في أحداث الغابرين عبرة ومواساة للحاضرين

الشيخ خالد أبو جمعة

2025-08-17 - 1447/02/23
عناصر الخطبة
1/وجوب أخذ العبرة والعظة من تقلبات الدهر 2/عظات وعبر من هلاك الطغاة والظالمين 3/عظمة التاريخ الإسلامي وعدالة أحكام الإسلام 4/حسن الظن بالله وحسن العمل سبيل للخلاص من الفتن 5/الوصية بالرباط في المسجد الأقصى المبارك

اقتباس

مِنَ الأمم السابقة نأخذ العظةَ والعبرةَ، تكبَّروا وتجبَّروا وأسرَفُوا في القتل، وفي الظلم والطغيان، فأهلكهم الله -تعالى-، وجعلهم عبرة لكل ظالم وطاغية، فأين الجبابرة؟ وأين الأكاسرة؟ وأين القياصرة؟ وأين الفراعنة؟ أين عاد؟ وأين ثمود؟ وأين قوم نوح؟ أين الظالمون؟ أين التابعون لهم في الغي؟ هلكوا وماتوا...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله تفرَّد في أزليته بعِزِّ كبريائه، وتوحَّد في صمديته بدوام بقائه، ونوَّر بمعرفته وأُنسه قلوبَ أوليائه، فأيقَظ قلوبَ المؤمنينَ بملازَمة ذِكرِه، وأنار عقولَهم بتحقيق عبادته وشكره، وطيَّب أنفاس الذاكرين له بطيب ثنائه، وأمن خوف الخائفين منه بحسن رجائه، وأسبغ على الخلق جزيل فضله، وكريم عطائه، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، وحدَه لا شريكَ له، إلهًا واحدًا أحدًا صمدًا، الأرضُ أَرضُه، والخَلْقُ خَلقُهُ، والأمر أمره، والملك ملكه، والكل عبيده؛ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ)[الْجَاثِيَةِ: 27].

 

وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا وقرة أعيننا محمدًا، -صلى الله عليه وسلم-، عبده ورسوله، وصفيه وحبيبه، أقرب رسل الله إلى الله وسيلة، وأعظمهم عند الله منزلة وفضيلة، وأوفاهم عهدًا، وأصدقهم وعدا، وأكثرهم شكرًا، وأعلاهم أمرًا، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، إلى يوم الدين.

 

وبعدُ: أوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ سرًّا وعلانيةً، وطاعته رغبا ورهبا، وخشيته شهادةً وغيبًا؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، فبالتقوى يفوز المرء بمعية الله، وينال رضاه؛ (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)[النَّحْلِ: 128].

 

أيها المسلمون: الدهرُ ذو عِبَرٍ، يَجري به القدرُ، مُلك يُنزع، وعافية تُرفَع، وبلاء يقع، فيا لها من عبرة لمن اعتبر، وذكرى لِمَنِ ادَّكَرَ، فمن أخذَتْه تلك الحوادثُ إلى الإنابة والعبادة والطاعة، فذلك الذي اعتبر، وعلم الخبر، وصح عنده النظر، وفاز بالخير والظفر.

 

ومِنَ الناس مَنْ ليس له من الأخبار إلا إيرادها، ولا من الحوادث إلا سردها، ولا من الوقائع إلا ذكرها، فاعتبروا يا أولي الأبصار، بالحوادث والأخبار، كل مخلوق للفناء، وكل ملك إلى انتهاء، ولا يدوم غير ملك الباري الواحد القهار، المتفرد بالعزة والبقاء، وما سواه إلى انقضاء.

 

أيها المرابطون: إنَّ مَنْ تدبَّر كتابَ اللهِ، وقلَّب صفحاتِ التاريخ، يقف على أخبار طغاة مجرمينَ جبارينَ، حملوا عقيدة فاسدة خاطئة، ساموا الناس عليها سوء العذاب، وفتكوا بهم أشد الفتك، على القاعدة الفرعونية؛ (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)[غَافِرٍ: 29]، وهكذا إذا تغلبت نوازع الشر في الإنسان، صار شريرًا، فإذا حكم وملك تحول مُجرمًا جبارًا عنيدًا، يسفك الدماء، ويرمل النساء، وييتم الأطفال، لا يرعى حرمة، ولا يرى لأحد حقًّا، ولا تعرف الرحمة إلى قلبه سبيلًا؛ فالتاريخ أيها المرابطون يكرر نفسه وعلى صورة متجددة، فمآسي الماضي هي عبر المستقبل، وسُنَنُ اللهِ هِيَ هِيَ، لا تتغير ولا تتبدل، ففرعون اليوم هو فرعون الأمس، وطاغية اليوم هو طاغية الأمس، وقارون بماله وسلطانه اليوم لم يتخلف بسلوكه عن قارون الماضي، ومنافقو اليوم يتوارثون راية النفاق، جيلًا بعد جيل، بنسخة ممسوخة من عبد الله بن أبي بن سلول وحزبه، وجبابرة العصر يرفعون شعار عاد: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)[فُصِّلَتْ: 15].

 

ومن يستحب العمى على الْهُدَى كثمود؛ فلقد تعطَّنَتْ بهم الآفاقُ، هي سُنَّة ربانيَّة، وحقيقة تاريخيَّة، لأقوام ورجال تحدث عنهم القرآن الكريم، في أزمنة متفاوتة، تشابهوا في سلوكهم، فتشابهت عواقبهم، كان سلوكهم الطغيان والفساد، فكانت عاقبتهم الاستئصال والعذاب، قال -تعالى-: (الَّذِينَ طَغَوْا في الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ)[الْفَجْرِ: 11-13]؛ فالسلوك الذي كانوا عليه، وإن اختلف في مظاهره وهيئته؛ من ظلم كبير، قتل وتدبير، وسلب للأموال، كفرعون مع الكليم، وتجويع وتشريد وتهجير، وخذلان من القريب والبعيد، كما فعل أبو جهل ومن معه بالحبيب -عليه الصلاة والسلام-، هو من حيث العنوان والجوهر كان متحدا، والعذاب من حيث مظهره وطبيعته كان مختلفًا، إلا أنَّ الأمرَ من جهة العقاب الرباني كان متحدا، وهو الاستئصال والفناء؛ لأن منشأه الغضب الإلهي على الظالمين والمتجبرين والمستكبرين؛ (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ)[الزُّخْرُفِ: 55]، آية عظيمة تشير إلى سنة تاريخيَّة، وإلى قانون إلهي؛ هو أن عذاب الاستئصال يكون حتمي الوقوع حينما تسلك أمة من الأمم طريق التمرد، والطغيان على قيم السماء، التي بعث بها المرسلون.

 

أيها المرابطون: مِنَ الأمم السابقة نأخذ العظةَ والعبرةَ، تكبَّروا وتجبَّروا وأسرَفُوا في القتل، وفي الظلم والطغيان، فأهلكهم الله -تعالى-، وجعلهم عبرة لكل ظالم وطاغية، فأين الجبابرة؟ وأين الأكاسرة؟ وأين القياصرة؟ وأين الفراعنة؟ أين عاد؟ وأين ثمود؟ وأين قوم نوح؟ أين الظالمون؟ أين التابعون لهم في الغي؟ هلكوا وماتوا.

 

أيها الصابرون: اقرؤوا التاريخ الإسلامي؛ لتدركوا كيف كانت أحداثه العظام، ووقائعه الجسام نقطة تحوُّل كبرى لا في تاريخ الأمة الإسلاميَّة فحسبُ، بل في تاريخ البشريَّة جمعاء، اقرؤوا تاريخكم لتروا كيف كانت وقائعه العظيمة منعطفًا مهما في مجرى التاريخ الإنسانيّ برُمَّتِه، انظروا إلى يوم بدر وأحد والخندق، كانوا صابرين محتسبين، ثم منتصرين، حتى دخلوا مكة فاتحين مهللين شاكرين لله صابرين.

 

نعم؛ هي وقائع وفواصل وقواسم للأعداء، فرقت بين الحق والباطل، رجالها فرسانها، قهروا الفرس والروم، والصليبيين والتتار المجرمين، في القادسية واليرموك، وحطين وعين جالوت، تاريخ عريق مجيد، أرسى قواعد الأمن والأمان، والعدل والإسلام، لم يثبت في تاريخنا انتهاك لحقوق الإنسان، ولا للأقليات، عاملهم على مبدأ الحقوق والواجبات، وهي التي يقدمها رجالها المخلصون البررة وبنوها الصادقون المهرة.

 

أيها المسلمون: إننا بحاجة ماسَّة إلى حُسْن الظن بالله، والتوكل على الله، والأمل بالله لتكون أيامنا مفعمة بالتفاؤل والتطلُّعات للخروج من الفتن والمشكلات، وتجاوز العقبات والأزمات، ومواجهة التحدِّيات والنكبات، فاعتبروا بكتاب ربكم، وأنتم تقرؤون قول الله -عز وجل- لعباده: (لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)[الزُّمَرِ: 53]، وفي قول يوسف لأخيه: (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ)[يُوسُفَ: 69]، وفي قول شعيب للكليم موسى: (قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[الْقَصَصِ: 25]، ويعقوب لأولاده: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ)[يُوسُفَ: 87]، وقول الحبيب -عليه الصلاة والسلام- لأبي بكر: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)[التَّوْبَةِ: 40].

 

يا أيها المرابطون في أرض فلسطين: لا تحزنوا إن الله معنا، فنشر الطمأنينة في النفوس، في ساعات القلق والفتنة والبلاء منهج إلهي واقتداء نبوي، جاء في الحديث الشريف، عن أبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ -فأبشروا أيها المرابطون- ‌بِالسَّنَاءِ، ‌وَالرِّفْعَةِ ‌وَالنَّصْرِ، وَالتَّمْكِينِ في الْأَرْضِ"، أو كما قال، التائب من الذنب كمن لا ذنب له. ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوزَ المستغفرينَ استغفِرُوا اللهَ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ لله ربِّ العالَمِينَ، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، ولي الصالحين، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، إمام الأنبياء والمرسَلينَ، وأفضل خلق الله أجمعين، علم أمته -صلى الله عليه وسلم- معاني الهمة والعزيمة، وغرس فيهم قوة الإرادة والشكيمة، ونفرهم من صور الاستكانة والهزيمة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أيها المرابطون المحتسِبون: اعلموا أن الرباط في مسجدكم المسجد الأقصى المبارَك، وأن الصلاة في ساحاته ومصاطبه وأروقته كلها دلالات عظيمة، وإشارات كريمة، على حبنا له وتمسكنا به، وله في قلوبنا مكانة خاصَّة، فهو ليس بناء فحسبُ، بل هو في القلب والنبض والروح، فالأقصى ملتقى العباد والنُّسَّاك، وهو رمز الإيمان، وبيت الرحمن، حبه علا القلب وسكن الوجدان، في كل زيارة ترى بعين البصيرة أن له حلة جديدة، وطلة بهية، ونورا ساطعًا يخلب الألباب، ويسحر العقول، فصلاتنا ورباطنا وصبرنا بالمسجد الأقصى عهد وبيعة، التزمنا بها لرسولنا -صلى الله عليه وسلم-، عندما صلى إمامًا بالأنبياء، بإشارة إيمانيَّة عقدية واضحة؛ أنَّه -عليه الصلاة والسلام- وأمته من بعده هم الأوصياء الأمناء، والقيمون على المسجد الأقصى المبارَك، وهذه الوصية والحراسة والرعاية والعناية تنتقل من جيلٍ إلى جيل، وأمَّا مدينتنا المقدَّسة؛ مدينة القدس، فهي ريحانة المدن، وجوهرتها الثمينة، وهو واسطة العقد، تتلألأ فيها الأنوار، مباهية بنفسها، وحق لها التباهي؛ فهي أرض مباركة، ومدينة مكرمة، خطفت أنظارنا، وتملكت سويداء قلوبنا، قد حفظها الله -عز وجل- وسيحفظها لنا، إلى يوم الدين، معتقدين مصدقين بوعد الله -عز وجل-، ووعد النبي -صلى الله عليه وسلم-.

 

اللهمَّ أجرنا من حر جهنم، اللهمَّ أجرنا من حر الدنيا والآخرة، اللهمَّ ارزقنا الجنة وبردها وسلامها، وجنبنا حر جهنم وجحيمها، اللهمَّ الطف بعبادك وأنزل عليهم الرحمة، اللهمَّ كن مع المستضعَفين وتول أمرهم، اللهمَّ أطعم جائعهم، وآمن خوفهم، وخفف عنهم آلامهم، وبرد عليهم الحر، اللهمَّ فك الحصار عن المحاصرين، وفرج كربهم ونفس همهم، اللهمَّ داو جرحاهم، وشاف مرضاهم، وهون عليهم مصابهم.

 

اللهمَّ أَنزِل السَّكِينةَ على قلوبهم، اللهمَّ احفظ المسجد الأقصى والمرابطين فيه، مسرى نبيك -عليه الصلاة والسلام- وحصنه بتحصينك المتين، واجعله في رعايتك وعنايتك وحرزك وأمنك وضمانك يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، واغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، وارض اللهمَّ عن أصحابه وأزواجه الطاهرات، أمهات المسلمين، وعن أصحابه الأعلام، أئمة الْهُدَى ومصابيح الدنيا، وعن التابعين وتابعيهم لهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.

 

عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمة يزدكم؛ (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45]، وأَقِمِ الصلاةَ.

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life