عناصر الخطبة
1/من فضائل عشر ذي الحجة 2/بعض أعمال يوم عرفة 3/الحث على فعل الطاعات واجتناب المحرمات في الأيام الفاضلاتاقتباس
من إحسانه -تعالى- أن جعَل موسمَ العشرِ مشترَكًا بين السائرينَ للحجِّ والمعذورينَ، والحجُّ مع فضل الزمان ينال شرف المكان في أحبِّ البقاع إلى الله؛ مكة المكرَّمة؛ أقسَم بها -سُبحانه- وقدَّسها وصانها، وبارك فيها بكثرة الخير فيها ودوامه، وجعلها آمنةً لا قتال فيها...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلَّ له ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحدَه لا شريكَ له وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعد: فاتَّقوا الله -عبادَ اللهِ- حقَّ التَّقوى، ورَاقِبُوه في السِّرِّ والنَّجْوَى.
أيُّها المسلمون: فاضَلَ اللهُ بينَ الليالي والأيام، ومنَّ على عباده بمواسم الطاعات ليزداد المؤمنون رِفعةً في درجاتهم.
ومن الأيام الفاضلة التي أعلى الله شأنها وعظَّم أمرها أيام عشر ذي الحجَّة، أقسم الله بها ولا يُقسم –سُبحانه- إلَّا بعظيم فقال: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[الفجر:1-2]؛ وهي من أيام الله الحُرم، وخاتمة الأشهُر المعلومات؛ نهارها أفضل من نهار العشر الأواخر من رمضان، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "أيام عشر ذي الحجَّة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجَّة؛ العمل الصالح فيها أحبُّ فيها إلى الله منه في غيرها".
قال -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "ما العمل في أيامٍ أفضل منها في هذه" قالوا: ولا الجهاد؟ قال: "ولا الجهاد؛ إلَّا رجلٌ خرج يُخاطر بنفسه وماله فلم يرجِع بشيء"(رواه البُخاري).
اجتمعت فيها أُمهات العبادة من الصلاة والصدقة والصيام والحج والنحر، ومن أعلام أيامها حج بيت الله الحرام أحد أركان الإسلام وأصلٌ من أصوله العِظام، تُمحَى به الذنوب والخطايا؛ قال -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "الحجُّ يهدمُ ما كان قبله"(رواه مسلم).
وهو طُهرةٌ للحاجِّ من أدران السيئات؛ قال -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "مَن حجَّ لله فلم يرفُث ولم يفسُق رجَع كيوم ولدته أُمُّهُ"(متَّفَقٌ عليه).
وفي العشر يوم عرفة ملتقَى المسلمين المشهود، يومٌ كريمٌ على المسلمين "فما من يومٍ أكثر من أن يُعتِق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة"(رواه مسلم).
يومُ دعاءٍ ورجاءٍ وخشوعٍ وذلٍّ وخضوعٍ؛ قال ابن عبد البر -رحمه الله-: "دعاء يوم عرفة مُجابٌ كله في الأغلب".
وفي العشر أحد عيدَي المسلمين (يوم النحر)، أعظم الأيام عند الله وأشدُّها حُرمة؛ قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ- في حجة الوداع في خُطبته يوم النحر: "أَلَا إنَّ أحرم الأيام يومكم هذا"(رواه أحمد).
وهو أفضل أيام المناسك وأظهرها، ومعظم أفعال الحج فيه، وهو يوم الحج الأكبر الذي قال الله فيه: (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ)[التوبة:3].
وفيه أكمَل اللهُ لهذه الأُمة الدِّينَ، وفي نفوس المسلمين حديث، وفي نفوس المسلمين حنينٌ لحج بيت الله الحرام، ومن فضل الله على عباده أنَّه لم يُوجبه إلَّا على المستطيع، ومَن عزم على حجه ولم يستطع ناله ثوابه.
ويُستحبُّ في العشر المبارَكة صيام التسعة الأُولى منها؛ قال النوويّ -رحمه الله-: "مستحبٌّ استحبابًا شديدًا"، و"صيام يوم عرفة يُكفِّر السنة الماضية والباقية"(رواه مسلم)، والأفضل للحاج ألَّا يصومه تأسِّيًا بفعل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ-.
ويُستحبُّ في العشر الإكثار من ذِكر الله؛ قال -جلَّ شأنه-: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ في أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)[الحج:28]؛ قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ-: "فأكثِرُوا فيهنَّ من التهليل والتكبير والتحميد"(رواه أحمد).
والتكبير المُطلَق في كل وقتٍ من شعائر عشر ذي الحجَّة، ويُشرَع التكبير المُقيَّد عقب الصلوات المفروضة من فجر عرفة للحُجاج وغيرهم إلى عصر آخر أيام التشريق.
وتلاوة كتاب الله العظيم أجرها مُضاعَف، والصدقة من أبواب السعادة، وخير ما تكون في وقت الحاجة وشريف الزمن.
وفي أيام النحر والتشريق عبادةٌ ماليَّة بدنيةٌ قرنها الله بالصلاة؛ فقال -سُبحانه-: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)[الكوثر:2].
وقد حثَّ الله على الإخلاص في النحر، وأن يكون القصد وجه الله وحده، لا فخر ولا رياء ولا سُمعة ولا مجرَّد عادة؛ فقال -سُبحانه-: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)[الحج:37]، وقد ضحَّى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ- بكبشَين أملحَين أقرنَين ذبحهما بيده.(متَّفقٌ عليه)، والأملح: الأسود الذي يعلو شعره بياض، والأقرن: ذو القرون.
وأفضل الأضاحي أغلاها ثمنًا، وأنفسها عند أهلها، وتُجزئ شاةٌ واحدةٌ عن الرجل وعن أهل بيته.
ومَن أراد أن يُضحِّي فلا يأخذ من شعره أو أظفاره شيئًا من دخول شهر ذي الحجَّة إلى أن يُضحِّي.
ومَن نوى الأضحية بعد دخول العشر فليُمسك عن الأخذ من شعره وأظفاره من حين نوى.
وبعدُ، أيُّها المسلمون: فمن إحسانه -تعالى- أن جعل موسم العشر مشترَكًا بين السائرين للحج والمعذورين، والحجُّ مع فضل الزمان ينال شرف المكان في أحبِّ البقاع إلى الله؛ مكة المكرَّمة؛ أقسَم بها -سُبحانه- وقدَّسها وصانها، وبارك فيها بكثرة الخير فيها ودوامه، وجعلها آمنةً لا قتال فيها، الطير فيها آمنٌ لا يُنفَّر، والشجر لا يُقطَع.
والمال الذي لا يُعرَف مالكه لا يُؤخَذ إلَّا لمُعرِّفٍ به، نظر إليها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ- ثم قال: "والله إنَّكِ لخير أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله"(رواه أحمد).
والحاجُّ الموفَّقُ مَن عمَرَ وقتَه فيها بالطاعات، وتزوَّد فيها من الصالحات، وتعرَّض فيها لنفحات الرحمات، وشكر فيها ربه على النِّعم المتواليات، ودعا للقائمين على خدمة الحجيج والمعتمرِين؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)[البقرة:172].
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني اللهُ وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفِر اللهَ لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ؛ فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أيُّها المسلمون: العباد في سعيٍ حثيثٍ إلى الله، وليس لهم حطٌّ عن رِحالهم إلَّا في الجنة أو النار، وكل ساعةٍ من العُمر إن لم تُقرِّب المرء من ربه أبعدته؛ فاغتنِمُوا مواسمَ العبادة قبلَ فواتها، وإيَّاكم والمعاصيَ فاللهُ يَغارُ؛ قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ-: "إنَّ الله يَغار، وغَيرة الله أن يأتي المؤمنُ ما حرَّم الله"(متَّفَقٌ عليه)، والمعصية تعظُم في الأشهُر الحُرم؛ قال -سُبحانه-: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التوبة:36].
وما أجمل التائب يتوب في أحبِّ الأيام إلى الله! ومَن أحسَّ بتقصيرٍ في قوله أو عمله أو حاله أو رزقه أو تقلُّب قلبٍ فعليه بالتوحيد والاستغفار ففيهما الشفاء إذا كانا بصدقٍ وإخلاص.
ثم اعلموا أنَّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيِّه فقال في مُحكم التنزيل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56]؛ اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهمَّ عن خُلفائه الراشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون أبي بكرٍ وعُمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنَّا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهمَّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشِّرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدِّين، واجعل اللهمَّ هذا البلد آمنًا مطمئنًّا رخاءً وسائرَ بلاد المسلمين.
اللهمَّ أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهمَّ كُن لهم وليًّا ونصيرًا، ومعينًا وظهيرًا يا قويُّ يا عزيز.
اللهمَّ سلِّم الحُجاج والمعتمرين، وتقبَّل منهم حجَّهم واجعله حجًّا مبرورًا يا ربَّ العالمينَ، وأعِدهم إلى بلادهم سالمِين غانمِين وأنت راضٍ عنهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهمَّ وفِّق إمامنا وولي عهده لما تحبُّ وترضَى، وخُذ بناصيتهما للبِر والتقوى، وانفع اللهمَّ بهما الإسلام والمسلمين.
واجزِ اللهمَّ خير الجزاء مَن خدَمَ الحُجاج والمعتمرين يا ربَّ العالمينَ.
ربَّنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
ربَّنا ظلمنا أنفُسَنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونَّن من الخاسرين.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل:90]؛ فاذكروا الله العظيم الجليل يذكُركم، واشكروه على آلائه ونِعمه يزِدكم، ولَذِكرُ اللهِ أكبرُ واللهُ يعلمُ ما تصنعونَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم