الإسلامُ يربِّي على الاعتِمَادِ على النَّفْسِ
عبدالمحسن بن محمد العامر
الحمدُ للهِ خلقَ النّفْسَ وسوّاهَا، وألْهَمَهَا فُجورَهَا وتقوْاهَا، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له مَدَحَ مَنْ صَانَ نَفْسَه وزكّاها، وذَمّ مَنْ أَهانَ نَفْسَه ودَسّاها، وأشهدُ أنَّ محمدا عبدُه ورسولُه كرّمَ اللهُ منزلتَهُ وأعلاها، صلى اللهُ وسلمَ عليه مَا أَشْرقَتْ شمسٌ في ضُحَاهَا، وما ظَهرَ قَمرٌ وتلاهَا، وعلى آلِه وصحبِه والتابعينَ ومَنْ تَبعهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدّينِ ... أما بعدُ
فيا عبادَ اللهِ: أوصيكمْ ونفسي بتقوى اللهِ تعالى، ففي التقوى كلُّ خيرٍ، وعاقبتُها إلى خيرٍ؛ "يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ"
معاشرَ المؤمنينَ: جاءَ الإسلامُ بتربيةِ المسلمين على الاستغناءِ عنْ الخَلْقِ، وعَدمِ الرّكونِ إلى الآخرينَ، وعلى التوكّلِ على اللهِ، ثُمَّ الاعتمادِ على النّفْسِ، فَعنْ عَوفِ بنِ مَالكٍ الأشجعيِّ رَضيَ اللهُ عنهُ قالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، تِسْعَةً، أوْ ثَمانِيَةً، أوْ سَبْعَةً، فقالَ: ألَا تُبايِعُونَ رَسولَ اللهِ؟ وكُنَّا حَدِيثِي عَهْدٍ ببَيْعَةٍ، فَقُلْنا: قدْ بايَعْناكَ يا رَسولَ اللهِ، ثُمَّ قالَ: ألَا تُبايِعُونَ رَسولَ اللهِ؟ فَقُلْنا: قدْ بايَعْناكَ يا رَسولَ اللهِ، ثُمَّ قالَ: ألَا تُبايِعُونَ رَسولَ اللهِ؟ قالَ: فَبَسَطْنا أيْدِيَنا وقُلْنا: قدْ بايَعْناكَ يا رَسولَ اللهِ، فَعَلامَ نُبايِعُكَ؟ قالَ: علَى أنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ ولا تُشْرِكُوا به شيئًا، والصَّلَواتِ الخَمْسِ، وتُطِيعُوا، (وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً)، ولا تَسْأَلُوا النَّاسَ شيئًا. فَلقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أحَدِهِمْ، فَما يَسْأَلُ أحَدًا يُناوِلُهُ إيَّاهُ" رواه مسلم.
وهذه الكلمةُ الخَفِيَّةُ هي عدَمُ سُؤالِ النَّاسِ شيئًا مِنْ أمورِ الدُّنْيا، وهو حَثٌّ على العِفَّةِ، وإفرادِ اللهِ بإنزالِ الحاجاتِ به، وعدَمِ سُؤالِ أحدٍ مِن العِبادِ شيئًا، وعنْ ثَوبانَ رضيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ: "مَنْ يَتقبَّلُ لي بواحدةٍ وأتقبَّلُ لَهُ بالجنَّةِ؟ قُلتُ: أنا؛ قالَ لا تَسْألِ النَّاسَ شيئًا، قالَ: فَكانَ ثَوبانُ يَقَعُ سَوْطُهُ وَهوَ راكبٌ؛ فلا يقولُ لأحدٍ: ناوِلنيهِ؛ حتَّى ينزلَ فيأخذَهُ" رواهُ ابنُ ماجهْ وصحّحَه الألبانيُّ.
وَقدْ ضَرَبَ لَنَا الصحابةُ الكِرامُ أروعَ الأمْثِلَةِ في الاعتِمَادِ على النَّفْسِ؛ بعدَ التّوَكُّلِ على اللهِ تعالى؛ هذا عبدُالرحمنِ بنُ عوفٍ رضي اللهُ عنه يقولُ عنْ نَفْسِهِ: " لَمَّا قَدِمْنا المَدِينَةَ آخَى رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَيْنِي وبيْنَ سَعْدِ بنِ الرَّبِيعِ، فقالَ سَعْدُ بنُ الرَّبِيعِ: إنِّي أكْثَرُ الأنْصارِ مالًا، فأَقْسِمُ لكَ نِصْفَ مالِي، وانْظُرْ أيَّ زَوْجَتَيَّ هَوِيتَ نَزَلْتُ لكَ عَنْها، فإذا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَها. قالَ: فقالَ له عبدُ الرَّحْمَنِ: لا حاجَةَ لي في ذلكَ، هلْ مِن سُوقٍ فيه تِجارَةٌ؟ قالَ: سُوقُ قَيْنُقاعٍ، قالَ: فَغَدا إلَيْهِ عبدُ الرَّحْمَنِ، فأتَى بأَقِطٍ وسَمْنٍ، قالَ: ثُمَّ تابَعَ الغُدُوَّ، فَما لَبِثَ أنْ جاءَ عبدُ الرَّحْمَنِ عليه أثَرُ صُفْرَةٍ، فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: تَزَوَّجْتَ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: ومَنْ؟ قالَ: امْرَأَةً مِنَ الأنْصارِ، قالَ: كَمْ سُقْتَ؟ قالَ: زِنَةَ نَواةٍ مِن ذَهَبٍ -أوْ نَواةً مِن ذَهَبٍ-، فقالَ له النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أوْلِمْ ولو بِشاةٍ" رواه البخاريّ
معاشرَ المؤمنينَ: في الاعتمادِ على النّفْسِ احترامٌ لها، وتقديرٌ لمكانَتِها، فَعنْ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ؛ أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: "والذي نَفْسِي بيَدِهِ، لَأَنْ يَأْخُذَ أحَدُكُمْ حَبْلَه، فيَحْتَطِبَ علَى ظَهْرِه؛ خَيْرٌ له مِن أنْ يَأْتيَ رَجُلًا، فيَسْأَلَه، أعْطاهُ أوْ مَنَعَه" رواهُ البخاريُّ
وفي الاعتمادِ على النّفْسِ اسْتِعْفَافٌ، واسْتِغْنَاءٌ، ورَفْعٌ للنفسِ، وإعلاءٌ لشأنها؛ عنْ حَكِيْمِ بنِ حِزامٍ رَضْيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ: "اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وابْدَأْ بمَن تَعُولُ، وخَيْرُ الصَّدَقَةِ عن ظَهْرِ غِنًى، ومَن يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، ومَن يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ" رواهُ البخاريُّ
وفي الاعتمادِ على النَّفْسِ قُوةٌ يحبُّها اللهُ، وفِعلٌ للأسبابِ معَ التَّوكُّلِ على اللهِ؛ فَعَنْ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، وإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ، فلا تَقُلْ: لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ؛ فإنَّ (لو) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ" رواهُ مسلمٌ
والاعتمادُ على النَّفْسِ في تَحْصِيْلِ المَعَاشِ، وفي كَسْبِ المَالِ للإنفاقِ على الأهلِ والعِيالِ؛ جهادٌ في سبيلِ اللهِ، فَعَنْ كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: "مرَّ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ رجلٌ فرأى أصْحَابُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مِنْ جَلَدِه ونشاطِه فقالوا: يا رسولَ اللهِ لو كان هذا في سبيلِ اللهِ؟! فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: إنْ كانَ خَرَجَ يَسْعَى على وَلدِه صغارًا فهوَ في سبيلِ اللهِ، وإنْ كانَ خَرَجَ يَسْعَى على أبويْنِ شَيْخَيْنِ كَبيرَيْنِ فهوَ فيْ سَبيلِ اللهِ، وإنْ كانَ خَرجَ يَسْعَى على نَفْسِهِ يُعِفُّها فهوَ في سبيلِ اللهِ، وإنْ كانَ خَرَجَ يَسْعَى رِيَاءً ومفاخرةً فهوَ في سبيلِ الشيطانِ" رواه الطبرانيّ وصححه المنذري والألباني.
معاشرَ المؤمنينَ: إنَّ في عدمِ أوْ ضَعْفِ الاعتمادِ على النَّفْسِ، تواكلٌ وتَكَاسُلٌ، وعَجْزٌ وخَوَرٌ، وإخْضَاعٌ للنَّفْسِ للآخرِين، وقدْ اسْتَعَاذَ النبيُّ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ مِنْ هذهِ الصِّفَاتِ؛ فَعَنْ أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلمَ كانَ يقولُ: "اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ، والعَجْزِ والكَسَلِ، والبُخْلِ والجُبْنِ، وضَلَعِ الدَّيْنِ، وغَلَبَةِ الرِّجَالِ" رواهُ البخاريُّ.
باركَ اللهُ لي ولكمْ بالكتابِ والسّنَةِ، ونفعَنا بما فيهما مِنَ الآياتِ والحكمةِ..
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فتستغفروهُ إنّه كانَ غفّارا ..
الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ كما أمرَ، والشّكرُ لهُ على مَا أَعْطَى وأكْثَرَ، وأشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له الكبيْرُ الأكبَرُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه خيرةُ البَشَرِ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصَحْبِهِ خيرِ آلٍ ومَعْشَرٍ، وسلمَ تسليماً كثيراً إلى يومِ المَعَادِ والمَحْشَرِ..
أمّا بعدُ فيا عبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"
معاشرَ المؤمنينَ: إنّ الاعتمادَ على النَّفْسِ سُلوكٌ يَتَربّى عليهِ المَرْءُ، وقِيْمَةٌ إنْسَانيّةٌ نَبِيْلةٌ؛ يَتحَلّى بِها ذووا القُوّةِ والعَزْمِ، وصِفةٌ يُمدحُ بها الرجالُ والنساءُ.
وفي تربيةِ الأولادِ والأجيالِ على الاعتمادِ على النَّفْسِ بَعْدَ التّوَكُّلِ على اللهِ؛ بِنَاءُ جِيْلٍ قويٍّ، وتَنْشِئةُ نَشْئٍ عَمَلِيٍّ، وإحْيَاءٌ للعزّةِ في القلوبِ والأرواحِ، وإشْعَالٌ لِلْإباءِ والطُّمُوحِ، وإذْكَاءٌ لِروْحِ الكِفَاحِ، ودَفعٌ إلى الفَوْزِ والنَّجَاحِ.
إنَّ مِنْ سُوءِ التّربِيَةِ، والخَطَأِ في التّنْشِأَةِ؛ أنْ يَتَولَّى الوَالدانِ عنْ الوَلَدِ مَسؤوليَّاتِه، وأنْ يُؤدْيَا عنهُ واجباتِه، وأنْ يقومَا بأغلبِ شُؤونِه، وأنْ يَختَارا له حَاجَاتِه الخَّاصَّةِ، ويَشتَريَا لهُ مُتَطلباتِه، وربَّما سَلَبَاهُ فُرْصَةَ الكلامِ والتّحدُّثِ أمامَ الآخَرِينَ، خوفاً عليهِ حِيْناً، وشَفَقَةً ورَحمةً حِيْنَاً آخرَ، وعَدَمَ ثِقَةٍ فيهِ واعتمادٍ عليهِ مَرّةً أخرى،
فَمَن يُمَارِسُ هذا النَّمَطَ في التَّرْبِيَةِ؛ فإنَّهُ يُكَسِّرُ شَخْصِيَةَ وَلَدِهِ، وَيُوهِنُهُ بالرَّفَاهِيَةِ والاتْكَالِيّةِ، وَسَيَكُوْنُ عِبْأً على أهْلِهِ ومُجْتَمَعِهِ، ولِسَانُ حَالِه يَقُولُ:
هذا جَنَاهُ أبى عَلىَّ ***ومَا جَنيْتُ على أحدِ
وَبَعْدُ عِبادَ اللهِ: إنَّ مِنْ طَبيعةِ الطِّفْلِ في بِدايَةِ عُمْرِهِ، وفِطْرَتِه التي فَطَرَهُ اللهُ عليها؛ الاعتمادَ على النَّفْسِ، وهذا لَيْسَ في الطِّفْلِ مِنْ بَني آدمَ فقط، بلْ في كلِّ الصِّغَارِ مِنْ بَقيَّةِ المَخْلوْقَاتِ، فأنتَ تُشاهدُ تَكالُبَ الطِّفْلِ على الأكلِ بِيَدِهِ دُوْنَ مُسَاعَدَةِ أَبَوَيْهِ، وَرَفْضَهُ التَّنَاوُلَ مِنْ أَيْدِيْ الآخرينَ، ولكنَّ البيئةَ الّتِي حَوْلَه هيَ الّتِي تَقْتُلُ فِيْهِ هَذِهِ الفِطْرَةَ، فيَتَعَوّدُ على هذا النَّمَطِ مِنَ الاعتماديةِ في حياتِهِ حتَّى البلوغَ، ويكونُ بَعْدَ ذلكَ أحدَ الملايينِ الذينَ يَعْتَمِدُونَ على غيَرْهِم، فَيَتَعَثَّرُونَ في حَياتِهِم، ويَكونُ الفَشَلُ هو المُلازِمُ لهمْ على الدوامِ.
إنَّ النَّجاحَ في هذهِ الحياةِ لهُ سُنَنٌ، ومِنْ أبْرَزِهَا الاعتمادُ على النَّفْسِ، ولِذلكَ لا تَرى نَاجِحَاً إلّا وَتَكونُ صِفَةُ الاعتمادِ على النَّفْسِ بارِزَةً فيه.
هذا وصلوا وسلموا ..
المرفقات
1763041823_احترام الذات 1.docx