إنها أُمك

الشيخ د نواف بن معيض الحارثي

2025-08-15 - 1447/02/21 2025-08-25 - 1447/03/02
عناصر الخطبة
1/مكانة الأم وعظم عطائها 2/معاناة الأم وتضحيتها لأبنائها 3/من دلالات بر الأمهات 4/من فضائل بر الأمهات 4/حكم الاحتفال بعيد الأم 5/نصيحة إلى المقصرين مع أمهاتهم

اقتباس

عِندَما تكونُ الأمُّ في دارِ العَجَزةِ حَبيسةُ الآلامِ، أو عِندما تكونُ وَحيدةً في بيتٍ لا يُسمعُ فيه وَقعُ الأقدامِ، أو عِندما ينشغلُ عنها الأبناءُ والبَناتُ طِوالَ العامِ، أو عِندَما لا ترى إلا في الكِلابِ والقِططِ الوفاءَ والاحترامَ؛ فَحِينَها يَحقُّ لنا أن نضعَ للأمِّ عِيداً...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمدُ للهِ الذي شَهِدتْ بوجودِهِ آياتُهُ البَاهرةُ، ودَلَّتْ على كَرمِ جُودِهِ نِعَمُهُ البَاطنةُ والظَّاهرةُ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَه لا شَريكَ لَهُ، لَهُ الملكُ ولَهُ الحَمدُ وهو عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ، وأَشهدُ أَنَّ مُحمداً عَبدُ اللهِ ورَسولُه، إمامُ الأتقياءِ، وسَيدُ الأصفياءِ، وخَيرُ من مَشى تَحتَ أَديمِ السَّماءِ، صَلَّى اللـهُ عَليهِ وعَلى آلِهِ وأَصحابِه أَجمعينَ.         

 

أما بعدُ: فأُوصيكم ونَفسي بتقوى اللهِ -تَعالى- وطَاعتِه، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

 

عباد الله: سارَ رجلٌ يَقْطَعُ الْفَيَافِيَ وَالْقِفَارَ، قَدِ اغْبَرَّ وَجْهُهُ، وَشَعِثَ شَعَرُهُ، وَتَتَابَعَتْ أَنْفَاسُهُ، وَبَلَغَ بِهِ الْـجَهْدُ مَبْلَغَهُ، إِذَا سَارَ مَفَازَةً وَقَفَ وأنزلَ الْحِمْلَ عَنْ ظَهْرِهِ، وَجَعَلَ يَلْتَقِطُ أَنْفَاسَهُ مَلِيًّا، حَتَّى إِذَا مَا اسْتَرَدَّ إِلَيْهِ نَفَسَهُ، وَهَدَأَتْ نَفْسُهُ، حَمَلَ حِمْلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَسَارَ مُيَمِّمًا بَيْتَ اللَّـهِ الْـحَرَامَ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَهُوَ يَقُولُ: 

 

إِنِّي لَـهَا مَطِيَّـةٌ لا تَذْعَرُ *** إِذَا الرِّكَابُ نَفَرَتْ لَا تَنْفِرُ

مَا حَمَلَتْ وَأَرْضَعَتْنِي أَكْثَرُ *** اللَّـهُ رَبِّي ذُو الْـجَلَالِ الْأَكْبَرُ

 

وَبَيْنَمَا هُوَ يَطُوفُ بهذا الحمل على ظهره، إِذْ رَأَى الصَّحَابِيَّ الْـجَلِيلَ عَبْدَاللَّـهِ بْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُمَا- فَقَالَ: "أَتُرَانِي جَازَيْتُهَا؟"، قَالَ: "لَا، وَلَا زَفْرَةً وَاحِدَةً".

 

لقد كَانَ هَذَا الْـمَحْمُولُ هِيَ أُمَّهُ الَّتِي رَبَّتْهُ فَأَحْسَنَتْ تَرْبِيَتَهُ، حَتَّى غَدَا رَجُلًا، بَلَغَ مِنْ بِرِّهِ مَا تَرَى، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ!.

 

عباد الله: الأمُّ عَتَادُ الْبَيْتِ، وَمَصْدَرُ الْأُنْسِ، وَأَسَاسُ الْـهَنَاءِ، قَسِيمَةُ الْـحَيَاةِ، وَمَوْطِنُ الشَّكْوَى، يَطِيبُ الْـحَدِيثُ بِذِكْرَاهَا، وَيَرْقُصُ الْقَلْبُ طَرَبًا بِلُقْيَاهَا، فَنِعْمَ الْـجَلِيسُ الأمُّ، وَخَيْرُ الْأَنِيسِ وَالنَّدِيمِ الأمُّ.

 

الأمٌّ لَطِيفَةُ الْـمَعْشَرِ، طَيِّبَةُ الْـمَخْبَرِ، تُعْطِي بِسَخَاءٍ، وَلَا تَمَلُّ الْعَطَاءَ، حَنَانُهَا فَيْضٌ لَا يَنْضُبُ، وَنَبْعُهَا زُلَالٌ لَا ينفدُ، الأمُّ لَا تُوَفِّيهَا الْكَلِمَاتُ، وَلَا تَرْفَعُهَا الْعِبَارَاتُ، وَإِنَّمَا مَحَلُّهَا سُوَيْدَاءُ الْقَلْبِ، وَكَفَى بِهِ مُسْتَقَرًّا.

 

لِأُمِّكَ حَقٌّ لَوْ عَلِمْتَ كَثِيرُ *** كَثِيرُكَ يَا هَذَا لَدَيْهِ يَسِيرُ

 

يَا عَبْدَ اللَّـهِ: تَأَمَّلْ مَعِي عِظَمَ قَدْرِ الْأُمِّ، وَجَمِيلَ إِحْسَانِهَا إِلَيْكَ: حَمَلَتْكَ فِي أَحْشَائِهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، ذَاقَتْ فِيهَا الْـمُرَّ، وَتَغَيَّرَتْ عَلَيْهَا دُنْيَاهَا، فَمَا الْـمَذَاقُ هُوَ الْـمَذَاقُ، وَلَا الْـمُعَاشَرَةُ هِيَ الْـمُعَاشَرَةُ، فَكَمْ مِنْ أَنَّةٍ خَالَجَتْهَا، وَزَفْرَةٍ دَافَعَتْهَا مِنْ ثِقَلِكَ بَيْنَ جَنْبَيْهَا، لَا يَزْدَادُ جِسْمُكَ نُمُوًّا إِلَّا وَتَزْدَادُ مَعَهُ ضَعْفًا!.

 

تُسَرُّ إِذَا أَحَسَّتْ بِحَرَكَتِكَ دَاخِلَ جَوْفِهَا، وَلَا يَزِيدُهَا تَعَاقُبُ الْأَيَّامِ وَكَرُّ اللَّيَالِي إِلَّا شَوْقًا لِرُؤْيَتِكَ وَاشْتِيَاقًا لِطَلَّتِكَ!، ثُمَّ تَأْتِي سَاعَةُ خُرُوجِكَ؛ فَتُعَانِي مَا تُعَانِي مِنْ خُرُوجِكَ، فَلَا تَسَلْ عَنْ طَلْقِهَا الَّذِي يُعْتَصَرُ لَهُ الْفُؤَادُ، وَآلَامِهَا الَّتِي تُعْجِزُهَا عَنِ الْبُكَاءِ، حَتَّى إِذَا مَا خَرَجْتَ مِنْ أَحْشَائِهَا، وَشَمَّتْ عَبَقَ رَائِحَتِكَ؛ نَسِيَتْ آلَامَهَا، وَتَنَاسَتْ أَوْجَاعَهَا، وَعَلَّقَتْ فِيكَ جَمِيعَ آمَالِهَا، فَكُنْتَ أَنْتَ الْـمَخْدُومَ فِي لَيْلِهَا وَنَهَارِهَا، كُنْتَ أَنْتَ رَهِينَ قَلْبِهَا، وَنَدِيمَ فِكْرِهَا، تُغَذِّيكَ بِصِحَّتِهَا، وَتُدَثِّرُكَ بِحَنَانِهَا، وَتُمِيطُ عَنْكَ الْأَذَى بِيَمِينِهَا، تَخَافُ عَلَيْكَ مِنَ اللَّمْسَةِ، وَتُشْفِقُ عَلَيْكَ مِنَ الْـهَمْسَةِ.

 

إِذَا صَرَخْتَ فَزَّ قَلْبُهَا إِلَيْكَ، وَإِذَا جُعْتَ تَلَهَّفَتْ مِنْ أَجْلِ سَدِّ جَوْعَتِكَ، سُرُورُهَا أَنْ تَرَى ابْتَسَامَتَكَ، رَاحَتُهَا أَنْ تَضُمَّكَ إِلَى صَدْرِهَا، إِذَا مَسَّكَ ضُرٌّ لَمْ يَرْقَأْ لَهَا دَمْعٌ، وَلَمْ تَكْتَحِلْ بِنَوْمٍ، تَفْدِيكَ بِرُوحِهَا وَعَافِيَتِهَا!، فَكَمْ لَيْلَةٍ سَهَرَتْهَا مِنْ أَجْلِ رَاحَتِكَ، وَكَمْ دَمَعَاتٍ رَقْرَقَتْهَا مِنْ أَجْلِ صِحَّتِكَ، وَلِسَانُ حَالِهَا:

 

فَنَمْ وَلَدِي بِمَهْدِكَ فِي هَنَاءٍ *** وَدَاعِبْ طَيْفَ أَحْلَامِ الرُّقَادِ

وَإِنْ حَلَّ الظَّـلَامُ بِجَانِحَيْهِ *** وَأَرْخَى ظِلَّهُ فِي كُـلِّ وَادِ

وَنَامَ الْـخَلْقُ فِي أَمْنٍ جَمِيعًا *** فَقَلْبِي سَـاهِرٌ عِنْدَ الْمِهَادِ

 

وَيَا لَيْتَ عَنَاءَهَا يَنْتَهِي عِنْدَ هَذَا، بَلْ مَا تَزِيدُهَا الْأَيَّامُ لَكَ إِلَّا حُبًّا، وَعَلَيْكَ حِرْصًا، فَمَا أَنْ يَتِمَّ فِصَالُكَ عَامَيْنِ، وَتَبْدَأَ خُطُوَاتُكَ الصَّغِيرَةُ بِالثَّبَاتِ، إِلَّا وَتَرْمُقُكَ بِنَظَرَاتِهَا، وَتُحِيطُكَ بِعِنَايَتِهَا، أَوَامِرُكَ مُطَاعَةٌ، وَطَلَبَاتُكَ مُجَابَةٌ، تَغْتَمُّ لِحُزْنِكَ، وَتَضِيقُ لِغَضَبِكَ، تَشْقَى لَكَ أَنْتَ، تَسْعَدُ وَتَتْعَبُ حَتَّى تَهْنَأَ أَنْتَ!.

 

فَكَمْ مِنْ دُمُوعٍ عَنْكَ أَزَالَتْهَا، وَهُمُومٍ عَنْ صَدْرِكَ أَزَاحَتْهَا!، حَتَّى إِذَا صَلُبَ عُودُكَ، وَزَهَرَ شَبَابُكَ، كُنْتَ أَنْتَ عُنْوَانَ فَخْرِهَا، وَرَمْزَ مُبَاهَاتِهَا، تُسَرُّ بِسَمَاعِ أَخْبَارِكَ، وَتَسْعَدُ بِرُؤْيَةِ آثَارِكَ، إِذَا غِبْتَ عَنْ عَيْنِهَا رَافَقَتْكَ دَعَوَاتُهَا.

 

فَكَمْ مِنْ دَعَوَاتٍ لَكَ تَلَجْلَجَتْ وَأَنْتَ لَا تَدْرِي، وَكَمْ مِنِ ابْتِهَالَاتٍ سَالَتْ مَعَهَا الدُّمُوعُ عَلَى الْـمَآقِي مِنْ أَجْلِكَ وَأَنْتَ لَا تَشْعُرُ، مُنَاهَا أَنْ يُرَفْرِفَ السُّرُورُ فِي سَمَائِكَ، غَايَتُهَا أَنْ تُوَفَّقَ فِي حَيَاتِكَ وَبِنَاءِ أُسْرَتِكَ.

 

تُعْطِيكَ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَا تَطْلُبُ مِنْكَ أَجْرًا، وَتَبْذُلُ لَكَ كُلَّ وُسْعِهَا وَلَا تَنْتَظِرُ مِنْكَ شُكْرًا، أَحْسَنَتْ إِلَيْكَ إِحْسَانًا لَا تَرَاهُ، وَقَدَّمَتْ إِلَيْكَ مَعْرُوفًا لَنْ تُجَازَاهُ.

 

أَطِعِ الْإِلَهَ كَمَـا أَمَـرْ *** وَامْلَأْ فُؤَادَكَ بِالْـحَذَرْ

وَأَطِـعْ أَبَـاكَ فَـإِنَّهُ *** رَبَّاكَ فِي عَهْدِ الصِّغَرْ

وَاخْضَعْ لِأُمِّكَ وَارْضِهَا *** فَعُقُوقُهَا إِحْدَى الْكُبَرْ

 

الْبِرُّ بِالْأُمِّ -عِبَادَ اللَّـهِ- مَفْخَرَةُ الرِّجَالِ، وَشِيمَةُ الشُّرَفَاءِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ خُلُقٌ مِنْ خُلُقِ الْأَنْبِيَاءِ، قَالَ -تَعالى- عَنْ يَحْيَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا)[مريم: 14]، وَقَالَ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا)[مريم: 32].

 

الْبِرُّ بِالْأُمِّ -إِخْوَةَ الْإِيمَانِ- بُرْهَانٌ عَلَى صِدْقِ الْإِيمَانِ، وَحُسْنِ الْإِسْلَامِ، وَعَمَلٌ بِالتَّقْوَى، الْبِرُّ بِالْأُمِّ يَتَأَكَّدُ يَوْمَ يَتَأَكَّدُ إِذَا تَقَضَّى شَبَابُهَا، وَعَلَا مَشِيبُهَا، وَرَقَّ عَظْمُهَا، وَاحْدَوْدَبَ ظَهْرُهَا، وَارْتَعَشَتْ أَطْرَافُهَا، وَزَارَتْهَا أَسْقَامُهَا، فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنَ الْعُمُرِ لَا تَنْتَظِرُ صَاحِبَةُ الْـمَعْرُوفِ وَالْجَمِيلِ مِنْ وَلَدِهَا إِلَّا قَلْبًا رَحِيمًا، وَلِسَانًا رَقِيقًا، وَيَدًا حَانِيَةً.

 

فَطُوبَى لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَى أُمِّهِ فِي كِبَرِهَا، طُوبَى لِمَنْ شَمَّرَ عَنْ سَاعِدِ الْجِدِّ فِي رِضَاهَا!، فَلَمْ تَخْرُجْ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا وَهِيَ عَنْهُ رَاضِيَةٌ مَرْضِيَّةٌ.

 

فيَا مَنْ تُرِيدُ رِضَا رَبِّ الْبَرِيَّاتِ، وَتَطْلُبُ جَنَّةً عَرْضُهَا الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ: دُونَكَ مَفَاتِيحَهَا؛ بِإِحْسَانِكَ لِأُمِّكَ وَرِضَاهَا عَنْكَ، جاءَ رَجُلٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يَحْدُوهُ شَوْقُهُ إِلَى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، وَتَتَعالى هِمَّتُهُ لِاسْتِرْضَاءِ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ، فَيَمْشِي إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّـهِ، ائْذَنْ لِي بِالْجِهَادِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟"، قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: "الْزَمْ رِجْلَهَا؛ فَثَمَّ الْـجَنَّةُ"(ابن ماجهْ).

 

يَا مَنْ تُرِيدُ مَغْفِرَةَ الذُّنُوبِ وَسَتْرَ الْعُيُوبِ: دونَّك ما تسمع، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "نمتُ فَرأيتَني في الجَنَّةِ، فَسمعتُ صَوتَ قَارئٍ، فَقلتُ: من هَذا؟ فقَالوا: حَارثةَ بنَ النعمانِ"، فقَالَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "كَذلكَ البِّرُّ، كَذلكَ البِّرُّ، وَكانَ أَبرَّ النَّاسِ بأمِّهِ"(أحمد وغيره)، وكَانَ حَارثةُ -رَضيَ اللهُ عَنهُ- يُفلي رَأسَ أُمِّهِ، ويُطعمُها بيدِه، وَلَمْ يَسْتَفْهِمْهَا كَلَامًا قَطُّ تَأْمُرُ بِهِ حَتَّى يَسْأَلَ مَنْ عِنْدَهَا بَعْدَ أَنْ يَخْرُجَ: مَا أَرَادَتْ أُمِّي؟.

 

الأُمُّ رَيحَانَةُ الدُّنيا وبَهجتُها *** هَيهَاتَ أَلقَى كَقَلبِ الأُمِّ هَيهَاتَا

 

يامن تريدُ أن تُفْتَحَ لكَ أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ، وَتُجَابُ لكَ الدَّعَوَاتِ: كنْ باراً بأمِّكَ حَانِيًا عَلَيْهَا، مُحْسِنًا إِلَيْهَا، فلقد أَخْبَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ: أَنَّهُ كَانَ مُجَابَ الدُّعَاءِ، وَكَانَ مِنْ أَبَرِّ النَّاسِ بِوَالِدَتِهِ، وكان به برصٌ فبرئَ بِبرِّه بأمِّه.

 

ألا فاتقوا الله -عباد الله- وليتأمل كلٌ منَّا في بره بوالديه أحياءً كانوا أو أمواتاً؛ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)[لقمان: 14].

 

أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله...

 

أما بعد:

 

عباد الله: عِندَما تكونُ الأمُّ في دارِ العَجَزةِ حَبيسةُ الآلامِ، أو عِندما تكونُ وَحيدةً في بيتٍ لا يُسمعُ فيه وَقعُ الأقدامِ، أو عِندما ينشغلُ عنها الأبناءُ والبَناتُ طِوالَ العامِ، أو عِندَما لا ترى إلا في الكِلابِ والقِططِ الوفاءَ والاحترامَ؛ فَحِينَها يَحقُّ لنا أن نضعَ للأمِّ عِيداً حتى لا نَنساها يوماً من الأيامِ!.

 

وفي هذا الشهرِ يُحتفلُ بعضُ المسلمينَ بعيدِ الأمِّ، فهل أصبحنا نحتاجُ إلى يومٍ نتَذكَّرُ فيهِ الأمَّهاتِ؟! فأينَ الاهتمامُ والرِّعايةُ في كلِّ الأيامِ والأوقاتِ؟! وأينَ الإحسانُ والوَصيةُ بِبرِّ الوالدينِ؟! أم أنَّها التَّبعيةُ والتَّقليدُ الأعمى؟! وجَمالُ حَضارةِ الغَربِ الأَعلى؟!.

 

فَعَجباً لأمَّةٍ أخرجَها اللـهُ -تعالى- لهِدايةِ الأنامِ، تَستوردُ ما أنتجتْهُ ثَقافةُ العُقوقِ والإجرامِ، بَدلَ أن تُصدّرَ مكانةَ الأمِّ وحقَّها في الإسلامِ، فعُذراً لكلِّ أمٍّ في عِيدِ الأمِّ، فأنتِ -أيَّتُها الحَنونُ- لستِ يوماً من الأيامِ، بل أنتِ طاعةً وعبادةً على الدَّوامِ، فلَكِ مِنَّا في الحياةِ البِّرُ والإحسانُ،

ولَكِ مِنَّا بعدَ المماتِ الدُّعاءُ بالغُفرانِ، مَعَ الاعترافِ بالتَّقصيرِ في الحُبِّ والعِرفانِ.

 

أَحِّنُّ إلى الكَأسِ التي شَرِبَتْ بِهَا *** وَأَهوى لمَثوَاها التُّرابَ ومَا ضَمَّا

 

أيها الْـمُقَصِّرَ مَعَ أُمِّهِ: تَذَكَّرْ لَيْلَةً تُصْبِحُهَا بِلَا أُمٍّ مُشْفِقَةٍ، لَكَ دَاعِيَةٌ، وَعَنْكَ سَائِلَةٌ، تَذَكَّرْ يَوْمًا تَحْثُو فِيهِ التُّرَابَ عَلَى صَاحِبَةِ الْقَلْبِ الرَّهِيفِ، وَالْجِسْمِ الضَّعِيفِ، تَذَكَّرْ سَاعَةً تَدْخُلُ فِيهَا الْمَنْزِلَ، فَلَا تَسْمَعُ صَوْتَهَا، وَلَا تُبْصِرُ رَسْمَهَا، فَاسْتَغْفِرْ رَبَّكَ -أَخِي الْـمُقَصِّرَ-، وَعَاهِدْ نَفْسَكَ مِنْ هَذَا الْـمَكَانِ عَلَى اسْتِدْرَاكِ مَا فَاتَ بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ فِيمَا هُوَ آتٍ، فَهَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ؟!.

 

اللهمَّ يا ذا الأسماءِ الحُسنى والصِّفاتِ العُلى، اغفرْ لآبائِنا وأمَّهاتِنا، جازِهم بالإحسانِ إحسانًا، وبالسيِّئاتِ عَفوًا وغُفرانًا، اللهمَّ يا حيُّ يا قَيومُ، ارزقنا برَّ والدِينا أحياءً وأمواتًا، واجعلْنا لهم قُرَّةَ أعينٍ.

المرفقات

إنها أُمك.doc

إنها أُمك.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات