عناصر الخطبة
1/إذا رضي القلب نزلت السكينة 2/تنزل السكينة على النبي وأبي بكر 3/من نماذج إنزال السكينة على المؤمنين 4/سكينة امرأة من الصحابةاقتباس
السكينة ليست نفيًا للحزن، ولكنها غلبة اليقين عليه، ليست نسيانًا للألم، بل تَقبُّله كجزءٍ من الحكمة، السكينة ليست نهاية الهم، بل الأمان في وسطه، واليقين بأن الفرج ليس بعيدًا، السكينة أن تُسلِّم لله، لا لأنك عجزت، بل لأنك وقفت على باب عظيم، فتَركت التدبير...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمدُ للهِ، نوَّرَ قلوبَ العارفينَ بالإيمانِ واليقينِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، المَلِكُ الحقُّ المبينُ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليه، وعلى آلهِ وأصحابِه وأزواجِه، ومَن تبِعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
أمَّا بعدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
(لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)[الفتح: 18]، إذا رضي القلب نزلت السكينة وغشيته الطمأنينة، وإذا سخط القلب ضاق الصدر وتحشرج كأنما يصعد في السماء، السكينة بهاء ورحمة وثبات تغشى النفوس المطمئنة الواثقة، السكينة: أن يسكن قلبك بعد اضطرابه، وتهدأ نفسك بعد قلقها، وتستقرّ فيك الطمأنينة كأنك وصلت، وإن لم تصل.
في صحيح البخاري قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنه-: "بَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- مُتَقَنِّعًا، فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ، قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ فَدَخَلَ، النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ "فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الخُرُوجِ"، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الجِهَازِ، وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الجِرَابِ؛ فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ قَالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ إلى غَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، وهذا جبل شامخ، وعر الطريق، صعب المرتقى، ذا أحجار كثيرة، فحفيت قدما رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، حتى انتهيا إلى غار في قمة الجبل، وطاف المشركون في الأودية والشعاب يبحثون عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- حتى انتهوا إلى الغار، قال أبوبكر: فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت: يا نبي الله، لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا، قال: "اسكت يا أبا بكر، ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما، لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا".
(فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[التوبة: 40]، تلك هي السكينة حين يُغلق العالم أبوابه، ويُفتح بابُ السماء.
تضيق بهم الأرض فلا يجدون إلا غار صغير في قمة جبل، فينزل الله السكينة على رسوله وأبي بكر فتتسع الدنيا، ويرى عند المطاردة كنوز كسرى؛ لأن الله معهما، (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)[التوبة: 40].
ونحن نرى اليوم السكينة تنزل على المؤمنين رغم القصف والتدمير والتهجير، سكينة لا يراه إلا من يعرف معنى الصبر حين يعجز الجسد، والثبات حين يرتجف العالم، السكينة حين تراهم يكملون صلاتهم والقذائف تتفجر من حولهم، تنام الأسر مطمئنة وهي لا تملك سقفا، تعيش الفقر والجوع ولا تسلم لليهود أرضا؛ (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)[الفتح: 18]، فرضخت دول الكفر وانهزمت ورضيت بالهدنة، وعاد المسلمون لأرضهم وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا.
إذا ضاق الفؤادُ وزاد همّي *** وأظلمَ في عيوني كلّ دربي
ناديتُ: يا ربّاهُ أنت رجائي *** فأنزلتَ السكينةَ في قلبي
وفي بدر، جيش الإيمان قليل، والعدو كثيرٌ مدجج، فيرفع من ملأ اليقين قلبه يديه إلى السماء ويقول: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعبد في الأرض"، يناجي ربه حتى سقط رداؤه عن كتفيه، فتنزلت السكينة، ونام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قُبيل المعركة، وكأن قلبه يشرب من نهر اليقين، وينزل قول الله: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ)[الأنفال: 11].
نعاسٌ في لحظة الحرب! نعم، حين يسكن القلب بالله، ينام العقل في عند باب الرضا، فما هي النتيجة (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ)[الأنفال: 11، 12]، تُعلمنا الآيات البينات أن القلوب التي يسكنها التوحيد لا تُخيفها جيوش العالم.
السكينة ليست نفيًا للحزن، ولكنها غلبة اليقين عليه، ليست نسيانًا للألم، بل تَقبُّله كجزءٍ من الحكمة، السكينة ليست نهاية الهم، بل الأمان في وسطه، واليقين بأن الفرج ليس بعيدًا.
السكينة أن تُسلِّم لله، لا لأنك عجزت، بل لأنك وقفت على باب عظيم، فتَركت التدبير، وأدركت أن الخلاص لا يصنعه الجهد، بل يُهديه الله لمن علِم صدقه.
السكينة أن تبكي ولا تنهار، أن تتألم ولا تتشكّى، أن تفتقر ولا تتذمّر، أن تتأخر ولا تتسرّع؛ لأن في قلبك نورًا يقول: (إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)[التوبة: 40]، (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)[الشرح: 6].
فإذا رأيتَ مؤمنًا يبتسم في الحزن، ويسكن في العاصفة، فاعلم أن الله أنزل عليه سكينته؛ (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا)[الفتح: 4].
أستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفروه إنَّ ربَّنا لغفورٌ شكورٌ.
الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ على إحسانِهِ والشكرُ له على توفيقِهِ وامتنانِهِ، وصلى اللهُ وسلَّمَ على عبدِهِ ورسولِهِ.
أمَّا بعدُ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[آل عمران: 200].
مات ابنُ أم سليم -رض الله عنه- زوجة أبي طلحة، فلما رجع زوجها، استقبلته بهدوء، وقدمت له عشاءه، وتزيّنت له، فلما قضى حاجته منها، قالت له: "يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قومًا أعاروا أهل بيتٍ عارية، فطلبوا عاريتهم، أكان لهم أن يمنعوها؟"، قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك، فإنه قد قضى، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو طَلْحَةَ أَتَى رَسُولَ اللهِ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: "أَعْرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ؟"، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "اللهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا"، فَوَلَدَتْ غُلَامًا، وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: فَرَأَيْتُ لَهُمَا تِسْعَةَ أَوْلاَدٍ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ القُرْآنَ"(أخرجه البخاري).
أيُّ سكينةٍ نزلت على أم سليم حين مات ابنها؟! أيُّ نورٍ هذا الذي أضاء قلبها وهي تُغسّله بيديها دون أن يعلو منها صوت نحيب؟! أيُّ طُمأنينةٍ تلك التي تُخفي دموعها عن زوجها، لا إنكارًا للحزن، بل إكرامًا للتسليم؟! أيُّ يقينٍ هذا الذي جعلها تُهيّئه للعشاء، ثم تُبشّره، لا بعودة الولد، بل بعودته إلى الذي أودعهما أمانته؟!.
ما تلك السكينة إلا سكينة من عرف أن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجلٍ مسمّى، سكينةُ من لا يملك قلبُه الدنيا، فيسكن حين تضطرب الأكوان، ويطمئن حين ترتعد القلوب.
سكينةُ امرأةٍ لم تدرس الفقه، لكنّ قلبها فقه عن الله ما لم يفقهه كثير من العلماء، لقد مات ولدها لكنها لم تمت جزعًا، بل ولدت من رحم المصيبةِ روحًا أكبر، فرزقها الله بعدها ابنًا، فأنبت منه نسلًا طيّبًا من العلماء والحُفّاظ، فمن كانت هذه سكينتها في المصيبة، فكيف سيكون ثوابها عند الله؟! (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)[فصلت: 35].
اللهم أنزل السكينة في قلوبنا وزدنا إيمانا ويقينا يا رب العالمين.
التعليقات