التحذير من الإسراف والتبذير في الولائم
إبراهيم بن سلطان العريفان
الْـحَمْدُ لِلَّهِ الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ، يُعْطِي بِلا حِسَابٍ، وَيَمُنُّ عَلَى عِبَادِهِ بِالنِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ، وَرَاقِبُوهُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ، وَتَزَوَّدُوا لِيَوْمٍ لَا يَنْفَعُ فِيهِ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ... لَقَدْ أَصْبَحَ مِنَ الْمُؤْسِفِ أَنْ نَشْهَدَ تَنَافُسًا عَلَى التَّبْذِيرِ فِي الْوَلَائِمِ، وَكَأَنَّ الْغَايَةَ مِنْهَا لَيْسَتْ إِكْرَامَ الضَّيْفِ، بَلْ إِبْهَارَ النَّاسِ وَالْمُفَاخَرَةَ، حَتَّى غَدَتْ بَعْضُ الْوَلَائِمِ تُقَامُ لِمُجَرَّدِ التِّقَاطِ الصُّوَرِ وَمَقَاطِعِ الْفِيدْيُو، لَا مِنْ أَجْلِ الْحَاجَةِ أَوْ صِلَةِ الرَّحِمِ أَوْ كَرَمِ الضِّيَافَةِ! حَيْثُ تُعَدُّ الْمَوَائِدُ الطِّوَالُ، وَتُهْدَرُ الْأَطْعِمَةُ وَالْأَمْوَالُ، وَيُبَالَغُ فِي الْكَمِّيَّاتِ وَالْأَصْنَافِ دُونَ حَاجَةٍ، وَرُبَّمَا لَمْ يَتَذَوَّقْ مِنْهَا الْمَدْعُوُّونَ إِلَّا الْقَلِيلَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾، أَفَبَعْدَ هَذَا نَرْضَى أَنْ نَكُونَ فِي زُمْرَةِ مَنْ لَا يُحِبُّهُمُ اللَّهُ، أَوْ أَنْ نُحْشَرَ مَعَ إِخْوَانِ الشَّيَاطِينِ؟!
فَانْظُرُوا يَا عِبَادَ اللَّهِ، كَيْفَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْهَ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، بَلْ أَمَرَ بِعَدَمِ الْإِسْرَافِ فِيهِمَا، إِنَّ كَرَمَ الضِّيَافَةِ لَا يَعْنِي الْغُلُوَّ فِي الْكَمِّيَّاتِ، وَلَا تَحْوِيلَ الْوَلِيمَةِ إِلَى مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ التَّرَفِ الْفَاحِشِ، قَالَ ﷺ: "بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ".
إِنَّ الْوَلَائِمَ الَّتِي تُرَادُ بِهَا إِكْرَامُ الضَّيْفِ يَنْبَغِي أَنْ تَبْقَى فِي حُدُودِ الِاعْتِدَالِ وَالْكَرَمِ الْمَشْرُوعِ، لَا أَنْ تَتَحَوَّلَ إِلَى مَجَالٍ لِلتَّفَاخُرِ وَالْمُبَاهَاةِ، وَوَسِيلَةٍ لِهَدْرِ النِّعْمَةِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ... إِنَّ اللَّهَ يُعْطِي النِّعَمَ لِيَرَى كَيْفَ نَتَعَامَلُ مَعَهَا، وَمِنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ حِفْظُهَا وَصَرْفُهَا فِيمَا يُرْضِي اللَّهَ، قَالَ أَحَدُ السَّلَفِ: "إِذَا رَأَيْتُمُ الْعَبْدَ يَتَقَلَّبُ فِي نِعَمِ اللَّهِ وَلَا يُؤَدِّي شُكْرَهَا، فَاحْذَرُوهُ أَنْ تَكُونَ اسْتِدْرَاجًا".
وَكَمْ مِنْ أُنَاسٍ عَاشُوا فِي نَعِيمٍ، ثُمَّ تَبَدَّلَ حَالُهُمْ، بِسَبَبِ الْإِسْرَافِ وَالْعُجْبِ وَالْمُبَاهَاةِ!! وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُزِيلُ النِّعْمَةَ عَنْ عَبْدٍ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُزِيلُهَا عَنْ نَفْسِهِ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ وَسُوءِ اسْتِخْدَامِهَا".
عِبَادَ اللَّهِ... إِنَّ مِنْ سُنَنِ اللَّهِ فِي الْكَوْنِ، أَنَّ النِّعَمَ إِذَا لَمْ تُشْكَرْ زَالَتْ، وَإِذَا أُسِيءَ اسْتِخْدَامُهَا رُفِعَتْ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ: "قَيِّدُوا النِّعَمَ بِالشُّكْرِ"، فَإِذَا اسْتُعْمِلَ الْمَالُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَصُرِفَتِ النِّعَمُ فِي التَّبْذِيرِ وَالْمُبَاهَاةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَدْعَاةٌ لِزَوَالِهَا وَذَهَابِهَا، وَرُبَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا فِي حِرْمَانِ الْبَرَكَةِ، بَلْ وَنُزُولِ الْعُقُوبَاتِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ﴾.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ... إِنَّ لِلْإِسْرَافِ فِي الْوَلَائِمِ أَضْرَارًا كَثِيرَةً، فَفِيهَا مُخَالَفَةٌ لِأَوَامِرِ اللَّهِ، وَتَعَدٍّ عَلَى حُدُودِهِ، وَتَرْبِيَةٌ لِلنَّفْسِ عَلَى الْكِبْرِ وَالرِّيَاءِ.
وَمِنْ أَضْرَارِهَا الْاقْتِصَادِيَّةِ: هَدْرٌ لِلْمَالِ وَالرِّزْقِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَثْمَرَ فِيمَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ وَأَهْلَهُ وَمُجْتَمَعَهُ.
وَفِيهَا أَضْرَارٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ: إِشَاعَةٌ لِمَظَاهِرِ التَّفَاخُرِ وَالطَّبَقِيَّةِ، مِمَّا يُزْرِعُ الْحَسَدَ وَالْحِقْدَ بَيْنَ النَّاسِ، وَيُؤْذِي قُلُوبَ الْفُقَرَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ.
وَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ يُرْمَى طَعَامُ كَثِيرٍ مِنَ الْوَلَائِمِ فِي الْحَاوِيَاتِ، وَبَيْنَمَا هُنَاكَ جَائِعٌ لَا يَجِدُ قُوتَ يَوْمِهِ؟! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ".
وَقَالَ ﷺ: "لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ مَالِهِ: مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ".
فَاتَّقُوا اللَّهَ، عِبَادَ اللَّهِ، وَاشْكُرُوا نِعْمَتَهُ، وَاحْفَظُوهَا مِنَ الزَّوَالِ، وَارْعَوْا حَقَّ الضَّيْفِ بِلا إِسْرَافٍ، وَاطْلُبُوا رِضَا اللَّهِ، لَا رِضَا النَّاسِ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ، وَعَلَّمَهُ الْبَيَانَ، وَسَخَّرَ لَهُ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، وَأَمَرَهُ بِالِاعْتِدَالِ فِي كُلِّ شُؤُونِهِ، وَحَذَّرَهُ مِنَ الْغُلُوِّ وَالْإِسْرَافِ، وَجَعَلَ الِاعْتِدَالَ سَبِيلًا لِلْبَرَكَةِ وَالرِّضَا. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ .. إِنَّ مِنْ أَخْطَرِ مَظَاهِرِ الرِّيَاءِ الْمُعَاصِرَةِ: تَصْوِيرُ الْوَلَائِمِ وَنَشْرُهَا عَلَى وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ، وَالتَّفَاخُرُ بِحَجْمِ الْأَطْعِمَةِ وَكَثْرَتِهَا، وَكَأَنَّهَا مُسَابَقَةٌ فِي التَّرَفِ وَالْمُبَاهَاةِ!!
إِنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَا يَمُتُّ إِلَى الْكَرَمِ بِصِلَةٍ، بَلْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الرِّيَاءِ الَّذِي يُذْهِبُ أَجْرَ الْعَمَلِ، قَالَ ﷺ: "مَنْ سَمَّعَ، سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي، يُرَائِي اللَّهُ بِهِ"، وَقَدْ يُشْعِرُ هَذَا بَعْضَ النَّاسِ بِالْحَرَجِ أَوِ الضِّيقِ، خُصُوصًا مِمَّنْ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِقَامَةَ مِثْلِ تِلْكَ الْوَلَائِمِ.
فَاتَّقُوا اللَّهَ، عِبَادَ اللَّهِ، وَاشْكُرُوا نِعْمَتَهُ، وَاحْفَظُوهَا مِنَ الزَّوَالِ، وَارْعَوْا حَقَّ الضَّيْفِ بِغَيْرِ إِسْرَافٍ، وَاطْلُبُوا رِضَا اللَّهِ، لَا رِضَا النَّاسِ.
عِبَادَ اللَّهِ .. الِاعْتِدَالُ فِي كُلِّ شَيْءٍ هُوَ سِمَةُ الْمُؤْمِنِ الْحَقِّ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ".
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الشَّاكِرِينَ، وَاحْفَظْ لَنَا نِعَمَكَ، وَوَفِّقْنَا لِلْإِنْفَاقِ فِيمَا يُرْضِيكَ، وَجَنِّبْنَا التَّبْذِيرَ وَالْإِسْرَافَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا. اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى شُكْرِ نِعْمَتِكَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَرْزَاقِنَا، وَجَنِّبْنَا الْإِسْرَافَ وَالتَّبْذِيرَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الشَّاكِرِينَ. اللَّهُمَّ أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَوَحِّدْ صُفُوفَنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَرْزَاقِنَا وَأَعْمَالِنَا، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ، غَيْرَ ضَالِّينَ وَلَا مُضِلِّينَ.
وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.