عناصر الخطبة
1/ربط السلف دنياهم بآخرتهم 2/الجبال آية من آيات الخالق 3/مظاهر عظمة الله في خلق الجبال 4/عبودية الجبال لربها 5/الحث على الاتعاظ من حديث القرآن عن الجبالاقتباس
تذكر أن الجبال شاهدة على الهيبة من الجبار والخضوع له والخوف منه، فنظرة من الجبار لجبل جعلته دكا، فخر موسى صعقا، فهل تتفطر قلوبنا خشية لله ورهبة، وهو يرانا ويعلم سرنا ونجوانا؟ إن حديث القرآن عن الجبال حديث عن عبودية هذه المخلوقات لربها...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمدُ للهِ الكبيرِ المتعالِ، ذي الإكرامِ والجلالِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له على التفصيلِ والإجمالِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، جميل الشمائل والخصال صلى اللهُ وسلَّمَ عليه وعلى كافةِ الصَّحبِ والآلِ، وسلم تسليما.
أما بعدُ: فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ- وعظموه، وتفكروا في بديع خلقه وعظيم مخلوقاته.
ابن عمر يرى غروب الشمس فيبكي ويقول: "إنها لتأذن بالرحيل؛ وكذلك أعمارنا توشك أن تغيب، فماذا أعددنا للقاء الله؟!"، الإمام الزهري يمر عليه بجنازة فيبكي، ثم يقول: "تذكرت أني سأُحمل كما حمل، وأُدفن كما دفن، وأسأل كما سئل".
حينما كانت الآخرة أكبر همهم ومبلغ علمهم، كان كل شيء يذكرهم بها ويربطهم بمواقفها، إن شربوا ماء تذكروا أهل النار فبكوا، وتذكروا (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ)[الكهف: 29]، وإن عانوا حرارة الأجواء تأثروا، وتذكروا (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ)[التوبة: 81]، وإن ذاقوا طيبات الدنيا وملذاتها تأثروا؛ شوقا إلى جنات فيها من كل فاكهة زوجان، وإن رأوا شيئا من خلق الله وبديع صنعه، ربطوه بأمور دينهم وجعلوه وسيلة لزيادة إيمانهم؛ (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران: 191].
الجبال حجارة صماء لكنها لم تخلق عبثا، جعلها الله رواسي للأرض أن تميد بكم، وفي خلقها وتكوينها آية على قدرة الخالق وبديع صنعه وعظمته.
فيا عجبا كيف يعصى الإله *** أم كيف يجحده الجاحدُ
وفي كل شيء له آيةٌ *** تدل على أنه الواحدُ
ولله في كل تسكينةٍ *** وتحريكة أبدا شاهدُ
يسألونك عن الجبال، فقل: هي صنع الله الذي أتقن كل شيء، جعلها الله للأرض أوتادا، تحفظ توازنها، وتجعلها مستقرة، يستطيع البشر أن يعيشوا فوقها، وينشطوا نشاطهم، ويبنوا ما يبنونه من منازل ومنشآت، فلولا الجبال لسقطت الثلوج على الأرض مباشرةً، وذابت دفعةً واحدة، ولم يستفد منها الإنسان، بل ستصبح نقمةً بما سوف تخلّفه من سيول عارمة، تُهلِك الحرث والنسل، ولولا الجبال لظلت الأرض تتحرك بالناس، وترتج بهم ذات اليمين وذات اليسار، فسبحان من أحسن كل شيء خلقه!.
يسألونك عن الجبال، فقل: إنها من خلق الله تسبح بحمده وتقدس له؛ (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)[الإسراء: 44]، (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ)[ص: 18]، فيا عجبا من قوم لا يذكرون الله إلا قليلا، ولا يسبحونه بكرة وأصيلاَ.
إذا نظرت إلى الجبال فتذكر أنها حجارة صماء، لكنها غارت لله وعظمت ربها، ونزهته عما لا يليق به؛ (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)[مريم: 90 - 91]، فكانت هذه الغضبة الكونية التي اشتركت فيها السماوات والأرض والجبال تقول لهؤلاء المشركين: (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا)[مريم: 89]، لقد اهتزَّ كل ساكن، وارتجَّ كل مستقر، وغضب كل ما هو داخل هذا الكون غضباً شديداً لبارئه وخالقه؛ لأن هذه الكلمة صدمت كيانه وفطرته، وخالفت ما وقر في ضميره وعقله، وما استقر في كيانه وحسّه، هذا في وقت ترى فيه مسلمين يشاركون من قالوا: اتخذ الله ولدا، في أعيادهم واحتفالاتهم ويهنئونهم على ضلالاتهم، وليس للشركِ في قلبِ ذاك الشقيِّ مهابةٌ ولا تعظيمٌ؛ إذ لربَّما مارسَ الشركَ، أو هوَّنَه، أو شاركَ أهلَه مناسباتِهم فيه ضاحكًا ومصورًا!، فيالله يعظمه الحجر، ولا يقدره حق قدره البشر!.
إذا رأيت الجبال فتذكر أنها الخلق العظيم الذي يشهد على عظمة القرآن وجلالته وقوة تأثيره، تتصدع وتخشع تأثرا بالقرآن، بينما تتلى علينا آيات الرحمن فلا تحدث في قلوبنا أثرا، ولا تورث خشوعا وخضوعا!، إن عباد الله المؤمنين إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا؛ (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)[الحشر: 21]، (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى)[الرعد: 31].
تذكر أن الجبال شاهدة على الهيبة من الجبار والخضوع له والخوف منه، فنظرة من الجبار لجبل جعلته دكا، فخر موسى صعقا، فهل تتفطر قلوبنا خشية لله ورهبة، وهو يرانا ويعلم سرنا ونجوانا؟ إن حديث القرآن عن الجبال حديث عن عبودية هذه المخلوقات لربها وخالقها -سبحانه-، وذلها -على عظمتها وصلابتها- بين يدي موجدها وبارئها، بل إنها لتندك لتجلّي ربها إعظاماً وإجلالاً وذلاً وخوفاً، (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)[الأعراف: 143].
إنها الجبال شاهدة على عظمة الأمانة وثقلها فهي تأبى حملها وتشفق منها، بينما يتحملها الإنسان ولا يرعاها حق رعايتها؛ (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ)[الأحزاب: 72].
إنها الجبال أوى إليها المصطفى متعبدا، ولاذ بها مهاجرا، واحتمى بها مجاهدا، تعبد فيها -صلى الله عليه وسلم- في "حراء"، وأوى إليها في "ثور" واحتمى بها في "أُحد"، وعلى صخوره سالت دماء الصحابة الزكية شاهدة لرجال (صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)[الأحزاب: 23].
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد: ويسألونك عن الجبال، فقل: إنها شاهدة على عظم الطاعة وجزيل الثواب والعطاء، أُحد جبل عظيم يصل وزنه حسب قول المختصين إلى خمسة وأربعين مليار طن، هو الجبل الذي قال عنه المصطفى: "إنه جبل يحبنا ونحبه"، فإذا رأيت الجبل فتذكر: "لا تسبوا اصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه"، وتذكر: "من صلى على جنازة فله قيراط، ومن شهد دفنها فله قيراطان"، والقيراط مثل جبل أحد.
الجبال بعظمتها وصلابتها شاهدة على يوم القيامة وهوله وشدائده؛ (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا)[الواقعة: 5 - 6]، وإنها لتعلم أن لها موعداً ويوماً تنسف فيه نسفاً، وتصير كالعهن من هوله وعظمته، فهي مشفقة من هول ذلك الموعد منتظرة له، وكانت أم الدرداء -رضي الله عنها- إذا سافرت فصعدت على جبل تقول لمن معها: أسمعت الجبال ما وعدها ربها؟ فيقال: ما أسمعها؟ فتقول: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا)[طه: 105 - 107].
فهذا حال الجبال وهي الحجارة الصلبة، وهذه رقتها وخشيتها وتدكدكها من جلال ربها وعظمته، وقد أخبر عنها فاطرها وباريها أنه لو أنزل عليها كلامه لخشعت ولتصدعت من خشية الله، فيا عجباً من مضغة لحم أقسى من هذه الجبال، تسمع آيات الله تتلى عليها، ويُذكر الرب -تبارك وتعالى- فلا تلين ولا تخشع ولا تُنيب، فليس بعزيز على الله -عز وجل- ولا يخالف حكمته أن يخلق لها ناراً تذيبها؛ إذ لم تلِن بكلامه وذكره وزواجره ومواعظه، فمن لم يلن لله في هذه الدار قلبه، ولم يُنب إليه، ولم يُذبه بحبه والبكاء من خشيته؛ فليتمتع قليلاً فإن أمامه الملينَ الأعظم، وسيُرد إلى عالم الغيب والشهادة فيرى ويعلم.
(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا)[الكهف: 47]، إنه مشهد تشترك فيه الآيات الكونية، ويرتسم الهول فيه على صفحاتها وعلى صفحات القلوب، إنه مشهد تتحرك فيه الجبال الراسخة فتسير، فكيف بالقلوب؟! وتتبدى فيه الأرض عارية، وتبرز فيه صفحتها مكشوفة لا نجاد فيها ولا وهاد، ولا جبال فيها ولا وديان، وكذلك تتكشف خبايا القلوب فلا تخفى منها خافية؛ (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)[الحاقة: 18].
فالجبال الراسية قد نسفت نسفاً، وتحطمت بعد أن كانت حصوناً، وتساوت بالأرض بعد أن كانت تطاول السماء، وبعضها يبث كما يبث الدقيق، فيكون ذرات صغيرة متطايرة؛ (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا)[الواقعة: 5 - 6].
إنَّ شأنَ خشيةِ الجبالِ الشُّمِّ لَعَجَبٌ، وأعجبُ من هذا أنْ تكونَ قلوبُ الآدميين ذاتُ المُضَغِ اللَّحميةِ أشدَّ قسوةً من تلك الجبالِ الصِّلابِ؛ (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)[البقرة: 74]، فلم ترجوا للجبارِ وقارًا كما رَجَتْهُ الجبالُ، فالجبالُ أشفقنْ من حملِ تلك الأماناتِ كما السمواتِ والأرضِ، والجبالُ من شدةِ أمرِه تكادُ تَخرُّ هَدَّا. وابن آدم ليس لواعظِ القرآنِ على قلبِه أثرٌ حين يتلوه أو يُتلى عليه، أو يُدعى إليه أو يُذكَّرُ به.
فاللهمَّ عِياذًا بك من رانٍ تكونُ به القلوبُ أقسى من الحجارةِ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم