة دون استقصاء بقية جوانب الموضوع؛ فهذا هو المطلوب من الخطيب، والخطيب ليس باحثًا يجب عليه جمع الموضوع من أطرافه، ولمّ شتاته. ومن لوازم الفكرة الواحدة كما كتب الشيخ ابن لعبون ألّا يأتي الخطيب بما يضعف من قوة تأثيرها؛ فلو خطب عن إسباغ الوضوء مثلًا، فلا يناسب التحذير من الوسوسة، وإن كان للتحذير وجه من الصواب.
أما منهجه في إعداد الخطبة فيبدأ من جمع النصوص من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين والعلماء، ثم يبني خطبته عليها، أو يعمد إلى خطبة لغيره، ويختصرها بما يتناسب مع المقدار الذي اعتاد عليه؛ لأن إبداع الخطيب أو الكاتب ليس محصورًا في أن يستخرج أفكارًا أو تراكيب من تلقاء نفسه، وإنما يكونوا في إنتقاء ما يناسب من الأفكار والمعاني، ثم الإضافة عليها بعد الاختصار، مع التقديم والتأخير بما يقتضيه الموضوع والحال.
ألا ليت أن كل خطيب يتعب في الإعداد أو الاقتباس والاختصار أن يجمع خطبه وينشرها، وكنت كلما صليت مع إمام وأعجبتني خطبه أذكر له هذا المقترح، وليت أن النشر يكون بالسبل المتاحة كافة حتى تصل الخطب لكل مستفيد عبر وسائل التواصل الحديثة بنسخ شرعية. إن خطبة الجمعة فرصة نفيسة لكل خطيب حتى يقرأ ويبحث، ويفكر ويحلل، ويكتب ويختصر، ويتفاعل مع مجتمعه بما يطرأ أو يطلب، مع المحافظة على شرعية المضمون وهيبة الموقف.
ahmalassaf@
الرياض- الاثنين 19 من شهرِ جمادى الأولى عام 1447
10 من شهر نوفمبر عام 2025م
التعليقات