الإخلاص… عبادة السرائر ومفتاح النجاة

عبد الله بن عبد الرحمن البعيجان

2025-11-14 - 1447/05/23 2025-11-15 - 1447/05/24
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/الإخلاص في العمل شرط لا تقبل الأعمال إلا به 2/توضيح معنى الإخلاص وأهميته 3/الفوائد العظمى للإخلاص 4/الوصية بالإخلاص

اقتباس

الإخلاص سر عظيم من أسرار الله في خلقه، جعَلَه علامةَ الاصطفاءِ، وأودَعَه في قلب مَنْ أحبَّ من عباده، فنوَّر به قلبَه ودَربَه وبصيرتَه، فَمَنْ أخلَص لله أخلَصَه اللهُ لنفسه، واختصَّه برحمته، وجادَ عليه بلُطفِه، وجعَل في قلبه نورًا وطمأنينةً ورضًا...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له.

 

أشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه الأمين؛ بلَّغ الرسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونصَح الأمةَ، وجاهَد في الله حقَّ الجهاد حتى أتاه اليقين، صلَّى اللهُ وسلَّم عليه، وعلى آله وصحبِه، ومَنِ اهتدى بهديِه، واستنَّ بسُنَّتِه إلى يوم الدين.

 

أما بعدُ: فإن الله خلَق الإنسانَ لطاعتِه الموجِبةِ لمرضاتِه، ونهاهُ عن معصيتِه الموجِبةِ لسخطِه؛ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزَّلْزَلَةِ: 7-8]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].

 

عبادَ اللهِ: إن الله -تعالى- قد اشترَط للأعمال الصالحة شرطًا لا تُقبَل إلا به، ولا تتحقَّق مقاصدُها إلا به، ولا يُثاب عليها إلا به؛ إنه شرطٌ من أعظمِ أعمالِ القلوبِ، ولا يطَّلِع عليه إلا علَّامُ الغيوبِ، إنه شرطٌ من أجلِّ وأفضلِ القرباتِ، وأزكى الطاعاتِ: إنه الإخلاصُ.

 

وما أدراكم ما الإخلاصُ؟! إنه مكمنُ النجاةِ والخلاصِ، ودربُ الفوزِ والمناصِ، وأساسُ كلِّ عملٍ صالحٍ، وشرطُ قبولٍ لكل عبادة، وغايةُ كل مريدٍ؛ فالعملُ بلا إخلاصٍ هدرُ وقتٍ وطاقةٍ لا أجرَ له، وصلاةٌ وصومٌ بلا إخلاصٍ لا ثوابَ له، وصدقةٌ بلا إخلاصٍ لا قيمةَ لها.

 

الإخلاصُ -عبادَ اللهِ- صفاءُ القلبِ من شوائبِ الرياء، وتنقيةُ النفسِ من أهوائِها، وتزكيةُ السريرةِ من حظوظِها، وإخلاصُ العملِ لله، وصدقُ النيةِ مع اللهِ، دونَ الالتفاتِ إلى رضى الناس، أو الحصولِ منهم على مكاسبَ دنيويةٍ أو منافعَ زائلةٍ، بل يجعلُ العبدُ همَّه وجهَ اللهِ، وغايتَه رِضَاهُ.

 

الإخلاصُ هو إفرادُ الحقِّ -سبحانه- بالقصد، وصرفُ العملِ مُتقرِّبًا به إلى اللهِ الواحدِ الأحدِ؛ طمعًا في رضاه وثوابِه، وخشيةً من غضبِه وعذابِه، بلا رياءٍ ولا سُمعةٍ ولا تصنُّعٍ للخَلْق، ولا رغبةٍ في المكاسبِ منهم والمنفعةِ.

 

والمخلِصُ هو مَنْ يَكتُم حسناتِه كما يَكتُم سيئاتِه، ويعملُ في خَلوَتِه كما يعملُ في جَلوَتِه، ويستوي عندَه المادحُ والذامُّ، وعبادتُه في وضحِ النهارِ كعبادتِه في حنادسِ الظلامِ، يستوي عنده السرُّ والعَلَنُ؛ لأنَّه لا يعبدُ إلا اللهَ، ولا يريد بعملِه إلا وجهَ اللهِ.

 

أيها الناسُ: الإخلاصُ هو الصدقُ في الاعتقادِ والعملِ، وتنقيةُ الباطنِ من شوائبِ الشركِ والرياءِ والنفاقِ والدَّغَلِ، قال -تعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ)[الْأَنْعَامِ: 162-163]، وقال: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)[الزُّمَرِ: 2-3]؛ فقيمةُ العملِ عندَ اللهِ إنما تكون بقدرِ الإخلاصِ فيه، فمن راءى بعمله وسمَّعه الناسَ ليُكرموه ويُعظِّموه ويعتقدوا خيرَه سَمَّعَ اللهُ به يومَ القيامةِ، وفضَحَه على رؤوس الأشهاد، عن ابنِ عباسٍ -رضي الله عنهما- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سَمَّع سَمَّع اللهُ به، ومَن راءى راءى اللهُ به"(أخرجه مسلم).

 

الإخلاصُ -عبادَ اللهِ- هو شرطٌ في قبولِ الأعمال، وما يتعلقُ بذلك القبولِ من الأجرِ والثواب، قال -تعالى-: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ)[الْبَيِّنَةِ: 5]، فمتى انتفى الإخلاصُ عن العمل؟ ضاع الأجرُ وحبط العملُ.

 

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: قال اللهُ -تبارك وتعالى-: "أنا أغنى الشركاءِ عن الشركِ، مَنْ عَمِلَ عملًا أشرَكَ فيه معيَ غيري تركتُه وشركَه"(أخرجه مسلم)، ولا يَقبَلُ اللهُ من الأعمال إلا ما كان خالصًا لوجهه، ومُوافِقًا لشرعِه وسُنَّةِ نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-.

 

الإخلاصُ -عبادَ اللهِ- حصنٌ منيعٌ من مكائدِ الشيطان، ووقايةٌ من مصارعِ السوءِ والخذلانِ، وسببٌ من أسبابِ النجاةِ والأمانِ، وقد أقسَم الشيطانُ بعزةِ اللهِ فقال: (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)[ص: 82-83]، وقال الله في شأن يوسف -عليه السلام-: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)[يُوسُفَ: 24].

 

الإخلاصُ -عبادَ اللهِ- هو أساسُ الإيمانِ، وركيزةٌ أساسيةٌ، ومَطلَبٌ ضروريٌّ في كل الأعمال من عباداتٍ ووظيفةٍ ومعمارٍ، به يحصلُ النشاط، ويزولُ الكسلُ والوهن، ويتحسَّن الأداءُ، ويُبارِك اللهُ في الجُهدِ، وتتحقَّق النتائجُ، ويبقى الأثرُ، ويُتوَّج العملُ بالنجاح والفلاح.

 

وبالإخلاص -عبادَ اللهِ- تتحولُ الأعمالُ من عاداتٍ ومباحاتٍ غيرَ مأجورٍ عليها، إلى عبادات ترفع الدرجات، وتضاعف عليها الحسنات، وتمحى بها السيئات، فعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنك لن تُنفق نفقةً تبتغي بها وجهَ اللهِ إلا أُجِرْتَ عليها، حتى ما تجعلُه في فَمِ امرأتِكَ"(متفق عليه)؛ فالعملُ عباد الله من غير نيةٍ عناء، والنيةُ بغيرِ إخلاصٍ رياءٌ، والإخلاصُ من غير متابعة للسُّنَّة هباء.

 

جعلنا الله وإيَّاكم من عباده المخلصين، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وأصحابه وأتباعه وأعوانه.

 

عبادَ اللهِ: إنَّ اللهَ -جلَّ في علاه- لا ينظر في صوركم وأموالِكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالِكم.

 

وصلاح القلبُ لا يكون إلا بالصدقِ والإخلاص، وصلاح العملِ لا يكون إلا باتباع الشرع، والقلب ملك الأعضاء وسيد الجوارح، فإن صلح صلحت كلُّها، وإن فسد فسدَت كلُّها؛ "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ"، وأجل أعمال القلوب وأشرفها هو الإخلاص، ذلك السر الخفي بين العبد وربه، وهو لبُّ العبادة وروحُها، وميزانُ القَبولِ عندَ اللهِ، لا يطَّلع عليه أحدٌ سواه؛ فيجب تحقيقُه في كل العبادات والطاعات، لكنَّه صعب المنال، سريع الانتقال والزوال، عسيرٌ على المرء، عزيز على النفس، شاق على القلب، لا يثبت إلا بقلب راقب الله في السر والعلن، وجاهَد نفسَه في كل حين، يحتاج إلى جُهد ومُراقَبة، وتجريد للنفس من حظوظها.

 

أيها الناسُ: الإخلاص سر عظيم من أسرار الله في خلقه، جعَلَه علامةَ الاصطفاءِ، وأودَعَه في قلب مَنْ أحبَّ من عباده، فنوَّر به قلبَه ودَربَه وبصيرتَه، فَمَنْ أخلَص لله أخلَصَه اللهُ لنفسه، واختصَّه برحمته، وجادَ عليه بلُطفِه، وجعَل في قلبه نورًا وطمأنينةً ورضًا، وقد أخبر الله -عز وجل- عن عجز إبليس عن أهل الإخلاص فقال -سبحانه-: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ في الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)[الْحِجْرِ: 39-40]؛ أي: إلا مَنْ عصمتَه بالإخلاص، وحصَّنتَه بالتوحيد، فإني لا أَقدِر على إغوائه، وقد جَرَتْ عادةُ اللهِ التي لا تتبدَّل، وسُنَّتُه التي لا تتحوَّل أن يكسو عبدَه المخلصَ ثوبَ المهابة والنور، ويجعل له القَبول في الأرض، والمحبةَ في قلوب الخلق، وإقبال قلوبهم إليه، ما هو بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه، ويلبس المرائي ثوب الزور من المقت والمهانة والبغض، ما هو لائق به، جزاء وفاقا، ولا يظلم ربك أحدًا.

 

وبعدُ عبادَ اللهِ: فإنما الأعمال بالنيات، وإنَّما لكل امرئ ما نوى، وإنَّما يتقبل الله من المتقين، فاتقوا اللهَ -تعالى-، وحاسِبوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبوا، وأصلِحوا قلوبَكم ونيَّاتِكم، وأخلِصوا في أعمالكم، فالكَيِّسُ مَنْ دانَ نفسَه وعَمِلَ لِمَا بعدَ الموت، والعاجزُ مَنْ أتبَع نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأمانيَّ، طُوبى لمن أخلَص قلبَه لله، وجعَل عملَه خالصًا لوجهِه الكريمِ، موجبًا للفوز لديه في جنات النعيم.

 

ثم صَلُّوا وسلِّموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهمَّ صل على محمد، وعلى آلِ محمد، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وبارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد.

 

اللهمَّ وفِّقْنا لإخلاصِ النياتِ، وصدقِ العزائمِ، وأَعِنَّا على إصلاح القلوب وتزكية النفوس، اللهمَّ طهِّرْ قلوبَنا من النفاق والرياء والسمعة، وطهِّرْ ألستَنا من الكذب، وأعُينَنا من الخيانة، فإنكَ تعلم خائنةَ الأعين وما تُخفي الصدورُ، اللهمَّ حبِّبْ إلينا الإيمانَ وزيِّنْه في قلوبنا، وكَرِّهْ إلينا الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ، واجعلنا من الراشدين.

 

اللهمَّ يا مقلبَ القلوب، ثبِّتْ قلوبَنا على دينِك، اللهمَّ يا مصرفَ القلوب، صرِّفْ قلوبَنا إلى طاعتِك.

 

(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)[آلِ عِمْرَانَ: 8].

 

اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وَانْصُرْ عبادَكَ الموحدينَ، واجعَلِ اللهمَّ هذا البلدَ آمنًا مطمئنًا، وسائرَ بلاد المسلمين.

 

اللهمَّ آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهمَّ وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين بتوفيقك، وأيده بتأييدك، وأعز به دينك يا رب العالمين، اللهمَّ وفقه وولي عهده لما تحب وترضى، يا سميع الدعاء.

 

اللهمَّ أنت اللهُ لا إله إلا أنتَ، أنت الغني ونحن الفقراء، أَنْزِلْ علينا الغيثَ، ولا تجعلْنا من القانطين.

 

اللهمَّ أغثنا غيثًا مغيثًا هنيئًا مريئًا مريعًا، نافعًا غير ضارٍّ، عاجلًا غيرَ آجل تحيي به البلادَ، وتجعله بلاغًا للحاضر والباد، اللهمَّ سقيا رحمة لا سقيا هدم ولا غرق ولا بلاء، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهمَّ أنبِتْ لنا الزرع، وأدرْ لنا الضرع، واسقنا من بركاتك يا أكرم الأكرمين، يا أرحم الراحمين.

 

اللهمَّ إنَّا نستغفرك إنك كنت غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهمَّ صل على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المرفقات

الإخلاص… عبادة السرائر ومفتاح النجاة.pdf

الإخلاص… عبادة السرائر ومفتاح النجاة.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات