الشائعات والغيبة في زمن الذكاء الاصطناعي.

أ.د عبدالله الطيار
1447/01/17 - 2025/07/12 10:14AM
الْحَمْدُ لِلَّهِ العَليِّ الأعْلى، يعْلمُ السِّرَّ والنَّجْوَى، ويَسْمَعُ الشُّكْرَ والشَّكْوَى، أحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ أَسْبَغَ علينَا نِعَمَهُ، وَغَمَرَنَا بِوَاسِعِ فَضْلِهِ، وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) النحل: [53] وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدُهُ ورَسُولُه، صَلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا، أمّا بَعْدُ: فاتّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وأطِيعُوهُ، واعلموا أنكم ملاقوهُ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) البقرة: [281].
أيُّهَا المؤمنونَ: لقد جَاءَتْ الشَّريعةُ الإسلاميةُ صَالحةً لكلِّ زمانٍ ومكانٍ مُرَاعِيَةً للمصالحِ والمفاسِدِ موافقةً للفِطَرِ والطَّبَائِعِ، حتَّى تُوُفِّيَ رسولُ اللهِ ﷺ ومَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ في السَّمَاءِ إلا ذَكَرَ للأُمَّةِ مِنْهُ عِلْمًا فَبيَّنَ مَدَاخِلَ الشَّيْطَان وَأَسْبَابَ الْفِتنِة.
عِبَادَ اللهِ: جَاءَ في السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ معاذِ بن جبلٍ رضيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: يا رسولَ اللَّهِ أخبرني بعمَلٍ يُدخِلُني الجنَّةَ ويباعِدُني منَ النَّارِ، فقالَ ﷺ :(لقد سألتَني عَن عظيمٍ، وإنَّهُ ليسيرٌ على من يسَّرَهُ اللَّهُ علَيهِ) ثم أخذَ النبيُّ ﷺ بلِسانِهِ فَقَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا، قَالَ مُعَاذٌ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وإنَّا لمؤَاخَذُونَ بِمَا نتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ ﷺ: (ثَكِلَتكَ أمُّكَ يا معاذُ، وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِم أو عَلَى مَناخرِهِم إلَّا حَصائدُ ألسنتِهِم) أخرجه الترمذي (2616) وابن ماجه (3224) وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2616).
أيها المؤمنون: إنَّ الغيبةَ والنميمةَ دَاءٌ عُضَالٌ، يُوغِرُ الصُّدُورَ، ويَشْحَنُ النُّفُوسَ، ويُفسِدُ المودَّةَ، ويَنْشُرُ الضَّغينةَ، ويُوَلِّدُ الأَحْقَادَ، ويُفَرِّقُ الشَّمْلَ، وقد فشَا هَذَا الدَّاءُ في مجَالِسِ الناسِ وتجمعاتِهِم وأسْوَاقِهِم، فَكَمْ هُتِكَتْ من أَسْتَارٍ، وفَشَتْ من أسْرَارٍ، ولُفِّقَتْ من أخْبَارٍ، ومِثْلُ هذه المجالسِ هي مَرْعَى اللِّئَام، ومَأْوَى أَكَلَةِ الجِيَفِ الحرامِ، يَشْترِكُ فيهَا القَائِلُ والسَّامِعُ، بَلْ والسَّاكِتُ، حَذّرَ منها ربنا بقوله:(وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) الحجرات:[12].
عِبَادَ اللهِ: والغِيبَةُ والنميمة علامَةٌ على فَسَادِ القلبِ، وضعفِ الدِّينِ، وقِلَّةِ الوَرَعِ، وسُوءِ الْعَاقِبَةِ، قالَ ﷺ: (لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ نَمّامٌ) أخرجه مسلم (105) وتكونُ بالقولِ والفِعْلِ والوصفِ والإشارَةِ والرَّمْزِ، والتَّعْرِيضِ والتَّلْمِيحِ، وكلُّ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ انتقاصُ الغَيْرِ، وتكونُ باليدِ واللِّسَانِ والعينِ والإِصْبَع، غَمْزًا وَهَمْزًا وَلَمْزًا، قالَ تعالى: (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ) الهمزة: [ 1] وقال ﷺ: (المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسَانِهِ ويَدِهِ) أخرجه البخاري (10)
أيها المؤمنون: ومن صورِ الغيبةِ باليدِ: كتابةُ رسالَةٍ فيها انتقاصٌ لمسلِمٍ، أو نقلُ خبرٍ دون تـأكّدٍ، أو تمريرُ مقطعٍ دونَ تَرَوٍّ وتَثَبُّتٍ بِضَغْطَةِ زِرٍّ، وَلَمْسَةِ إِصْبَعٍ، فتبلغُ الآفاقَ، وتَصِلُ لجميعِ الأعراقِ، فَيَحْتَدِمُ خَطَرُهَا ويَتَضَاعَفُ وِزْرُهَا وَيَسْتَحِيلُ اسْترْدَادُهَا لتكونَ وَبَالًا على صَاحِبِهَا في الدُّنْيَا والآَخِرَةِ.
أيها المؤمنون: وكمَا حَذَّرَت الشَّرِيعَة الإِسْلامِيَّةِ مِنَ الْغِيبَةِ والنَّمِيمَةِ، بِاعْتِبَارِهِمَا آَفَة مِنْ آَفَاتِ اللِّسَانِ، حَذَّرَتْ كَذَلِكَ مِنَ الْكَذِبِ، وَهُوَ أَشَرُّ آَفَاتِ اللِّسَانِ، قال تعالى: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) النحل: [105] وإنَّ أشَرَّ الكذِبِ وأَقْوَاهُ، وَأَخْبَثَهُ وَأَعْتَاهُ: الْكَذِبُ المغَلَُّف بِالْعِبَارَاتِ الْبَرَّاقَةِ، والأَسَالِيبِ المُشَوِّقَةِ، والَّذِي يَتَرَدَّد صَدَاهُ عَبْرَ الْقَنَوَاتِ الإِعْلامِيَّةِ، وَالمِنَصَّاتِ الإِخْبَارِيَّةِ، تَلْفَظُهُ أبْوَاقٌ مَأْجُورَةٌ، وَتَبُثُّهُ أَقْلامٌ مَسْمُومَةٌ؛ لِيَنْخَرَ في جَسَدِ الأُمَّةِ، وَيَفُتَّ في عَضُدِهَا، وَيَشُقَّ عَصَا اجْتِمَاعِهَا، وَيُؤَلِّبَ بَيْنَ أَفْرَادِهَا، وَيُسَهِّلَ مهَمَّةَ عَدُوِّهَا، قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) الحجرات [6].
أَيُّهَا المؤْمِنُونَ: إنَّ الشَّائِعَاتِ في زَمَانِنَا، سِلاحٌ فَتَّاك لا يُخْطِئُ مَرْمَاهُ، وَدَاءٌ عضَالٌ لا نَجَاةَ مِنْ بَلْوَاهُ، حَذَّرَ مِنْهَا رَبُّنَا بِقَوْلِهِ: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) النور: [19] وَأَمَرَ نبينا ﷺ بِوَأْدِهَا في مَهْدِهَا، وَعَدَم الاسْتِرْسَالِ مَعَهَا بِقَوْلِهِ: (إيّاكُمْ والظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَديثِ) أخرجه مسلم(2563)
عباد الله: ومعَ التَّقَدُّم التُّكْنُولُوجِيّ، والتَّطَوّر التّقَنِي، أَصْبَحَت الشَّائِعَات أَكْثَرَ فَتْكًا، وَأَكْبَر أَثَرًا، بِاسْتِخْدَامِ الذَّكَاءِ الاصْطِنَاعِيّ، فَتَرَى مَقَاطِعَ لأَشْخَاصٍ أَحْيَاء، وَرُبَّمَا أَمْوَات، يَتَكَلَّمُونَ وَيَتَحَرَّكُونَ، يَتكلمونَ بِمَا تُرِيد، وَيَفْعَلُونَ مَا تَشَاء، تُحَرِّكُهُم جُلُوسًا وَقِيَامًا بِمَشَاهِدَ لا تشكّ أنَّهَا وَاقِعِيَّة، وَأَحْدَاث لا رَيْبَ أَنَّها حَقِيقِيَّة، والصَّوَاب أَنَّها مَشَاهِدٌ افْتراضِيَّة بِتِقَنِيَّاتٍ مُتَطَوِّرَة، جَعَلَتْ مِنَ الشَّائِعَاتِ حَقَائِقَ لا مِرَاءَ فِيهَا.
أيُّهَا المؤمنونَ: ومَعَ هَذِهِ التِّقَنِيَّاتِ المتَطَوِّرَةِ، أَصْبَحَ لِزَامًا عَلَى المُسْلِمِ أَنْ يَتَثَبَّتَ مِنْ كُلِّ مَا يَسْمَع أَوْ يَرَى، فَالأَصْوَات وَالْهَيْئَات والأَشْخَاص والأَشْكَال أَصْبَحَتْ كُلّهَا مُتَاحَة لِلتَّغْيِيرِ، خَاضِعَةً لِلتَّعْدِيلِ، فَإِذَا وَصَلَتْكَ فَتْوى مثلا صوتيَّةً أَوْ مَرْئِيَّةً لِعَالِمٍ، تَرَاهَا بِعَيْنِكَ وَتَسْمَعهَا بِأُذُنِكَ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْكَ التَّأَكُّد مِنْ صِحَّتِهَا، والتَّثَبُّت مِنْ حَقِيقَتِهَا.
أَعُوذُ باللهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأنعام: 76]. بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكْرِ الحكيمِ، فاستغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية: الحمدُ للهِ على إحسانِهِ، والشكرُ له على فضلهِ وامتنانِهِ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا أمَّا بــــــعــــــــــدُ: فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ واعلمُوا أنّ داء الغِِيبَةَ، والشائعات، يَتَضَاعَفُ خَطَرُهَا بحسب حالِ مَن وَقَعَتْ عليهِ، فغِيبَةُ أهلِ العِلْمِ، وإثارة الشائعات حولهم، ليست كغِيبَةِ غيرِهِم، فلحُومُهُمْ مَسْمُومَةٌ، وسُنَّةُ اللهِ في هَتْكِ أستارِ مُنْتَقِصِيهِمْ مَعْلُومَةٌ، وتَنَاوُلُ أعراضِهِم مَرْتَعٌ وَخِيمٌ والافتراءُ عليهِم خُلُقٌ ذَمِيمٌ، يترتبُ عليهِ إِسْقَاطُ هَيْبَتِهِمْ في النُّفُوسِ، وَإِضْعَافُ مَكَانَتِهِمْ في القُلُوبِ، وضَيَاعُ إِرْثِ النُّبُوَّةِ، وَغِيابُ دَوْرِهِم العِلْمِيّ والتّرْبَوِي، فَإِذا غَابَ دَوْرُ الْعَالِمِ، عَمَّ الجهلُ، واسْتَشْرَى المرضُ، وَضُيِّعَت الأمانةُ. وغِيبَةُ ولاةِ الأمرِ، أَدْهَى وَأَمَرُّ، وَأَخْطَرُ وَأَشَرُّ؛ لِمَا لَها مِنْ أَثَرٍ فِي شَقِّ الصَّفِّ، وانْتِقَاصِ الْقَدْرِ، وزَعْزَعَةِ الثِّقَةِ، وتَأْلِيبِ النُّفُوسِ، واضْطِرَابِ الأُمُورِ، وما يجُرُّ إليهِ ذلكَ مِنْ إِضْعَافِ أَمْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ فِي النُّفُوسِ، ومِنْ ثَمَّ تَسُودُ الْفَوْضَى، وَتَعُمُّ الْبَلْوَى وَتَقَعُ الْفِتَنُ، وتَحْتَدِمُ المِحَنُ، ولا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا باللهِ. أَسْأَلُ اللهَ عزّ وجلّ أَنْ يَحْفَظَ أَلْسِنَتَنَا مِنَ الغِيبَةِ، وَيُطَهِّرَ مَجَالِسَنَا مِنَ النَّمِيمَةِ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ. اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الْحَرَمَيْنِ الشريفينِ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ عُلَمَاءَنَا، وَوُلاةَ أَمْرِنَا، وَجنودنا، والمُرَابِطِينَ عَلَى حُدُودِنَا، اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَاجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
الجمعة 16 /1 /1447هـ
المشاهدات 53 | التعليقات 0