الجوارح شهود مستنطقة

الشيخ أ.د عبدالله بن محمد الطيار

2025-05-02 - 1446/11/04 2025-05-07 - 1446/11/09
التصنيفات: الحياة الآخرة
عناصر الخطبة
1/من عدل الله أن لا حساب إلا بعد شهود 2/من أنوع الشهود يوم القيامة 3/من آثار العلم بمراقبة الله -تعالى-

اقتباس

إِنَّ الْجَوَارِحَ الَّتِي يَتَمَتَّعُ بِهَا الإِنْسَانُ، بِهَا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، وَيَمْشِي وَيَقْعُدُ وَيَنْظُرُ وَيَتَكَلَّمُ، وَيَسْمَعُ وَيَبْطِشُ، كُلُّ هَذِهِ الْجَوَارِحُ يَجْعَلُهَا اللهُ -عزَّ وجلَّ- يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُهُودًا مُسْتَنْطَقَهً، تَشْهَدُ بِمَا صَنَعَتْ، وَتَنْطِقُ بِمَا فَعَلَتْ...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالمِينَ جَعَلَ ذِكْرَ الْقِيَامَةِ إِيقَاظًا لِلْغَافِلِينَ، وَاسْتِنْهَاضًا لِهِمَمِ الصَّادِقِينَ، وَزَجْرًا لِلْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ، وَأَمَرَ بِالموْعِظَةِ فَقَالَ: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)[الذاريات: 55]، وَأَشْهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

 

أيُّهَا المؤْمِنُونَ: اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ -عَزَّ وجلَّ-، وَتَمَامُ عَدْلِهِ، أنْ لا يُحَاسِبَ الْخَلائِقَ إلا بَعْدَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِمْ، وَحُضُورِ الشُّهُودِ بَينَ يَدَيْهِمْ؛ حَتَّى تَنْقَطِعَ الْحِجَجُ، وَتُقِرَّ الْجُمُوعُ بِعَدْلِ اللهِ المُطْلَقِ، فَكُلُّ مَا قَدَّمَ الْعَبْدُ مَسْطُورٌ فِي كِتَابٍ؛ (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[الكهف: 49].

 

عِبَادَ اللهِ: والشُّهُودُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عَلَى الْعِبَادِ يَوْم الْقِيَامَةِ كُثُرُ، وَمِنْ هَؤُلاءِ الشُّهُودِ الأَنْبياءُ والرُّسُلُ -عَلَيْهِم الصَّلاةُ والسَّلامُ-؛ قال -تَعَالَى-: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)[النساء: 41]، وَالملائِكَةُ الْكِرَامُ -عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يَشْهَدُونَ على النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ قال -تَعَالَى-: (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ)[ق: 21]، أي: مَلَكًا يَسُوقُهُ لِلْمَحْشَرِ، وَمَلَكًا يَشْهَدُ عَلَيْهِ بِأَعْمَالِهِ.

 

أيُّهَا المؤْمِنُونَ: والأَرْضُ تَشْهَدُ بِمَا كَانَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ -تَعَالَى-: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا)[الزلزلة: 4 - 5]؛ قال -صلى الله عليه وسلم- لأَصْحَابِهِ: "أتَدْرُون ما أخبارُها؟"، قالُوا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ. قال: "فإِنَّ أخبارَها أنْ تَشهدَ على كلِّ عبدٍ وأمَةٍ بِما عَمِلَ على ظَهرِها، تَقولُ: عَمِلَ يومَ كذا، كَذا وكذا، فهذِهِ أخبارُها"(أخرجه الترمذي وصححه).

 

عباد الله: وهذهِ الشَّهَادَةُ شَهَادَةُ فَخْرٍ وَإكِرْامٍ للمُؤْمِنِينَ، وَبَرَاءَةٍ ونَجَاةٍ لِلصَّادِقِينَ، وَشَهَادَةُ تَقْرِيعٍ وتَوْبِيخٍ لِلْكَافِرِينَ، وَفَضْحٍ عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ لِلْمُنَافِقِينَ، وَمَنْ غَرَّهُمْ حِلْمُ اللهِ، فَهَتَكُوا سِتْرَهُ، وَتَجَرَّأُوا عَلَى مَعْصِيَتِهِ، خِفْيَةً وَجَهْرًا.

 

أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَمِنْ عَظِيمِ عَدْلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَتَمَامِ إِنْصَافِهِ، أنْ يُقِيمَ الْعَبْدَ شَهِيدًا عَلَى نَفْسِهِ؛ قال -تَعَالَى-: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)[الإسراء: 14]، وتَكُونُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ مِنْ لَحْظَةِ خُرُوجِ الرُّوحِ، فَقَدْ أَخْبرنَا -سُبْحَانَهُ- عَنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَ خُرُوجِ الرُّوحِ بِقَوْلِهِ: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)[المؤمنون: 99 - 100] وَهَذِهِ شَهَادَةٌ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، بِتَفْرِيطِهِمْ فِي حَقِّ رَبِّهِمْ -جَلَّ جَلالُهُ-؛ قال -تَعَالى-: (وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ)[الأنعام: 130].

 

عِبَادَ الله: إِنَّ الْجَوَارِحَ الَّتِي يَتَمَتَّعُ بِهَا الإِنْسَانُ، بِهَا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، وَيَمْشِي وَيَقْعُدُ وَيَنْظُرُ وَيَتَكَلَّمُ، وَيَسْمَعُ وَيَبْطِشُ، كُلُّ هَذِهِ الْجَوَارِحُ يَجْعَلُهَا اللهُ -عزَّ وجلَّ- يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُهُودًا مُسْتَنْطَقَهً، تَشْهَدُ بِمَا صَنَعَتْ، وَتَنْطِقُ بِمَا فَعَلَتْ؛ قال أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كُنّا عِنْدَ رَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَضَحِكَ، فَقالَ: "هلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟"، قالَ: قُلْنا: اللَّهُ وَرَسولُهُ أَعْلَمُ، قالَ: "مِن مُخاطَبَةِ العَبْدِ رَبَّهُ، يقولُ: يا رَبِّ، أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ قالَ: يقولُ: بَلى، قالَ: فيَقولُ: فإنِّي لا أُجِيزُ على نَفْسِي إلّا شاهِدًا مِنِّي، قالَ: فيَقولُ: كَفى بنَفْسِكَ اليومَ عَلَيْكَ شَهِيدًا، وَبِالْكِرامِ الكاتِبِينَ شُهُودًا، قالَ: فيُخْتَمُ على فِيهِ فيُقالُ لأَرْكانِهِ: انْطِقِي، قالَ: فَتَنْطِقُ بأَعْمالِهِ، قالَ: ثُمَّ يُخَلَّى بيْنَهُ وبيْنَ الكَلامِ قالَ: فيَقولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا؛ فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُناضِلُ"(أخرجه مسلم).

 

عِبَادَ اللهِ: وَإِنَّ أعظمَ الشَّاهِدِينَ يوم الْقِيَامَةِ، اللهُ -جل جلاله-، خَيْرُ الشَّاهِدِينَ، وَأَصْدَقُ الْقَائِلِينَ، الَّذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، وَأَيُّ شَهَادَةٍ أَكْبرُ مِنْ شَهَادَةِ ربِّ العالمين؟! (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)[الأنعام: 19]؛ قال -سُبْحَانَهُ-: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ)[يونس: 61]، وأيُّ عُذْرٍ أوْ حُجَّةٍ تَقُومُ لِلْعَبْدِ بَعْدَ شَهَادَةِ اللهِ -عزَّ وجلَّ-؟!.

 

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجيمِ: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[فصلت: 53],

 

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآَنِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الآَيَاتِ وَالْحِكْمَةِ، أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ، فَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ وَلِيِّ الصَّالِحِينَ، وَالصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى خَاتَمِ الأَنْبِيَاءِ والمُرْسَلِينَ، نَبِيّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

 

أمَّا بَعْدُ فاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَاعْلَمُوا أنَّ مِنْ آَثَارِ الْعِلْمِ بِشَهَادَةِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُرَاقِبَ الْعَبْدُ رَبَّهُ في السِّرِّ وَالْعَلَنِ؛ قال -تَعَالَى-: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ)[البقرة: 235]، وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ يَتَقَلَّبُ لَيْلَ نَهَارَ بَينَ شُهُودٍ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ أَمَامَ اللهِ -عَزَّ وجلَّ-، فَمَاذَا سَتَكُونُ حُجَّته إِذَا أَسْكَتَهُ اللهُ وَأَنْطَقَ جَوَارِحَهُ؟ قَالَ رَبُّنَا: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[يس: 65].

 

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا خَشْيَتَكَ في الْغَيْبِ والشَّهَادَةِ، وَمُرَاقَبَتَكَ فِي السِّرِّ والْعَلانِيَةِ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ، اَللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الْحَرَمَيْنِ الشريفينِ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ. اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

 

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد، وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ

 

المرفقات

الجوارح شهود مستنطقة.doc

الجوارح شهود مستنطقة.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات