الطلاق وأسبابه

د. منصور الصقعوب

2025-11-14 - 1447/05/23 2025-11-25 - 1447/06/04
عناصر الخطبة
1/رابطة الزواج من أقوى العقود 2/تحديد الإسلام قواعد الحياة الزوجية 3/ارتفاع معدلات الطلاق والشقاق 4/أمور تحفظ الأسرة من المشكلات.

اقتباس

ولم تُترك الأمور بين الزوجين سدى، تتحكم فيها العواطف ويغلب فيها القوي الضعيف، بل حدّد الإسلام الحقوق والواجبات، ووزع الوظائف والمسؤوليات، كلٌّ بحسب طاقته وطبيعته ونفسيته وخلقته التي خلقه الله عليها، كل ذلك بعدل وحكمة إلهية...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله....

 

أما بعد: علاقة الزواج شرعها الإسلام لتبقى، ولتدوم لا لتنقطع، ولينشأ الوفاق لا الشقاق.

 

ومنح الأسرة من الضمانات ما يكفل لها الاستقرار والثبات، وعظّم الإسلامُ عُقدةَ النِّكاح وأطلق عليها "الميثاق الغليظ"، واعتبر رابطة الزواج من أقوى العقود، وعهدَه من آكد العهود.

 

ولم تُترك الأمور بين الزوجين سدى، تتحكم فيها العواطف ويغلب فيها القوي الضعيف، بل حدّد الإسلام الحقوق والواجبات، ووزع الوظائف والمسؤوليات، كلٌّ بحسب طاقته وطبيعته ونفسيته وخلقته التي خلقه الله عليها، كل ذلك بعدل وحكمة إلهية.

 

وقرَّر الإسلام للحياة الزوجية قواعد لو سار عليها الطرفان استقامت الأمور واستقرت، وما من كدر يحدث لهذه الرابطة إلا بسبب الإخلال بمنهج الإسلام فيها.

 

فقرّر ربنا أن الحقوق متبادلة، فلكل منهما حقٌ مكفول؛ حيث قال: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)[البقرة: 228].

 

وجاء التأكيد على الرجال بالإحسان؛ لأنهم الطرف الأقوى، ومَن بيدِه العصمةُ، فقال: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)[النساء: 19].

 

ثم قرّر أن الكمال مُحال، وأن الإنصاف أن يَغضّ الطرف عن النقص الحاصل، ويغمره في بحر المحاسن؛ فقال: (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[النساء: 19].

 

وأكد هذا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "لا يفرك مؤمن مؤمنة...".

 

ومن رام امرأة خليةً عن النقص، كاملةً من كل وَجْه فقد رام محالاً، كيف وقد خُلِقتْ من ضلع أعوج، لكن هذا ليس دعوةً لاستنقاصها بذلك، وإنما لمعرفة الطبيعة. ومن رحمة الله أن جعلها كذلك، فبعضُ العِوَج لا بد منه لتكتمل الأسرة.

 

عباد الله: وبعد كل هذا فقد تعصف بالحياة الزوجية العواصف، وتتكدر الأجواء، ويلوح الطلاق في الأفق، وهنا شرع لنا الدين خطواتٍ لو سُلِكت لتلافينا كثيراً وكثيراً من نهايات الطلاق، ورأبنا الصدع قبل أن يتفاقم.

 

الوعظ والمناصحة بدون تدخلات، وإلا فالهجر بدون علم أحدٍ، إنما في المضجع فقط، وإلا فالتأديب اليسير (فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ)[النساء: 34]

 

وكل هذا بكتمانٍ للخلاف، فلا يعلم أحد، وذاك أدعى للوفاق من جديد.

 

فإن لم يُجدِ كلُ هذا، يأتي دور تدخُّلِ الأطراف الخارجية (فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا)[النساء: 35]؛ يدرسان الأمر وبعقل وتروٍ، ويسعيان للحلِّ إن أمكن، فإن تعذر الوفاق، وصار البقاء لا يُطاق، ولم تنجح كل الخطوات في درء الشقاق، فحينها يكون الطلاق رحمة بهما ورفقاً؛ (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا)[النساء: 129].

 

أرأيتم أعظم من هذه الحروز والسياج للحفاظ على كيان الأسرة؟ فما بال البعض اليوم يركب الحَموقة ويستسهل الفراق عند أدنى خلاف، فيُطلّق، ثم لعله يندم عما قريب، وتبدأ رحلة البحث عن الفتاوى ليستعيد زوجته.

 

أيها الشيخ، غضبت ثم طلقت، تخصامنا ثم طلقت، وأنا الآن نادم فهل من سبيل للرجوع؟!

 

جاء رجل إلى ابن عباس فقال: طلقت امرأتي ثلاثاً، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَوا أَنَّهُ رَادُّهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "يَنْطَلِقُ أَحَدُكُمْ فَيَرْكَبُ ‌الْحَمُوقَةَ ثُمَّ يَقُولُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَإِنَّ اللهَ قَالَ: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًاوَإِنَّكَ لَمْ تَتَّقِ اللهَ فَلَا أَجِدُ لَكَ مَخْرَجًا".

 

واليوم باتت نِسَب الطلاق في ارتفاع، وقضايا الخلع في أروقة المحاكم في ازدياد، حتى صار هذا حديثاً لدى الجميع، ولم يعد الأمر خافياً، زواجاتٌ قد لا تدوم أياماً، وأسرٌ تتفرق بعد عقد وعقدين من السنين، ووراء كل طلاقٍ قصة ولها ضحايا، فما الذي جعل الطلاق يزداد، برغم أن الزوجين قبله كانا في وفاق، وبرغم أن الزوج تكلف مالاً لأجل ذلك؟

 

إنها قضيةٌ لا بد من كل العقلاء أن ينظروا في أسبابها.

والحق أنه ليس ثمة سببٌ واحد، بل هي أمور مجتمعة، ولكن بغض النظر عن كل الأسباب، فإن الذي ينبغي أن يستقر في الأذهان أمور قد تكون حفظاً -بإذن الله- للأسرة:

 

أولها أنه لا ينبغي أن تُكبّر الأمور وتُضخّم، فكم طلاقٍ وقع بسبب أمور تافهة كان الزوج قادراً على غضّ الطرف عنها وتغافلها، لتمر الأسرة بعده بسلام.

 

وثانيها: أن التدخل من خارج الأسرة يفاقم الإشكال، وما دامت المشكلة بين الزوجين فالصلح قريب، فلا ينبغي للآباء والأمهات التدخل إلا حين تنغلق كل الطرق.

 

وثالثها: أن القول الحسن يردم الخلاف ويبقي الود، وهو كلام، وقد ذكر البغوي أَن رجلاً قَالَ فِي عهد عُمَر لامْرَأَته: نشدتك بِاللَّه هَل تحبيني؟ فقَالَت: أما إِذْ نشدتني بِاللَّه، فَلَا، فَخرج حَتَّى أَتَى عُمَر، فَأرْسل إِلَيْهَا، فَقَالَ: أَنْت الّتي تَقُولِينَ لزوجك: لَا أحبك؟ فقَالَت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ نشدني بِاللَّه، أفأكذب؟ قَالَ: نعم، فاكذبيه، لَيْسَ كل ‌الْبيُوت ‌تُبْنَى عَلَى ‌الْحبّ، وَلَكِن النّاس يتعاشرون بِالْإِسْلَامِ والإحسان.

 

ورابعها: أن برامج التواصل اليوم كانت سبباً كبيراً من أسباب الطلاق، حين يحصل التشوف، فيزهدُ كل من الزوجين بالآخر، ولا يقنعُ بما لديه من نعمة، ولو أنا غضضنا البصر، ولم نَمُدّ العين لِما متّع الله به غيرنا، وقنّعنا أنفسنا بما الله رزقنا، لسلمت حياتنا، فإذا أردت أن يبقى لك أهلُك على العهدِ فأغلقا هذا الباب، وتخفّفا من كل مشاهداتٍ ومتابعات تهدم لكن على المدى البعيد.

 

وخامسها: أن الوضع الاقتصادي للزوج وتشوف بعض النساء للصرف فوق طاقة الرجل شرارة لعاصفة تعصف بالأسرة، إن لم تُتدارك فقد يعقبها نشوز ثم طلاق، وما أجمل المرأة تراعي حال زوجها وقدرته، ولا تُكلّفه فوق طاقته، والزوج ليس بمصرفٍ ماليٍ بل ينفق بحسب قدرته، وربنا قال: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا)[الطلاق: 7]؛ فهل تستوعب المرأة هذا، وترفق بالرجل ليسلم بيتها؟ هذا المأمول.

 

اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده...                   

 

أما بعد: فقد ثبت في الصحيح أن الشيطان يرسل كل يوم سراياه يفتنون الناس، "فَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ ‌وَيَلْتَزِمُهُ، وَيَقُولُ: ‌نِعْمَ ‌أَنْتَ".

فكم من أسرة كانت ضحية لأجناد إبليس، وممن يُدخِلُ السرور عليه بافتراقها.

 

عباد الله: وإذا احتيج للطلاق فليكن بتسريحٍ بإحسان، فلا شطط ولا إجحاف في حقها، ولا ظلم ولا هضم لها.

 

وليس من التسريح بالإحسان أن يُنكِّل بها كي تطلب افتداء نفسها بالمال، ولا أن تحصل من بعد الطلاقِ العداوةُ بينه وبين أهلها، ولا أن يَحرِمها من أولادها أو يماطل في نفقتهم.

 

وعليه أن يتحرى الطلاق السني، بأن يطلق وهي في حال طُهرٍ لم يجامع فيه، طلقةً واحدة ولا يُتبِعها بثانية وثالثة، فذاك من بِدع الطلاق، وقد جاء رجل إلى ابن عباس فقال له: ‌طَلَّقْتُ ‌امْرَأَتِي ‌أَلْفًا، فَقَالَ: «تَأْخُذُ ثَلَاثًا، وَتَدَعُ تِسْعَ مِائَةٍ وَسَبْعَةً وَتِسْعِينَ».

 

وإذا حصل الطلاق فقد كفل الشرع للمرأة أن تبقى في بيتها، ليكون ذلك أدعى للمراجعة من أن تخرج لأهلها فتبعد، وقد قال ربنا (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ)[الطلاق: 1].

 

وبعد: فإذا كان الطلاق مخرجاً شرعياً قد يكون حلّاً يُغني الله بعده كلاً من سعته كما قال -سبحانه-، فإنه في أحيانٍ كثيرة ليس هو الحلّ الصحيح، وبالصبرِ والتجاوز، والتكيّف والتقبّل من الزوجين تُحفَظ عقودٌ كثيرة، ولو استشعرت المرأة نصب عينها قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلاقًا فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّة"؛ لما أقدمت على طلب الفراق.

 

وجماع الأمر ودستور الحياة الزوجية قرره لها الله في آيةٍ، جدير بنا أن نتذكرها في كل حين؛ (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[النساء: 19].

 

وصلوا وسلموا...

 

المرفقات

الطلاق وأسبابه.doc

الطلاق وأسبابه.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات