الأمانة والمال العام
عبدالرحمن سليمان المصري
الأمانة والحفاظ على المال العام
الخطبة الأولى
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ، وَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ جَزِيلَ الْعَطَايَا وَالْهِبَاتِ، وأَشهدُ أن لا إِلهَ إِلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ ، وأشهدُ أنَّ مُحمداً عبدهُ ورسولُهُ ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلَّمَ تَسليماً كَثيراً ، أمَّا بَعدُ :
أُوصِيكُمْ ونَفسِي بِتقوَى اللهِ تَعالى فهيَ وصِيَّةُ اللهِ للأَوَّلينَ والآخِرينَ ، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ النساء : 131.
عباد الله : الأمانةُ شأنُها عظيمٌ ، وحِملُها ثقيلٌ ، وهيَ منْ دَلَائِلِ الْإِيمَانِ ، وَمنْ صِفَاتِ أَهْلِ الْبِرِّ والْإِحْسَانِ ، قال صلى الله عليه وسلم:" أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ؟ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ " رواه أحمد وصححه الألباني.
وقد أمر اللهُ جَلَّ وَعَلَا بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ ؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ النساء:58، وَنَهَى النبيُ صلى الله عليه وسلم عَنْ سُلُوكِ سَبِيلِ الخِيَانَةِ ؛ وعدّها من صِفَاتِ المنافقين ؛ فقال : " آيَةُ المُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ
كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ " رواه البخاري .
ونَفَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْإِيمَانَ عَنْ صَاحِبِ الْخِيَانَةِ ، فقال: " لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ " رواه أحمد وصححه الألباني .
عباد الله : ولا تَقتصرُ الأَمانةُ على حِفظِ الوَدائعِ ، بلْ هيَ إِحدَى صُورِها ، أمَّا حقيقةُ الأَمانةِ ؛ فهي أَوسعُ وأشملُ منْ ذلكَ ، فكلُّ ما أَوجبَهُ اللهُ تعالى على عِبادهِ منْ حُقوقِ اللهِ تعالى ، وحُقوقِ المَخلُوقينَ ؛ فهوَ منَ الأَمانةِ .
ومنَ الأمَانةِ: حِفظُ المالِ العَامِ ، الَّذِي جَعَلَهُ ولِيُّ الأَمْرِ لِعُمُومِ النَّاسِ ، وهو أَشدُّ في حُرْمَتهِ منَ المالِ الخَاصِّ ؛ لِكَثرةِ الحقُوقِ الْمُتَعلِّقَةِ بِهِ ، وتَعدُّدِ الذِّمَمِ المالِكَةِ لَهُ ؛ لأَنهُ مَالُ المسلمينَ ، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ
وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ الأنفال : 27.
عباد الله : ومنْ صُورِ التَّعدي على المالِ العامِ :
تَخريبُ المُنشآتِ العامةِ ، أو الاستيلاءِ عَليها ، أو السَّرقةِ مِنها ؛ كَسرقةِ التيارِ الكهرُبائِي أو سَرقةِ مياهِ الشُّربِ ، أو إِهدارِ المالِ العامِ ، أو الإِخْلَالِ بِوَاجِبِ الوَظِيفَةِ ، أو استِغلَالِها لِأَغرَاضٍ شَخصِيةٍ ، كسيارةِ العملِ ، وجِهازِ الحاسبِ ،
وتَصويرِ الأَوراقِ ، أو إِعطاءِ المَشاريعِ أو الوَظائفِ لمنْ لا يَستحقُّها ، وتَقديمُهمْ على غَيرهِمْ ، معْ وُجودِ منْ هوَ أَولى مِنهمْ، إِمَّا لِقرابةٍ أو مَصلحةٍ شَخصيةٍ .
ومن أمثلةِ الفَسادِ: أَخذِ الرِّشوةِ ، وهيَ منْ كَبائِرِ الذُّنوبِ ، ومنْ صُورِها قَبُولُ الهديِّةِ منَ المُراجعينَ ، وكُل ما أُهدي بسببِ الوَظيفةِ ؛ فإنهُ رِشْوَةٌ وهو منَ الغُلُولِ الَّذي نهى اللهُ عنهُ ، وحذّرَ مِنهُ ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ﴾ آل عمران: 161.
وقال صلى الله عليه وسلم :" مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا –أي اعطيناه أجرا-، فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ " رواه أبوداود وصححه الألباني .
وَاسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ ﷺ رَجُلًا عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: " فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ يُهْدَى لَهُ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا ، إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ " رواه البخاري.
فانظروا كيفَ غضبَ النبيُ ﷺ من قَبولِ الرجُلِ للهَديةِ ، وهو قدْ أَدَّى الأمانة التي كُلفَ بها ، فكيف الحالُ بِمَنْ يأخذْ من المالِ العَامِ بِغيرِ حَقٍّ؟
قال صلى الله عليه وسلم :" «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ،- أي يتصرفون بغير حق - فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " رواه البخاري.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ على إِحسانِهِ ، والشُّكرُ لهُ على تَوفِيقهِ وامتِنانهِ ، وأَشْهدُ أنْ لَا إِلهَ إِلا اللهُ وحْدهُ لا شَريكَ لهُ ، وأَشْهدُ أنَّ مُحمداً عبدهُ ورَسولُهُ ، صَلّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلهِ وصَحبهِ ، وسَلَّمَ تسليماً كثيراً ، أمَّا بعدُ :
عباد الله : إِنَّ المُؤمنَ يَتحرَى الحَلالَ الطَّيبَ ، ويَجتنبَ الحَرامَ الخبيثَ ، قال تعالى:﴿ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ آل عمران: 100.
فالمالُ الحرامُ يُزينهُ الشيطانُ لِضعافِ النُفوسِ ، وهو سَببٌ لمنعِ إجابةِ الدُعاءِ ، وإِغلاقِ بابِ السماءِ ، وسَببٌ لمحقِ بركةِ المالِ ، و نُزولِ البلايا على الناس ، و فَسادِ القلبِ وحِرمانِ التَلذُذِ بالطاعةِ ، و الجُرأةِ على المعاصي والحرمات .
وهو طَريقٌ مَحفوفٌ بِالخطرِ ، وسُلَّمٌ يَنهارُ بِصاحِبهِ إلى النارِ ، قال صلى الله عليه وسلم : " إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ " رواه أحمد بسند صحيح .
عباد الله : ومما يدلُّ على شناعةِ الغُلولِ وشِدةِ تَحرِيمهِ ، أَنَّ رَجلاً كانَ مع النبي صلى الله عليه وسلم في خَيبر فرُمي بسهمٍ ، فكانَ فيهِ حَتفَهُ ، فقلنا: هنيئاً لهُ الشَّهادةِ يا رَسولَ اللهِ ، فقالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " كَلَّا وَالَّذِي نَفْسُ
مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ الشِّمْلَةَ - وهي كساء صغير يؤتزر به - لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَارًا ، أَخَذَهَا مِنَ الْغَنَائِمِ يَوْمَ خَيْبَرَ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ »، قَالَ: فَفَزِعَ النَّاسُ، فَجَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَصَبْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله
عليه وسلم : "شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ " رواه مسلم . والشراك هو السير المعروف الذي يكون في النعل على ظهر القدم .
فهذا رَجلٌ صحبَ النبيَ صلى الله عليه وسلم ، وخرجَ معهُ في الِجهادِ وقُتلَ ، وظَنهُ النَّاسُ شَهيداً ومعَ ذلكَ أَخبرَ النبيُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يُعذبُ في قبرهِ ، بِسببِ شَيءٍ يسيرٍ من المالِ العامِ أَخذهُ لِنفسهِ .
عباد الله : إِنَّ على الأُسرَةِ ومَحاضنِ التَّعليمِ ؛ دَوراً مُهمًّا في غَرْسِ قِيمِ الأَمانَةِ والنَّزَاهةِ لدى النَّاشِئةِ ، وذلك بِتربيَتهِمْ وتَوْجِيهِهِمْ ؛ إلى أَهَمِّيةِ الأَمَانةِ في حَيَاتِهمْ .
ولِيَعلمِ المُسلمُ أَنَّ حِمايةَ المَالِ العامِّ ؛ وَاجبٌ على كُلِّ مُواطنٍ ومُقيمٍ لِصَدِّ هذا الفَسادِ ؛ ولِتَسلمَ منْ شَرِّهِ البِلاَدُ والعِبَادُ ، لعمومِ قَولِ اللهِ تَعَالى : ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ المائدة : 2
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
المرفقات
1733458818_الأمانة والمال العام خطبة جمعة.docx