عناصر الخطبة
1/كلمات مؤلمة ونداء مهم 2/أمانة الدين 3/عِظَم نعمة الإسلام 4/أهمية الدعوة إلى الإسلام 5/عظم أجور الدعاة إلى الله تعالى 6/سعة مجالات الدعوةاقتباس
والداعية إلى الله هو أبركُ الناس عملاً، فيومَ أن يعيشَ الناسُ في الدنيا بأعمارهم، وتنقضي أعمالهم بانقطاع آجالهم، يظلُ الداعيةُ أجرُه ماضياً، ونهرُ حسناتِه جارياً،... ويوم أن يُوفَّق العبدُ لهداية ضالٍ عن طريق الاستقامة، أو متنكّب طريق الإسلام إليه، فإنه لا يعمل عملاً صالحاً ولا يؤدي صلاة ولا صيام إلا ولداعيه مثلُ أجره...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أحاط بكل شيء رحمة وعلماً، وأتقن ما صنعه وأبدع ما شرعه إحكاماً وحُكماً، تفرد بالكمال المطلق من كل الوجوه، فهو المحمود المقصود في جميع الحوائج فكل مخلوق يؤمله ويرجوه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نظير، وليس له كفؤ ولا ولد ولا صاحبة ولا وزير، تبارك من عظمت صفاته وكثرت خيراته، وتعالى من عمّت أهلَ السماواتِ والأرض آلاؤُه وهباته.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي اصطفاه على العالمين، وجعله إماماً وسيداً للأولين والآخرين، وشفيعاً للخلائق يوم الدين، وختم به الأنبياء والمرسلين، اللهم صلِّ عليه وعلى آله وصحابته وأتباعهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المؤمنون-، واعملوا لما لأجله خُلقتم، وقدِّموا من دنياكم لآخرتكم، وأرضوا الله ربكم، واعلموا أن الدنيا كانت ولستم فيها على الوجود، وستذهبون كما ذهب غيركم، فأعِدُّوا لسفركم وقدِّموا من زاد الصالحات ما يُبيِّض وجوهكم.
عباد الله: وقف ذلك الرجل بعد ما اعتنق الإسلام محادثاً جمعاً من المسلمين قائلاً لهم: يا مسلمون، لقد أكرمكم الله بكنزٍ لا كالكنوز. إن هذا الدين الذي تدينون الله به هو دواء البشرية، والأمر الذي سيداوي الباحثين عن النجاة في أصقاع الأرض، إن العالم قد أفلست فيه جميع نُظُم البشر، نظامه الاقتصادي فاسد، وها أنتم ترون الربا وغيره قد ضاعف الأمور سوءاً، ونظامه السياسي قد تبدَّى على حقيقته، وليس نظامه الأخلاقي بعيداً عن ذلك.
ونظرةٌ إلى دول الكفر تريكم إلى أيّ مدى وصل الانحدار الأخلاقي والفكري، والاجتماعي، الجميع هناك محتاجون للإسلام، فأين أنتم يا مسلمون؟ إن آباءنا الذين ماتوا على الكفر كانوا يحتاجون دعوتكم، وأبناؤنا وإخواننا اليوم هم أمانةٌ في عنق كل قادر على الدعوة مِن أبناء ملتكم، فأين أنتم يا مسلمون؟ إن أهل الديانات المنسوخة، والعقائد الفاسدة يتفانون في دعوتنا والوصول إلينا، ونشر باطلهم، ودينكم هو دين الفطرة الذي بأقل جهد يفتح الله به القلوب فأين أنتم يا مسلمون؟
إنها كلماتُ رجلٍ أنار قلبُه بعد أن كان مظلماً، رجلٍ أسلم ودخل حياض الدين، يخاطب كل مسلم يُذكِّره بالأمانة.
نعم، وحديثنا عن الأمانة ما يزال، وهو اليوم عن أمانة الدين.
يا مؤمن: إنك يوم أن تقلب نعماء الله عليك فلن تجد شرفاً أعظم، ولا نعمةً أبلغ من نعمة الدين، أن جعلك الله مسلماً من أمة محمد؛ الذي أرسله الله إلى الجن والإنس إلى قيام الساعة، ذلكم النبي الذي حمل على عاتقة همّ الدعوة، فكان هو الداعية الأول بحق، نزل عليه قول الله: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)[الشعراء: 214]؛ فجدّ في الدعوة، وما فتر، حتى قال لفاطمة عند موته: "ليس على أبيكِ كرب بعد اليوم"، أمضى عمره كله صابراً ثابتاً، وإلى الله داعياً، حتى خلَّف من بعده مَن يحمل الأمانة، ومضى هو إلى ربه بعد ثلاثٍ وعشرين سنة قضاها في الدعوة.
انطلق الصحابة بعد ذلك دعاةً إلى الله في السهول والوهاد، والقريب والبعيد من البلاد، حجّ معه في حجة الوداع أكثر من مئة ألف، وما مات منهم في المدينة إلا قلائل، والبقية انتشروا دعاة إلى الله في كل مكان.
ولأجل الدعوة تركوا كثيراً من ملذَّات الدنيا، فمصعب أعطرُ شبابِ مكة، يُسافر للدعوة ليموت وهو لا يجد ما يُغطّى به بدنُه بعد وفاته، ومعاذٌ إلى اليمن يودعه النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول له: لعلك لا تلقاني بعد ذلك، فمضى وفي قلبه من الحزن ما فيه على فراق بلده وفراق أفضل الخلق رسول الله، ولكن في سبيل أداء أمانة الدين يُضحَّى بكل شيء.
ومضى جيل الصحابة، وأجيالٌ بعدهم إذا ذُكِروا ذُكِرَ الدين، عرفوا ثِقَل الأمانة التي اؤتمنوا عليها، فسعوا لإبراء ذممهم حتى سَعِد الناس بدين الإسلام في كثيرٍ من أصقاع الأرض، وذهب الجميع وبقي الدين، وبقي أبناء الدين.
مضى أولئكم الرعيل مصابيح الهدى ومشاعل الخير، وبقينا نحن، فهل نحن مستعدون، لحمل الأمانة، وبذلِ الدين الذي أُرسِل به محمدٌ إلى الثقلين إلى قيام الساعة، وماذا قدمنا للدين وبماذا خدمنا المسلمين، وأيّ جهد بذلناه لإنقاذ الغارقين؟
إنه سؤال ينبغي لكل مسلم أن يسأله نفسه، أمَا إن الأمر ليس خاصاً بأصحاب اللحى، ولا بمن درس علوم الشريعة، بل وليس الأمر خاصاً بالعرب، إنما لكل امرئ دان بالإسلام، بل وليس خاصاً بالناس بل حتى الجن، وفي القرآن خبر منذري الجن، ونحن حُمِّلْنا أمانةَ الدين، فكيف نؤدي الأمانة؟
يا مؤمن: أول أمر نؤدي به أمانة الدين هو إصلاحُنا لأنفسنا، وهَل الأمةُ إلا أفرادٌ!، ولو أن كل فردٍ أصلح نفسه لصَلُحَ حالُ الأمة.
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ
فأول خطوة لأداء الأمانة هي أن تطبّق الإسلام في نفسك.
إنك -يا موفق- لربما لا تقدر على الدعوة ولا على التعليم لكنه لا يعجزك أن تمتثل هدي الإسلام، والناسُ بحاجة لمن يدعون إلى الله بفعالهم أبلغ ممن يدعون بأقوالٍ مجردة عن التطبيق.
عبد الله: وانطلق بعد ذلك للأقربين، فهم أولى الناس بدعوتك، وهذا ما انطلق منه الداعية الأول؛ حين أرشده الله -سبحانه-: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)[الشعراء: 214]، وتقصيرٌ أن ينال الأباعدَ عِلمُك ودعوتُك، ولربما بيتُك وبناتك وأبناؤك وأقاربك لديهم من التقصير ما يستدعي أن تجعله أولَ أهدافك.
أيها المبارك: والداعية إلى الله هو أبركُ الناس عملاً، فيومَ أن يعيشَ الناسُ في الدنيا بأعمارهم، وتنقضي أعمالهم بانقطاع آجالهم، يظلُ الداعيةُ أجرُه ماضياً، ونهرُ حسناتِه جارياً، أوَليس رسولنا؛ قال عن الدعوة حاثّاً وحادياً "لئن يهدي بك الله رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم".
وماذا تساوي أمور الدنيا أمام أجرٍ يناله المرء في مقابل دعوته، ويوم أن يُوفَّق العبدُ لهداية ضالٍ عن طريق الاستقامة. أو متنكّب طريق الإسلام إليه، فإنه لا يعمل عملاً صالحاً ولا يؤدي صلاة ولا صيام إلا ولداعيه مثلُ أجره، أو ليس هو مَن دلّه، والمصطفى؛ قال: "مَن دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله"، فهنيئاً لمن يأتي بأعمال من الصالحات ما عملها، ولمن يعيش عمرين أو ثلاثة أو أكثر، والموفق مَن وفَّقه الله.
اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الخطبة الثانية:
عباد الله: الدعوة إلى الله مفهومٌ ليس خاصاً بمنبر وصورة واحدة، بل هي مفهوم واسع يشمل كل دعوة للخير، وأمر بمعروف.
وكم هي فرص الدعوة التي بين أيدينا وتحتاج منا لكسر الحاجز، والبدءِ بالعمل بالدعوة إلى الله، ففي الأرض خلقٌ كثيرٌ، يُقال: إن المسلمين لا يتجاوزون خُمسهم، فمن لبقية الأخماس، ما نصيبهم مِن جهودنا ودعوتنا، فهم أولى من يُدعى، وبعضهم بين أيدينا قريباً، ومن تنأى به منهم الديار، فالوسائل الحديثة تختصر لنا المسار، ونستطيع بها إيصالَ صوتِ الإسلام إلى أقاصي الأرض من الأمصار، فأين العاملون؟
والخُمس الذي يمثله المسلمون كم فيه من خللٍ في الاعتقاد، وتقصير في العبادات، وهو محتاج للدعوة، إذ هم رأس المال فأين المُجِدّون المتحركون؟
نعم في كل هذا مشقة، فيه غربة، فيه بذل جهد ومال، ولكن لا جنة بدون تعب، ولا ثمرة بدون نصب، ولا يُدرَك النعيم بالنعيم، بل تُنال المعالي ببذل الجهد العالي، والمُوفَّق مَن كان هَمّه أن يكون للمتقين إماماً كما هي دعوة عباد الرحمن.
أيها الفضلاء: والدعوةُ ليست مقصورةً على خطبة تدبج أو محاضرة تلقى، بل أساليبها متنوعة متعددة، ويكفي أن تعلم أن كل خدمة للدين فهي دعوة إلى الله، فانظر فيما يناسبك.
فبذل المال في حوائج المدعوين، وتفريج الكربات، والبذل فيما يسمع ويُقرأ مما فيه دعوة إلى الدين، كل ذلك من وسائل الدعوة، وأداء أمانة الدين، وكم كان لها من الأثر في القلوب.
والخلق الحسن، والكلمة الطيبة، والتعاون مع المراكز الدعوية، أمور من الدعوة، وطرائق لتأدية أمانة الدين، ولا يعجز عنها جُلّ الناس.
يا كرام: ولو يُطالِبُ اللهُ الناسَ بالنتائج مِن دعوتهم لشقَّ ذلك عليهم، ولكن يُطالِب بالعمل وكفى، فإنْ حصل قَبولٌ، فذاك خيرٌ على خير، وإلا فالأجرُ قد ثبت بمجرد العمل، ومن الأنبياء من يأتي وليس معه أحد.
فيا من ائتُمِن على أمانةِ الدين كي تقوم بهذه المهمة وتسعد فيها وتُعان، احتسب في أعمالك، وأخلص لله نيتك، واصبر على أذى قد ينالك، فقد نال الداعيةَ الأولَ رسولَ الله ما ناله في طريق الدعوة، فلا تتوقع أن تجد طريق الدعوة مفروشاً بالأكاليل، فوطِّن نفسك، واعلم أن ما تقدمه في سبيل أداء أمانة الدين من مالٍ وجهدٍ ووقتٍ مخلوفٌ، وستلقى جزاءه وعِوضه وبركته في الدنيا والآخرة.
وأخيراً: فهمسة أُذَكِّر نفسي والكرامَ بها، إنّ أعظم عملٍ تُقدِّمه في الدنيا هو أن تُنقِذ نفسك ثم غيرَك، وأن تدعو الناس إلى دين ربك، فذاك أمرٌ تجد أثره يومَ أن توزن صحائف أعمالك، وإذا كان أبو بكر يأتي يوم القيامة وفي صحيفة أعماله خمسةٌ من المبشرين بالجنة، فمن سيأتي يوم القيامة بصحيفتك؟
والدينُ الذي جعله الله للناس جميعاً إلى قيام الساعة لا بد له من رجال يقومون به، والخلائق التي تتيه في دياجير الظلام والكفر والفسق هم أمانةٌ في عنقٍ كل مقتدر على الدعوة، فقدِّم ما في مقدرتك ولن يُكلف الله نفساً إلا وسعها، وأبشر بالخير فالمستقبل للإسلام، والدين سيصل إلى كل بيت مدرٍ ووبر، بمصداق قول المصطفى فكن ممن له شرف المشاركة في ذلك.
وعالي الهمة لا يفكّر بدعوة قومه الأقربين، بل يسعى لتحقيق وعد سيد المرسلين، بتبليغ الدين لكل أرض، بأن يكون نشر الدين على يديه، إن بموقع أو بمقطع، أو بكلمة، أو بكتابة، أو بتشجيع لعاملٍ، أو بدعاء له، ودعم لمسيرته.
نعم كلنا قادرون، ولكن الموفّق مَن وفقه ربه العالمين.
اللهم وفِّقنا لخدمة دينك، واجعلنا مفاتيح خير، اهدنا واهد بنا واهد لنا، ويسر الهدى لنا يا رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم