أيُّ الوعدينِ أحقُّ بالتصديقِ؟! ( عن الخوف من المستقبل)
د. سلطان بن حباب الجعيد
أيُّ الوَعْدَيْنِ أحقُّ بالتصديق؟!
الْـحَمْدُ للهِ، نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ، ونَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ باللهِ مِن شُرورِ أَنْفُسِنَا، ومِن سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَن يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عبدُه ورسولُه.
﴿يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُم مِن نَفسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنها زَوجَها وَبَثَّ مِنهُما رِجالًا كَثيرًا وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذي تَساءَلونَ بِهِ وَالأَرحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيكُم رَقيبًا﴾ [النساء: ١]
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢].
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.
أَمَّا بَعْدُ، أيُّها الناسُ:
من الأمراضِ الخطيرةِ التي تُهدِّدُ سعادةَ الإنسانِ وطمأنينتَه، ويُعاني بسببها القلقَ والحزنَ، ويذهلُ عن الاستمتاعِ بما حباه اللهُ من النِّعَمِ التي بين يديه؛ مرضُ الخوفِ من المستقبل.
وهو من أهمِّ وسائلِ الشيطان، التي يصل بها إلى مُرادٍ من أجلِّ مُراداته، وهو تحزينُ الإنسانِ وتخويفُه.
فلا يزال الشيطانُ يقذفُ في قلبِ العبدِ الخوفَ من كلِّ ما يستقبله، فيعدُهُ الفقرَ، والمرضَ، والفشلَ، والفقدَ.
قال الله تعالى عن عملِ الشيطان هذا: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ، وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَغْفِرَةً مِنهُ وَفَضْلًا، وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٦٨].
فإذا أصغى العبدُ إلى وعدِ الشيطان هذا، وسيطرَ على قلبه، تحوَّلت حياتُه إلى جحيمٍ لا يُطاق، لا يتمكَّن معه من شكرِ اللهِ على ما بين يديه من النِّعَم، فهو مشغولٌ عن الشكرِ بالخوفِ من ذهابِها، ولا يتمكَّنُ أيضًا من الاستمتاعِ بها؛ فالخوفُ أذهبَ طعمَها وحلاوتَها.
وكذلك يذهب هذا الخوفُ بالاستقرارِ والراحة، فلا يزال العبدُ يتكبَّدُ المصاعبَ، ويكدُّ ويعملُ، ولا يكفُّ عن الجمعِ، ليضيفَ إلى أمواله أموالًا، وإلى إنجازاته إنجازاتٍ، لعلَّه يأمنُ ويُؤمِّنُ هذا المستقبلَ الذي صوَّره الشيطانُ أنَّه غولٌ سيلتهمُ كلَّ شيءٍ ويتركُه بلا شيء.
وما أَشْقَى أن تتحوَّل حياةُ العبدِ إلى حياةِ هاربٍ، يفرُّ من شيءٍ يُخيفُه ويُطارده!
ولا سبيلَ إلى العلاجِ من هذا كلِّه، إلا أن نُحييَ معاني الإيمانِ في قلوبنا؛ من التوكُّلِ على الله، وحُسنِ الظنِّ به، فمن غمرَ التوكُّلُ قلبَه عادت إليه طمأنينتُه وسعادتُه.
فالمتوكلُ على الله، على يقينٍ بأنَّ فضلَ الله عليه فيما يستقبلُ من عمرِه أعظمُ من فضلِه عليه فيما يستدبرُ منه.
والمتوكلُ على الله مرتاحُ البال، هادئُ النفس، مطمئنُّ القلب؛ لأنَّه فوَّض أمرَه لمن بيده الأمرُ كلُّه.
والمتوكلُ على الله، بتوكُّلِه، متمسِّكٌ بسببٍ من الأسبابِ التي يصرفُ اللهُ بها عن العبدِ كثيرًا من الشرورِ التي تستقبلُه، كما صرفَ عن إبراهيمَ عليه السلام بحسنِ توكُّلِه كيدَ قومِه، فجعل النارَ عليه بردًا وسلامًا.
وكما صرفَ عن نبيِّنا عليه الصلاة والسلام وأصحابِه رضي الله عنهم كيدَ قريشٍ بعد أُحدٍ، عندما أخبرَهم الناسُ أنَّها جمعت لهم الجموعَ لاستئصالهم، ففوَّضوا أمرَهم إلى ربِّهم وتوكَّلوا عليه، ففَلَّ اللهُ عزيمةَ قريشٍ وردَّهم، وعصم قلوبَهم من أن يدخلَها تخويفُ الشيطانِ من أوليائه المشركين، قال تعالى عن ذلك كلِّه:
﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ، وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ، فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٧٣-١٧٥].
بخلافِ من ترك التوكُّلَ، فقد وُكِل إلى نفسِه، وفرَّطَ في هذا السببِ العظيم، فربما أصابَه ما كان يخشى ويحاذر.
وكما أنَّ التوكُّلَ يدفعُ الشرورَ عن العبد، فهو كذلك من أسبابِ حصولِ الخيرات، وتحقُّق الأمنيات، وحلول البركات، قال تعالى:
﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق: ٢-٣].
وقال صلى الله عليه وسلم: «لو أنَّكم تتوكَّلونَ على الله حقَّ توكُّلِه، لرزقكم كما يرزقُ الطيرَ: تغدو خِماصًا وتروحُ بطانًا» [أحمد والترمذي].
والمتوكلُ على الله يعلمُ أنَّ كلَّ ما يُصيبُه من تقديرِ الله، فإن كان خيرًا حمدَ الله، وإن كان غيرَ ذلك صبر، ولذلك كلُّ الأحوالِ التي يستقبلُها خيرٌ، فلا يوجد إذًا ما يدعو للقلقِ والخوف.
قال صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ! إنَّ أمرَه كلَّه له خيرٌ، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابتْه سرَّاءُ شكرَ فكان خيرًا له، وإن أصابتْه ضرَّاءُ صبرَ فكان خيرًا له» [مسلم].
أرأيتم – يا رعاكم الله – بُعدَ ما بين الوعدينِ: وعدِ الشيطانِ الذي يُضيِّقُ صدرَ العبدِ ويحزنُه، ويُزلزلُ عليه مأمنَه، ويُنكِّدُ عليه عيشَته، فيكونُ العبدُ بسببه في قلقٍ وخوفٍ وحزنٍ لا يتوقَّف وترقُّبٍ لكلِّ ما هو سيِّئٌ وقبيح.
وبين وعدِ الرحمنِ الذي يطمئنُّ به القلبُ، وتسكنُ إليه النفسُ، ويغمرُها التفاؤلُ والرِّضا، فيكونُ العبدُ بسببه في سعادةٍ دائمةٍ، وترقُّبٍ لكلِّ ما هو حسنٌ وجميل.
أَيُعقَلُ بعد كلِّ هذا أن يُصغيَ العبدُ للشيطانِ ووعودِه الكاذبةِ، مُعرِّضًا سعادتَه واستقرارَه النفسيَّ للاضطرابِ والمخاوف، ويُعرِضَ عن وعدِ الرحمنِ الذي فيه سعادتُه وطمأنينتُه؟
فإذا نازعتكَ نفسُكَ، وانجذبتْ لطبيعتِها المتفاعلةِ مع المخاوف، وغلبتكَ الوساوسُ، فقلْ لها: يا نفسُ، أيُّ الوعدينِ أحقُّ بالتصديق؟ وعدُ الرحمنِ الذي يعلمُ ما يكونُ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وبيده مقاليدُ الأمور، أم وعدُ الشيطانِ الذي يجهلُ ما يكونُ، ولا يملكُ لنفسِه ولا لغيرِه نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نُشورًا؟!
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفورُ الرحيم.
وبعدُ، أيها الإخوةُ الكرامُ:
وليس وعدُ الشيطانِ هذا مجرَّدَ وسوسةٍ عابرةٍ للإنسان، بل هو نَفَسٌ يبثُّه في كلِّ مكان. يأتيك عبرَ الناسِ وأحاديثِهم المتوقِّعةِ لكلِّ سوءٍ، وعبرَ نشراتٍ وتحليلاتِ السياسةِ والاقتصادِ التي تَعِدُ بالثبورِ وعِظامِ الأمور. فلديهم كلُّ شيءٍ على وشكِ الحدوث؛ فالمواردُ إلى انقطاعٍ، والأسعارُ في ارتفاعٍ، والاقتصادُ يَهوي إلى القاع، والحربُ توشكُ أن تضربَ الأصقاع.
ولا يكتفي الشيطانُ من وكلائِه هؤلاء بنشرِ وعودِه الكاذبة، بل يسعى لأن يُحوِّل وعودَه إلى واقعٍ على أيديهم، فيُغريهم بجرِّ البشريَّةِ إلى الحروبِ والنزاعاتِ والفساد، وكلِّ ما من شأنِه أن يُفسِدَ على الناسِ حياتَهم. ولكنَّ الرحيمَ بعبادِه لهم بالمرصاد، يُحوطُهم برحمتِه وفضلِه، قال تعالى:
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا، بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ، وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا، وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ، وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [المائدة: ٦٤].
فحذارِ أن تقعَ في حبائلِ الشيطان، وأن يلِجَ إلى قلبِك وعدُه، وكُنْ مؤمنًا باللهِ متوكِّلًا عليه، حَسَنَ الظنِّ به.
وثِقْ أنَّ من حباكَ بنعَمِه فيما مضى من عمرِك لن يَتِركَ من فضلِه فيما تستقبلُ من حياتِك، وأنَّ من رعاكَ في ضعفِك الأوَّل وأنتَ صغيرٌ لن يَتِركَ من عونِه في ضعفِك الثاني وأنتَ شيخٌ كبير، وأنَّ من وعدَ بالفضلِ لا يُخلِفُ وعدَه، فهو حاصلٌ لك لا محالة.
فَعِشْ مطمئنًّا، هانئًا، سعيدًا، مستمتعًا بما أنعمَ اللهُ عليك، غيرَ مُكْتَرِثٍ بما يكونُ غدًا، فإنَّه في تقديرِ العزيزِ الرحيم.
واعلمْ أنَّ التفكيرَ السلبيَّ وتوقُّعَ الأسوأ كما أنَّه مصدرٌ للقلقِ والحزن، فكذلك هو غيرُ مُجدٍ؛ فإنْ كان اللهُ قد كتبَ لك الخيرَ، فقد حكمتَ على نفسِك بمثلِ هذا التفكيرِ بحزنٍ لم يكتبه اللهُ عليك، وإنْ كان قدَّر عليك السوءَ، فلا داعيَ أن تعيشَه مرتين: مرةً بترقُّبِه وانتظارِه، ومرةً بوقوعِه وحصولِه، فدَعْه سوءًا واحدًا حالَ نزولِه، الذي إذا نزلَ نزل معه لطفُ اللهِ وعونُه كما هو معروف.
اللهمَّ أنزلْ على قلوبِنا السكينةَ والطمأنينةَ، وأعِذْنا يا سميعُ يا عليمُ من شرِّ الشيطانِ وشَرَكِه ووسوستِه ورِجزِه، واجعلْنا من عبادِكَ المتوكِّلين الذين ليس للشيطانِ عليهم سبيلٌ
المرفقات
1760616908_أي الوعدين أحق بالتصديق؟! ( وورد).docx
1760616909_أي الوعدين أحق بالتصديق؟! ( PDF).pdf