الْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ
عبدالرحمن اللهيبي
أما بعد أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى فإن تقواه أساسُ السعادة والنجاح ، وسبيلُ الهداية والفلاح ، )يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)
أيها المسلمون: إن من أجل القيم العظيمة ، والآداب الرفيعة التي جاء بها الإسلام : إجلال كبار السن ومراعاة حقوقهم ، وتوقيرهم ورعايتهم ، واحترامهم ومؤانستهم ، والتأدب معهم وخفض الجناح لهم ، والتلطف معهم والإحسان إليهم، والرفق بهم والتودد لهم ، قال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا فَلَيْسَ مِنَّا ))
وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجل كبار السن ويوقرُهم ففي فتح مكة جَاءَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِأَبِيهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ يَحْمِلُهُ حَتَّى وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِأَبِي بَكْرٍ: لَوْ أَقْرَرْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ لَأَتَيْنَاهُ
هكذا كان النبي ﷺ يجل كبار السن ويوقرهم ، فعن أبي داود عن النبي ﷺ أنه قال: (إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ)
أرأيتم يا عباد الله كيف قرن النبي صلى الله عليه وسلم إكرام كبير السن بإجلال الله تعالى ، وهذا يعني أن عدم إكرامك لكبير السن هو من عدم إجلالك الله..
عباد الله: إن كبار السن قد شابت لحاهم ، وخارت قواهم ، وضعفت جوارحهم ، وظهرت في وجوههم تجاعيد الزمان بعد أن أفنوا أعمارهم في خدمة أولادهم ، وتهيئة أسباب العيش الكريمة لهم .. فحقهم الآن من الأبناء والأحفاد والأجيال رعايتُهم والعنايةُ بهم وقضاءُ حَوَائِجِهِمْ ، وعدمُ التقدم بين أيديهم لا في المشية ولا في الحديث ، ولا في الدخول ولا عند الخروج، وتقديم الإناء إليهم قبل غيرهم،
والاستماع على حديثهم ، والإفادة من تجاربهم ، والتودد إليهم ومراعاة نفسياتهم ، ومخاطبتهم بما يعرفون ، وابداء التفاعل عند سماعهم وهم يحكون ذكرياتهم ، واحتمال ما يكون في خطابهم من غلظة أو شدة أو سرعة غضب وانفعال، والحذر كل الحذر من التجاوز عليهم أو الإساءة إليهم ، أو التقدم بالكلام في حَضْرَتِهِمْ دون إِذْنِهِمْ وَإِشَارَتِهِمْ..
عباد الله: وتتأكد حقوق كبار السن وتعظم إذا كان كبير السن أباً أو جداً فهو فِي هَذِهِ المَرْحَلَةِ بحاجة إِلَى كَثِيرِ عطف ورِعَايَةٍ؛ وإِلَى مَزِيدِ اهتمام وعِنَايَةٍ ، وَلِذَا أَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالإِحْسَانِ إِلَى الوَالِدَيْنِ ، وَخَاصَّةً عِنْدَ كِبَرِ سِنِّهِمَا، وَذلك لازْدِيَادِ حَاجَتِهِمَا ، وَاشْتِدَادِ ضَعْفِهِمَا، فقال تعالى: )وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا(
عباد الله : إن من المؤسف حقا ومن المبكي صدقا أن يسيء بعض الناشئة على الأشياخ الكبار فلا يعرفون لهم فضلا ولا حقا ، ولا يقيمون لهم وزنا ولا قدرا ، بل منهم من ربما اعتدى على كبير السن بشتمٍ أو غير ذلك، أو تضجر الشباب منهم لثقل مشيتهم ، أو لبطء سيرهم عند قيادتهم للسيارة
ألا فلنتق الله في كبارنا وأشياخنا.. فهم سادتنا وتيجان رؤوسنا .. وهم بركة حياتنا ونور منازلنا ، فكم تحل علينا من النعم والخيرات ببركة دعواتهم .. وعند رحيلهم من الدنيا تتوقف دعوات لهم كانت تطرق أبواب السماء لأجلنا ، فنسأل الله أن يجعل خير أعمارهم أواخرها ، وخير أعمالها خواتمها ، وخير أيامهم يوم أن يلقوا ربهم وهو راض عنهم
أقول قولي هذا ..
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : حَالُ المُسِنِّينَ فِي الْغَرْبِ وَالدُّوَلِ الكَافِرَةِ التِي تَدَّعِي التَّقَدُّمَ وَالرُّقِيَّ ، تُؤَكِّدُ أَنَّ المسلمين فِي نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ ، فكبار السن في الغرب يُحَالُونَ إِلَى دُورِ الْعَجَزَةِ وَالمُسِنِّينَ ، أَمَّا فِي بِلَادِناَ وَمُجْتَمَعَاتِنَا فَإِنَّ المُسِنِّينَ بَيْنَنَا وَفِي بُيُوتِنَا يتحولون إِلَى شُمُوعٍ مُضِيئَةٍ ، وَقَنَادِيلَ مُؤْنِسَةٍ ، تَزْدَادُ البُيُوتُ بِهِمْ بَهْجَةً وَسُرُوراً ، وتزدان بهم الأسر بركة وحبورا ، بل من عظيم عناية الإسلام بهم أنه أمر الإمام بتخفيف الصلاة لأجلهم حتى لا يشق عليهم فَعَنْ قال ﷺ: «إِذَا أَمَّ أَحَدُكُمُ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ؛ فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ، وَالضَّعِيفَ، وَالْمَرِيضَ» [رَوَاهُ البُخَارِيُّ].
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ كِبَـرَ السِّنِّ لَيْسَ عَيْبًا وَلَا نَقِيصَةً ، بل قَدْ صَارَ إِلَى خَيْرٍ وَبَرَكَةٍ وَإِكْبَارٍ ، وَأَقْبَلَ إِلَى طَاعَةٍ وَسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ قَالَ ﷺ: «مَا شَابَ رَجُلٌ فِي الْإِسْلَامِ شَيْبَةً، إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةٌ، وَكُتِبَتْ لَهُ بِهَا حَسَنَةٌ»[رَوَاهُ أَحْمَدُ]
وقَالَ ﷺ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِكُمْ؟» قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «خِيَارُكُمْ أَطْوَلُكُمْ أَعْمَارًا، وَأَحْسَنُكُمْ أَعْمَالًا»
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : إن كبر السن وإن كان هو نقص في البدن وضعف في القوة إلا أنه كمال في العقل ، ورجاحة في الحكمة ، وسعة في الخبرة ، وإدراك لأبعاد الأمور ، وروية في ردود الأفعال، فقد صَاغَتْهُمُ التَّجَارُبُ ، وَعَرَكَتْهُمُ الحَيَاةُ ، وَصَقَلَتْهُمُ َمُكَابَدَةُ الأَيَّامِ ، فَصَارُوا يَنْطِقُونَ بِالحِكْمَةِ ، وَيَتَكَلَّمُونَ بالحِنكة ، فَاسْتَفِدْ مِنْهُمْ أيها الشاب ، وخذ من تجاربهم ، واستمع لتوجيهاتهم ، واعمل بنصائحهم ، وإن بدا لك خلافها فالصواب غالبا معهم.. فقد قَالَ ﷺ: «الْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ» [رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ الذَّهَبِيُّ].
فيا أيها الشاب المبارك إِذَا رَأَيْتَ شَيْخاً كَبِيراً أَوْ رَجُلاً مُسِنّاً ، فَاحْمِلْ إِلَيْهِ رِسَالَةَ المُجْتَمَعِ المُتَرَاحِمِ ، واِفْسَحْ لَهُ في الطَّرِيقَ وأوسع لَهُ في المَجْلِسَ ، وقُمْ مِنْ مَكَانِكَ لِيَجْلِسَ فِيهِ وَيَسْتَرِيحَ
واحمل عنه متاعه ، وقرب له نعاله وعصاته ، وإِذَا رَأَيْتَهُ مَهْمُوماً فَاجْلِسْ إِلَيْهِ وَحَادِثْهُ وَلَاطِفْهُ حَتَّى يَزُولَ مَا بِهِ مِنْ غَمٍّ ، وإِذَا رَأَيْتَهُ وَحِيداً يَسْتَشْعِرُ الوَحْشَةَ فآنس وحشته ، وأدخل عليه السرور وَلَو بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ وَابْتِسَامَةٍ مشرقة ، ودعابة لطيفة مؤدبة..
واحذروا من الانشغال عنهم في المجالس بالجوالات أو بالحديث مع الآخرين في القضايا لا يعرفونها من الأمور المستجدة التي لم يعاصروها
وَالله إن مِنَ الْمُؤْسِفِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَزُورُ وَالِدَيْهِ أَوْ أَقَارِبَهُ مِنْ كِبَارِ السِّنِّ ، ثُمَّ بَعْدَ السَّلَامِ يُخْرِجُ جَوَّالَهُ ثم يقلبه فيه بصره يَتَنَقَّلُ بَيْنَ الرسائل والمقاطع وَاحِدًا بَعْدَ الآخَرِ وَيَتَرْكُهُمْ يَنْظُرونَ إِلَيْهِ بِحَسْرَةٍ وَأَسَفٍ.. وهم أشد ما يكونون حاجة إلى من يواسيهم ويؤنسهم ، فهم يعيشون زمانا غير زمانهم
فقد فَقَدُوا إِخْوَانِهِمْ وَأَخَوَاتِهِمْ, وَكَثِيرًا مِنْ أصحابهم وأقرانهم ، فَقُلُوبُهُمْ مَكْلُومَةٌ ، يُوَارُونَ دموعهم وَرَاءَ ابْتِسَامَتِهِمْ ، فَارْحَمُوهُمْ فَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ ، وَاحْذَرُوا من أي كلمة تزعجهم أَوْ إِشَارَةٍ تكدرهم ، ولا تخبروهم بما يكدر خواطرهم من ذكر همومكم ومتاعبكم ، أو أمراضكم ومصائبكم ، فقد لاقوا من متاعب الحياة ونكدها ما يكفيهم ، ولقد آن أوان راحتهم واستراحتهم ، فنحن نأتيهم لمواساتهم واستماع شكواهم لا أجل أن نُسمِعهم شكايتنا ، فإن كبير السن سريع الهم والغم ، فارحموهم يرحمكم الله ، وأحسنوا إليهم يحسن الله إليكم ..
فعَمَّا قَرِيبٍ سَتَـكُونُونَ مِثْلَهُمْ ، وَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ
وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ.
وصلوا وسلموا - رحمكم الله -