الاتزان منهج دنيوي وأخروي
د.عبدالحميد المحيمد
الاتزان منهج دنيوي وأخروي
إن الحمد للّه، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللَّهم صلَّ على محمدٍ وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، في العالمين إنك حميدٌ مجيد وبارك على محمدٍ وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، في العالمين إنك حميدٌ مجيد.
عباد اللّه، أوصيكم ونفسي بتقوى اللّه؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).
أيها الأحبة في اللَّه، الاتزان منهجٌ حياتي، ومنهجٌ إيماني؛ فالمؤمن يتزن في حياته، ويتزن في طاعته، ويطلب الدنيا كما يطلب الآخرة، ويداوم على الطاعات، ويأخذ منها ما يطيق، يوازن بين حاجات الجسد والروح، ويوازن بين متطلبات الدنيا والآخرة، ويحسن التعامل مع أهله، ومع من حوله من الناس.
المسلم يعيش في اتزان، لأن في الاتزان النجاح والاستقرار؛ ولذلك، مرَّ النبي -صلى اللله عليه وسلم- بأبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه وهو يصلي أو يقرأ بصوتٍ خافت، ثم مرَّ بعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه وهو يقرأ أو يصلي بصوتٍ مرتفع؛ فقال النبي -صلى اللله عليه وسلم- : ”يا أبا بكر، لِمَ تخفض صوتك؟ “
قال: يا رسول اللَّه، أُسمع من أناجي، ومن أناجيه يسمعني.
وقال:”يا عمر، لِمَ ترفع صوتك؟ “
قال: لأُوقظ الوسنان، وأطرد الشيطان.
فقال النبي -صلى اللله عليه وسلم- :”يا أبا بكر، ارفع قليلاً، ويا عمر، اخفض قليلاً. “
فهذا هو منهج الاتزان في القراءة، وفي الصلاة، في الذكر والطاعات، بل وحتى في الصدقات، ينبغي أن يكون هناك اتزان.
فبعض الناس لا يتصدق إلا صدقة موسمية، في السنة مرة واحدة، لا يدري هل يُدرك حولًا بعد حول، فيتصدق فقط في رمضان، أو في يومٍ من أيام السنة.
لكن أخبرني أحدهم، فقال:”إني أتصدق كل يوم بدينار، طوال السنة. “؛ فعجبتُ من هذه الطريقة، ومن هذا الاتزان. لماذا؟
لأن الدينار لا يُكلِّفه كثيرًا، ولا تُعجزه نفسه.
الأمر الآخر: أن المحتاجين يتنوعون كل يوم؛ فربما أعطى اليوم مسكينًا، وغدًا يتيمًا، وهكذا.
وكذلك تتجدد النية في كل يوم؛ فقد يتصدق أحدهم مرة واحدة بمبلغٍ كبير فيصيبه العُجب والغرور، ولا يُخلص النية للَّه.
لكن الذي يتزن في صدقاته، قد تُوافق صدقته ساعة إجابة، وساعة قبول، ويُوفق فيها للإخلاص.
وكذلك الاتزان في الإنفاق:
بعض الناس اليوم يوقع نفسه في الديون، ويموت وعليه دين. مطلوبٌ للبنك الفلاني، أو للمؤسسة الفلانية
”وقد رفض النبي -صلى اللله عليه وسلم- أن يُصلي على من عليه دين. “
فالمؤمن لا يُوقِع نفسه في هذا الضيق والحرج، بل ينفق على قدر المستطاع، ويتزن في نفقاته؛ كمن يوازن بين نفقة أول الشهر وآخره.
فالمؤمن يقتصد، ويحسن الإنفاق، ويحسن التعامل، ويعمل لآخرته كما يعمل لدنياه.
وكذلك الاتزان في التعامل الأسري:
العدل بين الأبناء والبنات، بعض الآباء كأن عنده أبناء فقط، وكأن البنات غير موجودات!
والنبي -صلى اللله عليه وسلم- قال:”اتقوا اللَّه، واعدلوا بين أولادكم. “
ومن الاتزان الأسري:
أن يُحسن الإنسان التعامل مع الزوجة، ومع الوالدين، والإخوة، والأبناء، والبنات. ويوازن بين الطاعة وواجباته الأسرية؛ فلا ينشغل بالأهل ويترك الصلاة في الجماعة، ولا يصوم النهار ويقوم الليل، ثم يهجر أسرته!
وعندما زار سلمان رضي اللَّه عنه أبا الدرداء، كما في الحديث في صحيح البخاري، رأى أم الدرداء مبتذلة – أي غير مهتمة بنفسها – كأن زوجها ليس على قيد الحياة.
فقال لها:”يا أم الدرداء، ما لي أراكِ مبتذلة؟ “
قالت: إن أخاكَ أبا الدرداء ليس له حاجة في الدنيا!
فلما جلس معه، لم يُعاتبه مباشرة، بل اختار الوقت المناسب، وتمهَّل.
فلما صنعوا له طعامًا، قال له أبو الدرداء:
”يا سلمان، كل، أما أنا فإني صائم. “
فقال سلمان:”واللَّه لا آكل حتى تأكل. “
فأفطر أبو الدرداء، لأن الصائم المتطوع أميرُ نفسه، كما قال النبي -صلى اللله عليه وسلم- .
ثم لما جاء الليل، أراد أبو الدرداء أن يقوم يُصلي، فأمسك به سلمان وقال:”نم. “
وكلما أراد أن يقوم، قال له:”نم. “
حتى كان الثلث الأخير من الليل، فقال له:”قم الآن فَصَلِّ. “
وفي نهاية الزيارة، قال له سلمان الوصية العظيمة:
”إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعطِ كلَّ ذي حقٍ حقه. “
فلما بلغ ذلك النبي -صلى اللله عليه وسلم- قال:”صدق سلمان. “، وهذه من السنن المقررة التي أقرّها النبي -صلى الله عليه وسلم-
فما بال بعض الناس يسهر الليالي، ويسافر أصقاع الأرض، ويترك زوجته المسكينة! فليتقِ اللَّه في نفسه،وفي زوجته، وفي أهله.
النبي -صلى اللله عليه وسلم- كان يذهب إلى الحرب والغزو، لكنه كان يعدل، ويرحم، ويوازن بين أموره.
فينبغي أن نقتدي بأخلاق النبي -صلى اللله عليه وسلم- ، ونتأسى به، ونطبق سنته.
أسأل اللَّه أن يغفر ذنوبنا، أقول ما تسمعون، وأستغفر اللَّه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبيّنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين.
من الدعوات المباركة التي ندعو بها في الطواف حول الكعبه، وندعو بها في التشهد، ونقرؤها في القرآن قوله تعالى: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)
هذه الآية، وهذه الدعوة، تلخص لنا معنى الاتزان: أن يسعى الإنسان، ويؤدي حق اللَّه، ويؤدي حق العباد، ويعمل لدنياه، ويعمل لآخرته، ويكون متوازنًا في أعماله وطاعاته.
وكان النبي -صلى اللله عليه وسلم- يداوم على العمل، وكان يقول -صلى اللله عليه وسلم- :”أحب الأعمال إلى اللَّه أدومها وإن قل. “
أسأل اللَّه أن يجعلنا من المتزنين، وأن يجعلنا من المقبولين، وأن يجعلنا من المتقين، وأن يغفر لنا، إنه هو الغفور الرحيم اللَّهم اغفر لنا، ولآبائنا، وأمهاتنا، وأصلح أبناءنا وبناتنا.
اللَّهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات.
اللَّهم فرِّج عن المسلمين في كل مكان.
اللَّهم احفظ هذا البلد، وسائر بلاد المسلمين.
وآخر دعوانا أن الحمدُ للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبيّنا محمد.
المرفقات
1760935213_الاتزان منهج دنيوي وأخروي.docx