عناصر الخطبة
1/قصة وعبرة 2/تعريف الغلول وحكمه 3/خطورة التعدي على المال العام 4/من مظاهر استغلال المال العام 5/ الاحتساب على المفسدين بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر 6/من علامات صلاح المجتمع ونجاته.اقتباس
وإن من أعظم علامات صلاح المجتمع ونجاته: التناصح بين أفراده، وإشاعة الأمر بالمعروف، بالحكمة والموعظة الحسنة، ضد كل منكر وفساد أخلاقي. والمرء لا يُكلّفه الله فوق طاقته، لكنه مسؤول عن منكر يقع بين يديه وهو قادرٌ أن ينكره ثم لا ينكره.....
الخُطْبَة الأُولَى:
أما بعد:
تلاحمَ الصفان، واحتدمَ القتال، وتساقط القتلى من الطرفين، وحين انتهت الحرب، قام المسلمون من أصحابِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتفقّدون الضحايا، ويستبشرون لهم بالعاقبةِ الحسنة، وهم الذين قدموا أرواحَهم ودماءَهم لإعلاءِ كلمةِ الله ودفاعاً عن دينِه ونصرةً لرسولِه -صلى الله عليه وسلم-.
وكلما مروا على رجلٍ استبشروا له بالشهادةِ، فما أعظمَ المنزلةَ، وما أجلَّ المكانةَ التي ختموا بها حياتَهم الدنيا.. وبينما هم يتفقّدون قتلاهم، إذا بهم يمرّون على رجل، فيقولون: "فلانٌ شهيدٌ"، فإذا بصوتٍ يعترضُ على هذه التسمية، وينفيها بكلِّ يقين، فيقول: "كلّا".
يلتفتون فإذا هو رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الذي لا ينطقُ عن الهوى، يُنصِتُ إليه الصحابةُ مندهشين من هذه الكلمةِ التي تنفي عن صاحبِهم صفةَ الشهادة.
فيكملُ -صلى الله عليه وسلم- الحديثَ مبيناً لهم سبب ذلك فيقول: "كَلّا، إنِّي رَأَيْتُهُ في النَّارِ في بُرْدَةٍ غَلَّها، أوْ عَباءَةٍ"(رواه مسلم).
عباءةٌ أو بُرْدَة أوبَقَتْ دينه، وأهلكت آخرتَه، ولعله حين غلّها سوّلَت له نفسه حجةً؛ "أن هذا مالُ المسلمين، وما آخذُ إلا حقِّي منه"، لكن هذا التأويل لا يعفي من العقوبة.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنِ اسْتَعْمَلْناهُ مِنكُم علَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنا مِخْيَطا فَما فَوْقَهُ؛ كانَ غُلُولًا يَأْتي به يَومَ القِيامَةِ"، إنه مخيط، أي إبرةٌ، وسيأتي بها المرء يوم القيامة، فكيف بما هو أكبر.
الغُلُولُ -يا كرام- كلُّ مالٍ أُخذَ من المالِ العامِ بغير حق، سَواء كان ذلك من صاحبِ الولاية، أو كان مستفيدًا من هذه المرافقِ أو من هذه الأموالِ، لا فرقَ في ذلك بين قليلٍ وكثيرٍ.
والغُلولُ كبيرةٌ من كبائرٍ الذنوب؛ (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)[آل عمران: 161]؛ كل هذا التشديد يا كرام؛ لأن الحق فيه للجميع، والخصماء فيه هم الأمة، فلئن لم تجد مطالباً بالحق في الدنيا فإن الغرماء في الآخرة هم الجميع.
وكم مِن الناسِ مَن يستغلُّ منصبَه، أو يترقبُ الهَفَواتِ ليقتطعَ من المالِ العامِّ بالباطلِ ويستأثرُه على من دونَه من المسلمين، وفي ذلك فسادٌ وأيّ فساد!
حين أرسل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عاملاً له ليجمعَ الزكاة، استغلّ هذا العاملُ منصبَه، فكان الناسُ يعطونه العطايا فيأخذُها، فلما جاء إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال له بحسن نية: "هذا لكم -أي الزكاة- وهذا لي-أي الهدايا".
فلما علم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بذلك صعدَ المنبرَ ليُبيِّنَ للناسِ خطورةَ التصرّفِ في المالِ العام بغيرِ حقِّ، فحمدَ اللهَ وأثنى عليه وقال: "أمَّا بَعْدُ، فإنِّي أسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنكُم علَى العَمَلِ ممَّا ولَّانِي اللَّهُ، فَيَأْتي فيَقولُ: هذا مَالُكُمْ وهذا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، أفلا جَلَسَ في بَيْتِ أبِيهِ وأُمِّهِ حتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، واللَّهِ لا يَأْخُذُ أحَدٌ مِنكُم شيئًا بغيرِ حَقِّهِ إلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَومَ القِيَامَةِ، فَلَأَعْرِفَنَّ أحَدًا مِنكُم لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا له رُغَاءٌ، أوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أوْ شَاةً تَيْعَرُ. ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إبْطهِ، يقولُ: اللَّهُمَّ هلْ بَلَّغْتُ؟!".
فمن ولِيَ ولايةً أو تبوأ منصباً، أو جعل على خزائن من خزائن المسلمين في أيّ دائرة ومجال، فقد حَمَلَ على عاتقيه حِمْلاً كبيراً وأمانةً عظيمةً، وليس له أن يتصرفَ في الأموالِ التي تحت يدِه إلا بالحقِّ الذي أُذِنَ له فيه.
ولقد حذَّرَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من ذلك، فقال منذراً أصحابَه: "إنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ في مَالِ اللَّهِ بغيرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَومَ القِيَامَةِ"؛ قال ابن حجر: "يتخوضون أي: يتصرفون في مال المسلمين بالباطل".
واليوم نشهد مِن بعض أصحاب المناصب ومن عامة الناس تساهلاً في الفساد، وتهاونًا في أكل الحرام، فهذا يستغلّ نفوذه لمنفعته الشخصية، فيُوظّف أحبابه وأقربائه، وهم لا يستحقون الوظيفة، وهذا يصرف على أهله من نفقة الدولة، وهذا يستخدم مرافق العمل من سيارات وأدوات لمصالحه الشخصية، وهذا يُسخِّرُ العاملين تحته لخدمة أهله وأولاده، وهذا يتحايل للحصول على مناقصات الدولة بأيّ طريقة، وغير ذلك مما لا يطلع عليه الناس ولكن الله يعلمه (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)[النساء: 79].
ويدخل في ذلك -يا كرام-: قصدُ تخريبِ المالِ العامِّ، في الشوارعِ والحدائقِ والمنتزهاتِ وغيرِها مما هو حقّ للمسلمين جميعاً يضمنُه مَن يخرِّبُه، ويكون حقاً عليه في رقبتِه، حتى يتحللَ منه بطلبِ العفوِ أو إصلاحِه بمالِه.
ومن المصيبةِ أن يكونَ لكَ خصمٌ يومَ القيامةِ يطالبُك بحقِّه، فكيف إذا كان هذا الخصمُ هم جموعُ المسلمين ممن لهم حقٌ في هذا المال، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لَتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إلى أهْلِها يَومَ القِيامَةِ، حتَّى يُقادَ لِلشّاةِ الجَلْحاءِ، مِنَ الشَّاةِ القَرْناءِ".
ويبقى واجب المسلم في مثل هذه الأمور: الاحتسابُ على المفسدين بأمرِهم بالمعروفِ ونهيِهم عن المنكر، والسعي لرد الفساد بكل طريقة ممكنة، فهذا من النصح للمسلمين.
الخطبة الثانية:
أما بعد: إذا كان ما مضى هو في الإفساد المالي، فإن الإفساد له صور أخرى، والاحتساب عليها قد يكون أهم وأولى، والناس -يا كرام- في مركب واحد، يسير بالجميع، فإن سلم سلموا، وإن غرق غرقوا، هكذا شبَّه نبينا -صلى الله عليه وسلم- المجتمع حين قال: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا"(رواه البخاري).
وإن من أعظم علامات صلاح المجتمع ونجاتِه: التناصح بين أفراده، وإشاعة الأمر بالمعروف، بالحكمة والموعظة الحسنة، ضد كل منكر وفساد أخلاقي. والمرء لا يُكلّفه الله فوق طاقته، لكنه مسؤول عن منكر يقع بين يديه وهو قادرٌ أن ينكره ثم لا ينكره.
ومن رحمة الرحيم أن جعل الإنكار درجات يتناول منها كل أحدٍ ما يناسب مكانته وحاله، فمن عجز عن الإنكار بيده فقد يقدر على ذلك بلسانه، فإن تعذر فلن يعجز إن كان في قلبه إيمان عن الإنكار بالقلب، وكراهة وقوعه وتمني زواله، كل هذا مع مفارقة مكانه، والدعاء بكشفه.
جماع القول -يا كرام-: إن الاحتساب وظيفة الجميع، وأن الجميع مسؤول، ضد كلّ فسادٍ مالي يقف عليه، أو فسادٍ أخلاقي يراه، بالنصح والتغيير، والتوجيه والإصلاح. فإن تعذّر إزالةُ الفساد، وإلا تعاون مع الدولة التي وقفت بكل حزمٍ ضد الفساد، ويصل للجهات ذات الاختصاص، كهيئة مكافحة الفساد، وهيئة الأمر بالمعروف، ليبرئ ذمته، وليكون جندياً يحفظ أمن المجتمع وأخلاقه وأمواله ومصالحه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم