البر والعقوق

د. منصور الصقعوب

2025-08-22 - 1447/02/28 2025-10-05 - 1447/04/13
عناصر الخطبة
1/أعظم الحقوق المفروضة على العباد 2/عِظَم حق الوالدين على الأبناء 3/من صور عقوق الوالدين 4/ثمرة البر والعقوق مُعجّلة 5/من صور بر الوالدين في حياتهما 6/بر الوالدين بعد موتهما.

اقتباس

البر دَيْنٌ سترى أثره في أولادك، وهو قبل ذلك وفاءٌ لمن أحسن إليك، وهو قبل ذلك كلّه قربةٌ وطاعة لله وبوابة أجر... أنت اليوم ابنٌ وغداً أبٌ، فاختر لأولادك معك من خلال ما تقوم به مع أبويك، والبِرُّ لا يُحَدُّ بصورةٍ، ولا يُحاط به بكلمة، وإنما هو كل إحسان من قول أو فعل أو شعور...

الخطبةُ الأولَى:

 

الحمد لله...

 

الحقوق التي على الإنسان كثيرة، وكريمُ الخصال تجده في كل يومه يسعى للقيام بالحقوق وتأدية الواجبات. وأعظم الحقوق المفروضة: حقُّ ربنا علينا، وهو الذي أوجدنا وهدانا، ومن كل ما سألناه أعطانا.

 

ولو أمضى المرء كُلَّ عمره حامداً ساجداً ما أوفاه حقه، وهو وحده المستحق للحمد على كل حال. ولكن ثمة حقٌ يقرنه الله مع حقه، ويأمر به إذا أمر بشكره، حقٌّ تقتضيه جِبِلّة كل الناس، ولكن يُوفّق له كرام الناس، إنه حقُّ مَن أوجداك للدنيا؛ حق الوالدين، وحقهما عليك أكد الحقوق للخلق، وفي التنزيل (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ)[لقمان: 14]، (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[الإسراء: 23].

 

وأي حقٍّ أعظم من حق مَن نصَبَا لأجلك، وقدَّما كل ما يستطيعان لك، وهما بعد ربك سبب وجودك؟!

 

أُمٌّ رؤوم وقلبٌ حنون رعتك منذ صغرك، وعانت منك منذ تخلُّقك، كم سهرتْ لتطمئن أنت! وشقيتْ لتسعد! وتعبتْ لترتاح! وتركتْ ما تشتهي خشية ضرر يعتري!

 

وأبٌ حانٍ، تولاك بعد الله مذْ فتحتَ عيناك على الدنيا، أذهبَ عمره لتأمين عيشك، وأقلق راحته لأجلك، كم ترى من أبٍ مهموم وإذا سألته عن همِّه وجدت أنه لأجل ابنه.

 

قلبُ الوالدين مع ولدهما إن قرب أو بعد، إن سافر أو أقام، إن مرض أو سلم، في صغره وبعد كبره، ينشغل المرء بأموره، وينسى من حوله، ولكن الوالدينِ قلباهما معه، لم يغب ذكره عنهما.

 

يا كرام: الدنيا إنما تطيب برضى الله، ولها -بحمد الله- طريق ميسور هو إرضاء الوالدين، في الحديث؛ "رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ".

 

وإذا ما عُدَّت الطاعات، فإن البِرَّ من أحبها لربنا؛ ففي الصحيح سُئِلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: "الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا"، قيل: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ"، قيل: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ".

 

بر الوالدين مقدمٌ حتى على الجهاد؛ ففي الصحيح أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبيِّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ؛ أَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللَّهِ، قَالَ: "فهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟". قَالَ: نَعَمْ بَلْ كِلاَهُمَا، قَالَ: "فَتَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللَّهِ"، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا".

وقال ابن عباس: "لا أعلم عملاً أقرب إلى الله من بر الوالدة".

 

والأنبياء وهم القدوة، كانوا بوالديهم بررة، يدعون لهم، ولهم يمتثلون، كما قال نوح (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ)، وإبراهيم (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ)، وإسماعيل قال: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ)[الصافات: 102]، ويحيى قال عنه ربنا (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا)[مريم: 14]، وقال عن عيسى: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا)[مريم: 32].

 

وهكذا هم قامات الناس، لن تجد ناجحاً في حياته الدينية أو حتى المالية، إلا وستجد من وراء ذلك براً وإحساناً لوالديه، تبع ذلك دعواتهما له ورضاهما عنه.

 

عباد الله: ومع كل هذه الخيرات والكرامات للبارين، إلا أنك ربما رأيت اليوم تقصيراً كبيراً ونكراناً ظاهراً من كثير من الأبناء في حق الوالدين، وليس بنا اليوم ذكر مآسي وأخبار، ولكن دعني أقول لك بأن ثمة صوراً من العقوق قد يقع فيها البعض وهو لا يشعر.

 

-رفع الصوت على الوالدين، وعدمُ الاستجابة لأوامرهما، وتأخير تلبية مطالبهما قصداً عقوق.

-تقديم هواك ورغبتك ورحلاتك على حق والديه واحتياجهم، وأن يكون صحبتك أولى منهم عقوق.

-انشغالك عنهم، وانعزالك في البيت ولو كنت موجوداً لا تجالسهم، منهمكاً ببرامجك أو لعبك أو حتى دراستك عقوق.

 

-تأدية حوائجهم بترم وانزعاج وتأفف وضجر عقوق.

-التقصير في وصلهم إذا كبروا، وإهمال رعايتهم مع حاجتهم للرعاية والعناية والمساعدة عقوق.

-إحسانك إليهم مع قطيعتك لإخوانك أو أخواتك عقوق؛ لأنه مُحْزِن للوالدين ولو بررتهما.

-التندر بهما وإظهارهما بمظهر البعيد عن الواقع، أو ذمّهما وذكر معايبهما عند الناس، أو تصويرهما على حالٍ لا تُرْضَى للإضحاك أو لغير ذلك عقوق.

 

-تشويه سمعتهما بسوء أفعالك في المجتمع، ولربما ترتب عليه سجن أو شكاوى عقوق وأي عقوق يجلب لهما العار.

-التقتير عند الإنفاق عليهما، والمنّ عليهما حين يعطيهما، وتعداد أياديه وعطاءه لهما بعد ذلك عقوق وأي عقوق، فكم أعطياك بلا حساب ولا منّ.

 

-إيثار الزوجة عليهما في الطاعة، وتقديم رأيها وقبول كلامها حين تذم والديه، والحنق عليهما حين يقصرا معها عقوق، ولربما بنى كثير منه على ما لا يصح أو على حساسية من الزوجة لا على قصد إضرار.

وهكذا في قائمة تطول من صور العقوق.

 

وإن من سنن الله التي رآها الناس، وأكدتها السنة، أن ثمرة البر معجلة في الدنيا ثم في الآخرة، كما العقوق كذلك، يصدِّق ذلك قول الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: "ما من ذنب أجدر أن يُعجّل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم"؛ وأيّ رحمٍ أقرب من الوالدين!

 

 

الخطبة الثانية:

 

معشر الأبناء: يا كُلَّ مَن رُزِقَ أباً أو أُمّاً هما اليوم على قيد الحياة؛ تالله إنك لفي نعمة عظيمة، توشك أن ترحل، ولن يعرف قدر هذه النعمة إلا من جرب الفقد. ومع هذا فالبر لا ينقطع بالوفاة، ولربما كان ثوابه أعظم مِن برّك به حال حياته.

 

أيها الشاب: البر دَيْنٌ سترى أثره في أولادك، وهو قبل ذلك وفاءٌ لمن أحسن إليك، وهو قبل ذلك كلّه قربةٌ وطاعة لله وبوابة أجر.

 

-برّك بأبويك أن تسعى في تلبية حوائجهما، وأن تفرح حين يأمرانك ويخصانك أنت من بين إخوتك بتلبية طلبهما.

 

-برّك بهما أن تتفقد حاجاتهما، وأن توسِّع عليهما عند احتياجهما، وتبادرهما قبل أن يطلبا.

 

-صلاحك في نفسك، واستقامتك لأمر ربك، وبُعدك عن الشرّ، ونأيك عن موارد العصيان من أعظم البر بهما.

 

-برّك بأبويك أن تحرص على الجلوس معهما، وإيناسِهما بحسن حديثك، وإدخال السرور عليهما ببقائك، بقيد أن يكون خلياً من المشتتات من جوالات وبرامج تواصل.

 

-البِرُّ مناهبة وليس مناوبة، هو سباق وليس أدوار.

 

-لا تُكثر من التوجع والتشكي أمامهم، فذاك يُحزنهم، أشْرِكْهم بأفراحك ونجاحاتك وأبعدهم عن همومك.

 

-إيناسهم بالأخبار المفرحة في المجتمع، والبعد عن كل خبر أو حديث يسبب الضيق لهما هو برٌّ عظيم.

 

-احتمال العتاب، والصبر على الحدّة، والاستشارة لهما ولو مع الاستغناء نوع من البر عظيم.

 

ليس من البر أن تكون صندوقاً أسود لا يعلم والداك عنك شيء، وربما علموا عنك من البعيد، أعلمهما بأخبارك وأسفارك وأموالك وأسعدهما بأولادك فهما من يفرح لك.

 

أيها الموفق: والبر بعد وفاة الوالدين يكون بأن تصل أقاربهما، وتُحسن إلى إخوانهما وأخواتهما، وتتفقد أصحابهما، وفي الصحيح "إنّ مِن أبرّ البر صلة الرجل أهل ودّ أبيه بعد أن يُولّي".

 

دعاؤك لهما من أعظم البر، وهو عمل صالح يأتيه في قبره، وفي الصحيح: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: ومنها ولد صالح يدعو له"؛ فكم نصيب والديك حيّهم وميتهم من دعواتك!

 

وبعد: فأنت اليوم ابنٌ وغداً أبٌ، فاختر لأولادك معك من خلال ما تقوم به مع أبويك، والبِرُّ لا يُحَدُّ بصورةٍ، ولا يُحاط به بكلمة، وإنما هو كل إحسان من قول أو فعل أو شعور.

 

تلكم -يا كرام- بعض من حقوق الوالدين، ونحن على يقين أن حقهم أكبرهم، وقدرهم أعظم.

 

فاللهم وفِّقنا للبر بوالدينا أحياء كانوا أو أمواتًا، ويسِّر أبناءنا للبرّ بنا.

 

المرفقات

البر والعقوق.doc

البر والعقوق.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات