التشويق لأحكام وخصائص أيام التشريق
الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الهويمل
التشويق لأحكام وخصائص أيام التشريق
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا . أما بعد :-
فاتقوا اللهَ تعالى ، بفعل أوامره ، وبالبعد عن نواهيه ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ، واعلمُوا أَن أيامَ التشريقِ مِن أيامِ اللهِ الفاضِلة ، التي عَظَّمَ اللهُ شأنَها وذَكَرَها في كتابِه ، فقال جل وعلا : ( وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) ، فأحسنوا فيها العمل . وصحَّ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال : ( الأَيَّامُ المَعْدُودَاتُ : أَيَّامُ التَّشْرِيقِ ) .
وسُمِّيَت بأيَّام التشريق : لأنَّ الناس كانوا يُشَرِّقون فيها لحوم الأضاحي في الشمس حتى تجفَّ ولا يَدخلَ عليها العَفَن والفساد ، ويَظَلُّون يأكلون منها أيَّامًا عديدة ، إذ لم تكن عندهم ثلاجات تَحفظ لهم اللحم عن الفساد أيامًا وشهورًا ، كما هو الحال اليوم .
وأيَّام التشريق ثلاثةُ أيام : اليومُ الأول ، هو اليومُ الحادي عَشَر مِن شهر ذي الحِجَّة : ويُسَمَّى يومَ القَرّ ، لأن الحُجاجَ يَسْتَقرُّون فيه بِمِنى بَعْدَ أعمالِ يومِ النَّحْر .
واليومُ الثاني : هو يومُ الثاني عشر ، ويٌسمى يومَ النّفرِ الأوّل ، ويَجُوزُ النّفْرُ فيه لِمَنْ تَعَجّل . بعد أن يرمي ، لقوله تعالى : ( فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ) .
واليومُ الثالثُ : هو يومُ الثالثِ عشر ، ويُسَمَّى يومَ النَّفْرِ الثاني ، لِمَن أراد أن يَتَأخَّرَ مِن الحجيج . لقوله تعالى : ( وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىٰ ) .
وفي هذه الأيام أحكام :
الأول : أن الحجاج يبيتون لياليها في منى ، وهذا من واجبات الحج . الثاني : رمي الجمار في هذه الأيام ، فيرمي المتعجل يومين ، والمتأخر ثلاثة أيام ، قال تعالى : ( وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى ) .
الثالث : أنها أيام أكل وشرب ، روى مسلمٌ في صحيحه عن نبيشةَ الهذلي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى ) ، وعن أبي مُرَّة مولى أم هانئ رضي الله عنها ، أنّه دخل مع عبد الله بن عمرو على أبيه عمرو بن العاص رضي الله عنهم في أيام التشريق ، فقرّب لهما طعامًا ، فقال : كُلْ . فقال : إني صائم . فقال : كُلْ ، فهذه الأيام التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بإفطارها ، وينهانا عن صيامها . صحيح أبو داود . وهذا يدل على تحريم صيامها ، إلا لمن لم يجد الهدي من الحجاج ، لقول عائشة وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم : ( لم يُرَخَّص في أيام التشريق أن يُصَمْن إلا لمن لم يجد الهدي ) . صحيح البخاري . وأما غيرهم فلا يجوز لهم صيامها .
الرابع : التكبير والتحميد والتهليل في هذه الأيام ، فمِن السُّنَن في يوم عيد الأضحى وأيَّام التشريق الثلاثة تكبيرُ الله عزَّ وجلَّ : " الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر الله أكبر ، ولله الحمد " ، بعد السَّلام مِن صلاة الفريضة وهذا يسمى التكبير المقيد ، وفي سائر الأوقات مِن ليل أو نهار وهذا يسمى التكبير المطلق ، لثبوت ذلك عن السَلف الصالح مِن أهل القرون الأولى ، وعلى رأسهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد قال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه : ( وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ المَسْجِدِ ، فَيُكَبِّرُونَ وَيُكَبِّرُ أَهْلُ الأَسْوَاقِ حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا ) . ( وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ بِمِنًى تِلْكَ الأَيَّامَ ، وَخَلْفَ الصَّلَوَاتِ وَعَلَى فِرَاشِهِ وَفِي فُسْطَاطِهِ وَمَجْلِسِهِ ، وَمَمْشَاهُ تِلْكَ الأَيَّامَ جَمِيعًا ) .
الخامس : الذبح فإنه مستمر في هذه الأيام ، سواء للحاج أو غير الحاج . إلى غروب شمس اليوم الثالث عشر ، فمن لم يضحي من المسلمين ، ثم بدا له أن يضحي في اليوم الحادي عشر أو الثاني عشر أو الثالث عشر فله أَنْ يُضَحِّي مَا لَمْ تَغْرُبْ شَمسُ اليومِ الثالثِ عَشَر .. نفعني الله وإياكم بما سمعنا ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ؛ والعاقبة للمتقين ؛ ولا عدوان إلا على الظالمين ؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين ؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين ؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه واتباعه وسلم تسليماً كثيراً . أما بعد :-
فاتقوا الله - عباد الله - واذكُروا نِعمةَ الله عليكم إذ هيَّأَ لكم من مواسِم العُمر ونفائسِ الأيام ما يُمكن لكم أن تستثمروه بعبادةٍ عظيمة الأجر يسيرة الأداء .
فلنحرص عباد الله أن نكون جميعاً من الذين يقضون أوقاتهم بذكر ربهم ، وشُكره ، وطاعته في هذه الأيام المُباركة .
وتتضاعف الأُجور في هذه الأيام ؛ لأنها في الغالب أيام يغفل فيها الناس عن بعض العبادات ، والعبادة في أوقات الغفلة تكون أفضل من غيرها ، وذلك كمن يقوم بالليل والناس نيام ، فاشكروا ربكم - عباد الله - على أن أحياكم لإدراك هذه الأيام ، وتزودوا فيها من الصالحات ، واغتنموها بالطاعات .
وأفضل ما يتزودُ به المُسلم في هذه الأيام ؛ تقواه لربه ، لِقوله سُبحانه : ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ) ، وكذلك كثرة ذكر الله ، ولأهمية ذكر الله ، كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي به أصحابه ، ففي الحديث أن رجلاً قال : يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كَثُرَت عَلَيَّ فأخبرني بشيء أتشبث به . قال : ( لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله تعالى ) ، وشبه صلى الله عليه وسلم الذي يذكر الله بالحي ، والذي لا يذكر الله بالميت ، ففي صحيح البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت ) .
وأمّا ما يُسنُّ فيها من الأكل والشُرب ؛ فهو استعانة به على التزوّد من الخير والتقوى والعمل الصالح . وذَكَرَ أهلُ العلمِ أَنَّ فِي النَّهْيِ عن صيامِ هذِه الأيامِ سِرًّا حِسِّيًّا وهو : أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا عَلِمَ ما يُلاقِي الوافدون إلى بيتِه مِنْ مَشَاقِّ السَّفَرِ وتَعَبِ الإحرام ، وجِهادِ النُّفُوسِ على قَضاءِ المناسكِ ، شَرَعَ لهم الإقامةَ والراحةَ بِمِنى يومَ النَحْرِ وثلاثةَ أيامٍ بَعْدَه ، وأمَرَهُم بالأكلِ فيها مِنْ لُحُومِ الهدي والأضاحي ، فَهُمْ في ضِيافَةِ اللهِ تعالى لُطْفاً مِنَ اللهِ تعالى بِهِم ورَحْمَه . وشاركَهُم أيضاً أهْلُ الأمصارِ في ذلك ؛ لأنَّ أهل الأمصارِ شاركُوهُم في النَّصَبِ لله تعالى والاجتهادِ في عَشْرِ ذي الحِجَّةِ بالصومِ والذِّكْرِ والاجْتِهادِ في العبادات ، وفي التَقَرُّبِ إلى اللهِ بإراقةِ دِماءِ الأضاحي ، وفي حُصُولِ الْمَغْفِرَةِ ، فَاشْتَرَكَ الجميعُ في الراحةِ بالأكلِ والشُّرْبِ ، فَصارَ الْمُسلِمونَ كُلُّهم في ضِيافةِ اللهِ تعالى في هذه الأيام ، يأكلون مِنْ رِزقِهِ ويَشْكُرونَه على فضلِه .
واعلموا أن الاستغفار له فضل عظيم ، وقد أمر الله تعالى ختم العبادات بالاستغفار ، كالصلاة ، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا سلَّم من الصلاة استغفر ثلاثاً ، والحج كما قال تعالى : { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . والصدقة كما قال تعالى : { وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، وأن العبادة المختومة بالاستغفار أقرب إلى القبول . فأكثروا من ذكر الله جلَّ وعلا في هذه الأيام .. ثم صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ أَجْمَعِينَ وَرَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ ، اللهم صل وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين وأشرف الأنبياء والمرسلين نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين . اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ، وانصر عبادك المؤمنين ، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين . اللهم وفق إمامنا وولي عهده لما تحب وترضى ، وخذ بهم للبر والتقوى ، اللهم هيئ لهم البطانة الصالحة واصرف عنهم بطانة السوء ، واجمع بهم كلمة المسلمين على الحق والهدى يارب العالمين ، اللهم كن لهم على الحق معيناً ونصيراً ومؤيداً وظهيراً . اللهم احفظ جنودنا المرابطين على حدودنا . اللهم يسر للحجيج حجهم ، ووفقهم لإتمام نسكهم على الوجه الذي يرضيك ، اللهم اجعل حجهم مبروراً وسعيهم مشكوراً وذنبهم مغفوراً ، واحفظهم من كل مكروه ، اللهم ردهم إلى أهليهم وأوطانهم سالمين غانمين مقبولين يا ذا الجلال والإكرام ، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين ، اللهم احفظ لهذه البلاد دينها وأمنها وعزتها وعقيدتها وسيادتها ، اللهم احفظها مما يُكَادُ لها ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات . { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } . وأقم الصلاة .
( خطبة الجمعة 10/12/1446هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل للتواصل جوال و واتساب / 0504750883 ) .