عناصر الخطبة
1/فضائل سورة الحجرات 2/خطورة اللسان 3/ثلاثة آداب مهمة من آداب اللسان 4/الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم 5/الأدب مع العلماء 6/وجوب التثبت من الأخبار.اقتباس
اللسان جارحة صغيرة الحجم عظيمة الخطر، فبِه قد يرتفع العبد في أعالي الجنان، وبحصائده ربما أوبق في النار، وكم يحتاج اللسانُ لضبطٍ، فالكلمة التي تُقال قد تخفض وقد ترفع، وكم في المقابر من حصيد لسانه، وهل يَكبُّ الناسَ في النار إلا حصائدُ ألسنتهم؟!...
الخُطْبَة الأُولَى:
الحمد لله....
في كتاب الله الهدى والنور، وفي آياته الإرشاد للعباد، ولن تجد أهدى سبيلاً ولا أقومَ قيلاً من آيات الوحي، وكيف لا وهي كلام رب العالمين، شرَّف المسلمين بأن مَكَّنهم من تلاوته، وجعله بين أيديهم يستنيرون بأنواره، ويستلهمون الرشد من هداياته.
الحجرات سورة من سور القرآن، وأنت تقرأها تبهرك بجمال إرسائها لنظام المجتمع المسلم. ولو أن المسلمين عنوا بهذا وتمسكوا به لتآلفوا واستقامت حالهم وصلحت أمورهم. وأنَّى لخطيب في دقائق معدودة أن يحيط بهذه المعالم والآداب، لكنها إلماحة لبعض ما ورد فيها.
وواحدة من القضايا الكبار في سورة الحجرات ما يتعلق باللسان، وهو جارحة صغيرة الحجم عظيمة الخطر، فبه قد يرتفع العبد في أعالي الجنان، وبحصائده ربما أوبق في النار، وكم يحتاج اللسانُ لضبطٍ، فالكلمة التي تُقال قد تخفض وقد ترفع، وكم في المقابر من حصيد لسانه، وهل يَكبُّ الناسَ في النار إلا حصائدُ ألسنتهم؟!
حديث اليوم هو عن ثلاثة من آداب اللسان في السورة.
وأول هذه الآداب يتجلى في قول المولى -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[سورة الحجرات: 1]؛ قال ابن عباس: "لا تقولوا خلافَ الكتاب والسنة".
والتقدّم بين يدي الله ورسوله له صُوَرٌ، منها ما يكون باللسان، حين يستدرك المرء على الشرع، أو يعترض على ما جاء به الدين، أو يقضي بأمرٍ على خلاف ما ورد عن الله ورسوله، والمؤمن وقّاف عند الحدود، ممتثلٌ للأوامر، يوقن أن الله هو الخالق وهو أعلم بما يصلح حال العباد، فما جاءه من ربه استجاب، ولو خالف الهوى؛ لأنه من المولى، وهو -سبحانه- أعلم وأحكم.
قال قتادة: ذُكِر لنا أن ناساً كانوا يقولون: لو أُنزِل في كذا لو وُضع كذا وكذا، وهذا من القول وهو باللسان.
هذا الأدبُ -يا كرام- نحن اليوم بحاجةٍ إليه ماسّة، حين نبتت نابتةٌ تستدرك على الشرع، فقائلٌ يقول: هذا لا يستقيم في القرن الحادي والعشرين.
وهذا يقول: الإسلام دين عبادات لا علاقة له بمناحي الحياة، هو في المسجد فقط، أما غير ذلك فأنتم أعلم بأمر دنياكم، وهكذا من ترهات من انحرفت فُهُومهم وحادت عن الشرع، ولكن المؤمن يعلن في كل آن بأنه قد رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا.
وثاني آداب اللسان في السورة تظهر في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)[الحجرات: 2].
ولئن كانت هذه في حياته -صلى الله عليه وسلم-، فإن رفع الصوت فوق صوته بعد وفاته محرمة، لذا كان صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يغضّون أصواتهم عند قبره، روى السائب بن يزيد قال: "كُنْتُ قَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ، فَحَصَبَنِي رَجُلٌ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ، فَجِئْتُهُ بِهِمَا، قَالَ: مَنْ أَنْتُمَا أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، قَالَ لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لأَوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟"(رواه البخاري).
وارتفع صوت الخليفة المنصور في المسجد المدني، فقال الإمام مالكٌ له: "لا ترفع صوتك يا أمير المؤمنين في هذا المسجد؛ فإن الله أدّب قوماً، فقال: (لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)[الحجرات: 2]، ومدح قوماً فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى)[الحجرات: 3]، وذمَّ قوماً فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)[الحجرات: 4]، وإنَّ حُرمته ميتاً كحرمته حياً".
وحين تُسمع أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فالهدى أن لا تَرفع الصوت عند سماعها، قال الخطيب البغدادي: "أرَى رَفْعَ الصَّوْتِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ كَرَفْعِ الصَّوْتِ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، إِذَا قُرِئَ حَدِيثٌ وَجَبَ عَلَيْكَ أَنْ تُنْصِتَ لَهُ كَمَا تُنْصِتُ لِلْقُرْآنِ". وقال: "فَمَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ عِنْدَ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ، فَكَأَنَّمَا رَفَعَ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ رَسُولِ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-".
وكان عبد الرحمن بن مهدي: إذا قَرأ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر الحاضرين بالسكوت؛ فلا يتحدث أحد، ولا يُبرَى قلم، كأن على رؤوسهم الطير.
عباد الله: وإذا كان هذا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فالعلماء حَمَلة ميراث محمد -صلى الله عليه وسلم-، ينبغي التأدبُ معهم والرفقُ بهم؛ إكراماً لما يحملونه، قال ابن عباس: "مَن آذى فقيهاً فقد آذى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن أذى رسول الله فقد أذى الله".
نؤكد على هذا -يا كرام-؛ لأننا في زمن بِتَّ تسمع فيه من يخوض في أعراض بعض العلماء، ومن يقدح في ديانتهم ومن يتهمهم باتهامات باطلة، ولعمري إن أولى من ينبغي أن يُصان عِرضُه هم ورثة النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين أمضوا أعمارهم مُعلِّمين مُبلِّغين، ولن تجد متنقصاً لهم إلا وهو ذو هوى أو في قلبه مرض.
وإن من الواجب علينا حفظُ مكانتهم والتأدبُ معهم، ونعلم أن المرء منهم بشرٌ غيرُ معصوم، لكن هذا لا يعني عَيْبهم وذمّهم، إنما نحملهم على أحسن المحامل، ونُحسِن الظنَّ بهم، ونعلمُ أن ثمة مغرضين يُضخِّمون خطأ العالم ليردّ الناس عن الخير الذي يحمله، فلْنُفَوِّت على هؤلاء الفرصة، وإذا صار علماؤنا ممن ينيرون الطريق للناس محل لمز وعيب، وموطن تندُّر واعتراض ربما من فئام لم يشمّوا رائحة العلم، فتلك مصيبة.
وقد أحسن الأول حين قال:
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم *** أو سدوا المكان الذي سدوا
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده...
عباد الله: وثالث آداب اللسان في الحجرات قول المولى -جل وعلا-": (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الحجرات: 6].
الله يأمرنا أن نتثبّت حين يأتينا الخبر من الغير، فكم من خبرٍ من فاسق قَصد به التفريق، كم من قولةٍ من شخص ما تحرى ولا تأكد، فلربما وقعت خصومات وتفرقت جماعات وحلّت عداوات ونشبت خلافات صعب درؤها بأخبارٍ لو تبين المرء فيها وتثبت، لوجدها كذباً قصداً أو بغير قصد.
واليوم -يا كرام- تعددت وسائل نقل الأخبار، وتشوّف الناس لسماع القيل والقال، وسهل إطلاق الاتهام بأيسر ما يكون، سيلٌ جارف من الإشاعات، وضروبٌ من الاتهامات عن قريب أو صديق، أو عن ولي أمرٍ أو مصلح، ترتب عليها أن اتُّهِمَ أبرياء، وقُذِفَت محصنات، وأسيء الظن بأخيار، وقُدِح في أعراضٍ وأديانٍ، وصيةُ الله لك هنا: إذا جاءك الخبر من أحدٍ فتبين، تبيّن قبل أن تقبل ما قيل، ثم تعمل بموجبه فتندم (فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)، وهل رأيت الزجاج يعود إذا انكسر؟!
وارجع بذاكرتك لأحداثٍ لك أو من حولك، بداياتها خبر لم يَلْقَ حقّه من التثبت، بل وهل خاض الخائضون بعرض النبي -صلى الله عليه وسلم- واتهموا عائشة إلا حين لم يتثبتوا؟ وهل شُوِّهت سمعة فلان وفلان إلا من نَقْل غير مُتثبّت منه؟!
ولو أننا ارتسمنا هذا الهدي لسلمت قلوبنا وحفظت علاقاتنا واستبقينا حسناتنا.
قال ابن الجوزي: "ما اعتمد أحدٌ أمرًا إذا همَّ بشيء مثلَ التثبت؛ فإنه متى عمل بواقعة من غير تأمل للعواقب، كان الغالب عليه الندم"(صيد الخاطر: 385).
وطريق التثبت في كل خبر هو أن تنظر هل ناقل الكلام عدلٌ صادقٌ، أو هو كاذب فاسق، فإن كان عدلاً فهل ضَبط ما نقل، فكم من إنسان نقل فلم يضبط، فزاد على ما سمع، أو نقص، أو بدّل وغيّر، فوصل الأمر إليك مختلفاً عن الواقع، ولو نقل الأمر بتمامه لزال الإشكال.
عباد الله: والحديث عن السورة وأخلاق المسلم من خلالها لم ينته بعد، فهي مدار الحديث في جمعة قادمة إن يسر الله.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم