إن لم تكن في قوافل الحجيج فكن في ركب العابدين
عبدالرحمن اللهيبي
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وبفضله وكرمه تزداد الحسنات وتغفر الزلات ، أحمده سبحانه على ما أولى وهدى ، وأشكره على ما وهب وأعطى لا إله إلا هو العلي الأعلى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المصطفى ذو الخلُق الأسمىِ ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولي النهى والتقى والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين
أَمَّا بَعدُ ، فَـ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ "
أيها المسلمون: ما أعظمَها من أيامٍ وضيئة نحن فيها ، وما أجلَّها من مواسم مباركة لا زلنا نقتفيها ، ها نحن في أفضل أيام الدنيا على الإطلاق ، وها هي تمضي سريعا وتوشك أن ترحل قريبا ، فكن في قوافل المجتهدين العابدين ، ولا تكن في ركب المتخلفين القاعدين ، لا تكن ممن كره الله طاعتهم فقال فيهم (وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) ووالله إنها لأيام معدودةٍ قصيرة.. سَتَذهَبُ سريعا وَستَنقَضِي قريبا ، ستمضي بما أُودِعَ فِيهَا من عمل إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر، وَلا وَاللهِ لا يَكُونَ مَن أَقبَلَ فِيهَا كَمَن أَدبَرَ ، فالله حكم عدل لا يسوي بين مَن حَفِظَ الفَرَائِضَ وَحَافَظَ عَلَيهَا كَمَن ضيعها أَو قَصَّرَ ، وَلا مَن تَصَدَّقَ وَأَعطَى ، كَمَن بَخِلَ وَاستَغنى ، وَلا مَن ذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا كَمَن لم يَذكُرْهُ إِلاَّ قَلِيلاً .. لا وَاللهِ لا يَستَوُونَ
فيا عَبدَ اللهِ ، مَا الَّذِي يَصرِفُكَ عَنِ اغتِنَامِ هذه الأيام القليلة المباركات؟ أما علمت فضلها وبركتها وعظيم أجرِها؟
أما علمت أن العمل فيها خير من الجهاد في سبيل الله؟
أما علمت أنك في هذه الأيام تتاجر مَعَ رَبٍّ غني جَوَادٍ كَرِيمٍ ، فكيف تعرض عنه وهو الغني عنك وأنت الفقير إليه ؟
بالله كيف تطيب نفسك بالتفريط والتقصير..
والله بعظمته وجلاله يدعوك لأن تتقرب فيها إليه ؟
أما علمت فضل الله عليك وهو الذي خلقك وسواك ، وأطعمك وسقاك ، ورزقك وقواك ، ومن كثير من الأمراض عافاك.. ثم ها هو الرب بجلاله يدعوك إلى ذكره من التكبير والتحميد والتهليل في هذه الأيام ثم لا تفعل
ها هو ربنا الكريم ، يتودد إلينا بالنعم فهل نقابله بالإعراض والصدود ، والغفلة والجحود
(يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد)
فاجعَلْ يا عبد الله مِن هَذِهِ الأيام المتبقيةِ مَطِيَّتَكَ إِلى الجِنَانِ ، واحذر أن تحتقر فيها عملا صالحا مهما قلّ ، فإنه ما عملٌ أزكى إلى الله وأحبَ إليه من عمل يُعمل في هذه العشر ، وإياك يا عبد الله أن تستصغر فيها ذنبا مهما صغر ، فرب ذنبٍ أورث عن العبادة حرمانا ، وعن طاعة الله كان حجابا ... فالذنوب يا عباد الله من أعظم أسباب الصدود
فادلِفوا يا مسلمون في هذه الأيام المباركة إلى باب التوبة والإنابة أولا ، وأقلِعوا فيها عن المعصية والخطيئة، وتخلَّصوا من حقوق الناس، ورُدُّوا الحقوقَ إلى أصحابها، واسللوا من قلوبكم السخيمة والبغضاء ، ومسببات القطيعة والشحناء، يا عبدالله أما يحزنك أن تمضي العشر وأنت ترى فيها قوافل الحجيج والملبين ، وترى فيها إقبال الطائعين والعابدين، وأنت يا عبد الله من المحرومين ، فلا أنت من الحجيج الملبين ولا من أنت العابدين ، ألا تغار يا عبد الله أن يسبقك الحجاج والعباد إلى الله .. فيخرجون من هذه العشر وقد غفرت ذنوبهم ، وحطت أوزارهم ، وأنت قد حُلْت بينك وبين رحمة ربك بالإصرار على الذنوب والأوزار..
تالله ما نصحتَ نفسك، إن أوبقت نفسك بالمعاصي والآثام وأعرضت فيها عن الكريم المنان .. والله يقول: "مَن يَعمَلْ سُوَءًا يُجزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا . وَمَن يَعمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ وَلا يُظلَمُونَ نَقِيرًا"
أَلا فَاتَّقِ اللهَ – يا عبد الله ، وحُلَّ وثاقك، وانهض واثبا إلى ربك ، فلعله ينظر إليك وأنت تتقرب إليه بألوان الطاعات .. فيغفر لك ويجتبيك ، ويعفو عنك ويصطفيك
واحذر أن يكون حَظُّك من هذه الأيام مُجَرَّدَ السَّمَاعِ بِفَضَائِلِهَا في خُطبَةٍ أَو مَوعِظَةٍ ، أَو فِيمَا يُرسَلُ إِلَيك مِن رَسَائِلَ ، ثم تكتَفِي بِإِرسَالِهَا إِلى غَيرِك فَحَسبُ
بل كن من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ..
أقول قولي هذا...
عباد الله سيقبل عليكم بعد أيام قليلة يومُ عرفة وما أدراك ما يوم عرفة ، ذَلِكَ الْيَوْمُ الْعَظِيْمُ الَّذِيْ أَكْمَلَ اللهُ فِيْهِ الْدِّيْنَ، فقال تَعَاْلَى:(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا).
يَوْمُ عَرَفَةَ ، يوم عظيم تُغْفَرُ فِيْهِ الزَّلَاْتُ، وَتُكَفَّرُ فِيْهِ الْسَّيِّئَاتُ، وَيُعْتِقُ اللهُ مَنْ شَاْءَ مِنْ عِبَاْدِهِ مِنَ الْنَّارِ، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟ " رَوَاهُ مُسْلِمُ .
واعلموا يا مسلمون أن عتق الرقاب وإجابة الدعاء وغفران الذنوب والأوزار ليس خاص بالحجيج بل هو عام للواقفين بعرفة ولغيرهم من أهل الأمصار في كل مكان ، وإنه ليُشَرَّعُ صِيَاْمُه لغير الحاج ، فَفِيْ صيام يَوْمِ عَرَفَة الْأَجْرُ الْعَظِيْمُ، والثواب الجزيل قَاْلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ
عباد الله : خيرُ الدعاء دعاءُ يوم عرفة؛ فأظهِروا في ذلك اليوم العظيم التوبةَ والاستغفار، والتذلُّلَ والانكِسار، والندامةَ والافتقار، والحاجةَ والاضطرار ، ولو أمضيتم عصر يوم عرفة حتى غروب الشمس في الذكر والدعاء لم يكن هذا كثيرا لمن أراد أن يتعرض لنفحاته ..
فإن في ذلك اليوم من الفضائل والرحمات والخيرات ما تستحق لأجلها أن تبذل الأوقات.
أيها المسلمون: وفي ختام هذه العشر المباركة يأتي يوم النحر وهو أعظم الأيام عند الله ، وإن من شعائر ديننا فيه صلاة عيد الأضحى، وإننا سوف نؤديها في هذا الجامع بإذن الله فاحرصوا على أدائها وحاذروا تفويتها ومروا أولادكم وأهليكم بها ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الناس بالخروج إليها ..
عباد الله: وإن من أعظم الأعمال التي تشرع في يوم النحر هو إهراق الدم لله بذبح الأضاحي فهي شعيرة من أعظم شعائر الدين قال تعالى ( فصل ربك وانحر) وقال تعالى ( والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير )
وعبادة النحر وإهراق الدم لله هي من أجل العبادات وأعظم القربات ، فمن وجد سعة فلا يتركها، فطيبوا بها نفسا وتخيروا أنفسها وأخلصوا النية لله فيها ، فالله سبحانه يقول: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ)