اجعلْ هدفكَ الآخرة
د. سلطان بن حباب الجعيد
اجعلْ هدفَك الآخرةَ
الحمدُ للهِ الذي مَنَّ على عبادِهِ المؤمنينَ بأن جعلَ الآخرةَ همَّهم، فأزالَ بذلك غمَّهم، وأصلحَ بالَهم وأعمالَهم، وأحسنَ في الآخرةِ مستقرَّهم ومثواهم.
والصلاةُ والسلامُ على مَن تبوَّأَ في المكانةِ والمنزلةِ أعلى القِمَم، وجعلَ اللهُ أمَّتَه خيرَ الأُمَم، الذي شحذَ إلى الآخرةِ العزائمَ والهِمَم، صلاةً وسلامًا نرجو بها النجاةَ من سعيرِ الحُمَم.
أيُّها الناسُ، مَن عَلِمَ أنَّ المصيرَ إلى اللهِ، فحَريٌّ به أن يتَّقيَ اللهَ، قال تعالى:
﴿وَاتَّقوا يَومًا تُرجَعونَ فيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفسٍ ما كَسَبَت وَهُم لا يُظلَمونَ﴾ [البقرة: ٢٨١].
وبعدُ: أيُّها الإخوةُ الكرامُ، إنَّ الإيمانَ باليومِ الآخرِ له ثمراتٌ كثيرةٌ، وهي جديرةٌ بالحديثِ مرَّةً بعدَ أُخرى، وأن نتناوَلَها من حينٍ إلى آخرَ؛ فليس أنفعَ للنفوسِ وصلاحِها من تذكُّرِ الآخرةِ، وبالأخصِّ في هذا الزمانِ الذي طغتْ فيه المادِّيّاتُ، وضربتِ الغفلةُ فيه بجرانِها.
قال تعالى:
﴿اقتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُم وَهُم في غَفلَةٍ مُعرِضونَ ما يَأتيهِم مِن ذِكرٍ مِن رَبِّهِم مُحدَثٍ إِلَّا استَمَعوهُ وَهُم يَلعَبونَ لاهِيَةً قُلوبُهُم﴾ [الأنبياء: ١-٣].
ومن ثمراتِ الإيمانِ بالآخرةِ: إذا جعلَها المؤمنُ هدفًا وسعى لها، أن يَحظى بالسعادةِ والطُّمأنينةِ في حياتِه.
وهذا أمرٌ معلومٌ طرَقَ أسماعَنا كثيرًا، من الوعَّاظِ والخُطباءِ والمربِّين، وكلِّ ناصحٍ أمينٍ.
وهو كلامُ صدقٍ؛ لأنَّه مأخوذٌ من منبعِ الحكمةِ ومعدِنِها رسولِ اللهِ ﷺ، الذي قال:
«مَن كانتِ الآخرةُ هَمَّهُ جعلَ اللَّهُ غِناهُ في قلبِهِ، وجمعَ له شملَه، وأتَتْهُ الدُّنيا وَهيَ راغمةٌ، ومَن كانتِ الدُّنيا همَّهُ جعلَ اللَّهُ فقرَهُ بينَ عينيهِ، وفرَّقَ عليهِ شملَهُ، ولم يأتِهِ منَ الدُّنيا إلَّا ما قُدِّرَ له». [الترمذي].
وما أودُّ فعلَه في هذا المقامِ، أن أُحاولَ الكشفَ عن وجهٍ من وجوهِ السعادةِ، في هذه الحكمةِ النبويَّةِ المكتنزةِ بكثيرٍ من معاني السعادةِ.
وهي أنَّنا نُلاحِظُ أنَّ الإنسانَ قبلَ الوصولِ لهدفِه، يحتفظُ بحيويَّتِه ونشاطِه، ويشعرُ بقيمةِ وقتِه، وكذلك قيمةِ نفسِه، وما أن يُحقِّقَ هدفَه حتّى يُسرِعَ إليه الذُّبولُ، ويفقدَ الوقتُ قيمتَه، ويشعرَ بأنَّ وجودَه في الحياةِ ليس له كبيرُ فائدةٍ.
وهذا ما يُفسِّرُ لنا المشاعرَ السلبيَّةَ التي تطرأُ على الناسِ عندَ تقدُّمِ أعمارِهم وتقاعدِهم من أعمالِهم؛ لأنَّ كثيرًا من أهدافِهم في الحياةِ ومآربِهم منها في هذه المرحلةِ العمريَّةِ قد تحقَّق وأُنجِز، فيتملَّكُهم شعورٌ بأنَّ حياتَهم الحقيقيَّةَ انتهتْ، وأنَّهم يعيشون في الوقتِ الضائعِ وعلى هامشِ الحياةِ.
فإذا كان ذلك كذلك؛ فإنَّ مَن جعلَ الآخرةَ ودخولَ الجنَّةِ وكسبَ رضَا اللهِ هدفَه ومبتغاهُ، كانت حياتُه بأكملِها مرحلةَ ما قبلَ تحقيقِ الهدفِ، فلا يُدرِكُه ما يُدرِكُ الناسَ في آخرِ أعمارِهم من الذبولِ والقنوطِ، فيُحافظُ على حيويَّتِه ونشاطِه حتّى آخرِ لحظةٍ من لحظاتِ عمرِه، ويشعرُ بأنَّ كلَّ وقتِه وحياتِه لها قيمتُها ووزنُها؛ لأنَّه لم يُحقِّقْ هدفَه بعدُ.
يُحدِّثُنا عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ رضي اللهُ عنه عن أهدافِه وتدرُّجِه فيها، فيقولُ:
«تاقتْ نفسي للعلمِ فأصبتُه، ثم تاقتْ للإمارةِ فأصبتُها، ثم تاقتْ للخلافةِ فأصبتُها، ثم تاقتْ للجنَّةِ».
كأنَّه رضي اللهُ عنه أدركَ بالتجربةِ أنَّ الهدفَ ووجودَه هو الذي يضمَنُ القوَّةَ والحيويَّةَ والنشاطَ، ويُضفي على الحياةِ قيمتَها، فأرادَ – بعد أن حقَّق أعظمَ هدفٍ دنيويٍّ تتوقُ له النفوسُ وهو المُلْكُ – أن يُحافظَ على نشاطِه ودَأْبِه وشعورِه بقيمةِ الوقتِ بقيَّةَ عمرِه، فجعلَ الجنَّةَ هدفَه، ولعلَّه – إن شاءَ اللهُ – أصابَها.
وهذا ما يُساعِدُنا في زيادةِ فَهْمِ النصوصِ التي تحثُّ على العبادةِ والعملِ إلى آخرِ يومٍ في الحياةِ؛ فليست هي فقط للترغيبِ في الآخرةِ، بل أيضًا للحفاظِ على كلِّ وقتِك أن يكونَ له قيمةٌ. ومن شَعَرَ بقيمةِ وقتِه، شَعَرَ بقيمةِ نفسِه، وهو ما سينعكِسُ عليها بالرِّضا والاستقرارِ.
من مثلِ قولِه تعالى: ﴿وَاعبُد رَبَّكَ حَتّى يَأتِيَكَ اليَقينُ﴾ [الحجر: ٩٩].
وقولِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ: «إن قامتِ السَّاعةُ وفي يدِ أحدِكم فَسِيلَةٌ، فإنِ استطاعَ أن لا تقومَ حتّى يغرِسَها، فليغرِسْها». [أحمد].
أيُّها الأخُ الكريمُ، يا مَن تشتكي الفراغَ والمَلَلَ، وبالأخصِّ مَن تقدَّمتْ أعمارُهم وتقاعدوا من أعمالِهم، اجعلْ هدفَك الآخرةَ، فإنْ فعلتَ، ستكتشفُ أنَّه هدفٌ قد ملأ عليكَ حياتَك، وأعادَ إليكَ نشاطَك ودَأْبَك، وأنَّه لم يَعُدْ هناكَ وقتٌ لتضييعه وتبديدِه، فكلُّ الوقتِ ثمينٌ، وكلُّ لحظةٍ منه ممكنٌ أن تصنعَ فيها شيئًا يعودُ عليكَ بالأجرِ العظيمِ والسعادةِ الأبديَّةِ.
وإذا جعلتَ الآخرةَ هدفَك، فهناك أعمالٌ كثيرةٌ تنتظرُك، كأن تُعمِرَ وقتَك بالقرآنِ حفظًا وتلاوةً، أو بذِكرِ اللهِ، أو بالصلاةِ والصيامِ، أو بعملِ الخيرِ ومساعدةِ المحتاجينَ، أو بطلبِ العلمِ النافعِ، وغيرِ ذلك.
فتخرجَ بمثلِ هذا الهدفِ وهذه الأعمالِ من زمرةِ الغافلينَ أصحابِ النظرِ القصيرِ والمَلَلِ الكثيرِ، لتنضمَّ إلى زمرةِ المتيقِّظينَ أصحابِ النظرِ البعيدِ، المنشغلينَ بكلِّ ما هو مفيدٌ، وهو ما سيقودُهم بإذنِ اللهِ إلى المصيرِ السعيدِ.
أقولُ قولي هذا..
الثانية
وبعدُ: ومن وجوهِ السعادةِ أيضًا لِمَن جعلَ الآخرةَ همَّهُ، أن يكونَ آخرُ عمرِه أجملَه، متميِّزًا بذلك عن بقيَّةِ الناسِ.
فآخرُ العمرِ مظنَّةُ الكآبةِ والخوفِ؛ فهو المرحلةُ التي خَبَتْ فيها الغرائزُ والشهواتُ، فلم يَعُدْ للحياةِ طعمٌ عندَ مَن اختصرَ حياتَه فيها، وهو كذلك مرحلةُ الدُّنوِّ من الموتِ والمصيرِ.
أمَّا مَن جعلَ الآخرةَ هدفَه، فآخرُ العمرِ هو وقتُ الدُّنوِّ من الهدفِ الذي سيتخلَّصُ بعدَه من عناءِ محاولةِ الوصولِ، ولا خوفَ لديه كذلك من الموتِ؛ فهو وقتُ لقاءِ اللهِ وتحصيلِ الأجرِ والثوابِ الذي سعى إليه.
رُوي عن بلالٍ رضي اللهُ عنه عندَ موتِه أنَّه كان يقولُ: «غدًا نلقى الأحبَّةَ، محمَّدًا وصحبَه».
وعندما أصابَ الطاعونُ كفَّ معاذِ بنِ جبلٍ رضي اللهُ عنه، جعلَ يُقبِّلُها ويقولُ: «لَهِيَ أحبُّ إليَّ من حُمرِ النَّعَم»، ثم يُغشى عليه، فإذا سُرِّيَ عنه قالَ: «يا ربِّ، غُمَّ غمَّك، واخنقْ خنقتَك؛ فوعزَّتِك، إنَّك لتعلَمُ أني لأُحبُّك».
عبادَ اللهِ، نخلُصُ من كلِّ ذلك، إلى أنَّ أجملَ الأوقاتِ هو وقتُ سيرِك إلى هدفِك، وقبلَ حصولِ مرادِك، فاجعلْ حياتَك كلَّها مرحلةَ ما قبلَ الهدفِ، وذلك بأن تجعلَ الآخرةَ هدفَك ومرادَك.
اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ..
المرفقات
1762429751_اجعل هدفك الآخرة ( وورد).docx
1762429752_اجعل هدفك الآخرة ( PDF).pdf