الطفلُ الضخمُ
د. سلطان بن حباب الجعيد
الطفلُ الضخمُ
الحمدُ للهِ حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا كما يُحبُّ ربُّنا ويَرضى، الحمدُ للهِ عالِمِ السِّرِّ وأخفى، الذي خلَقَ فسوَّى، وقدَّرَ فهدى، وأخرَجَ المرعى، فجعَلَه غُثاءً أَحوى.
والصلاةُ والسلامُ على النبيِّ المُصطفى، والخليلِ المُجتبى، ومَن سارَ على نَهجِه واقتَفَى، صلاةً وسلامًا بعددِ نجومِ السماءِ، وحبّاتِ الثرى.
أيُّها الناسُ، من أرادَ الفَرَجَ من كلِّ ضيقٍ، والرِّزقَ الوفيرَ، فعليهِ بتقوى اللهِ، كما وعدَ اللهُ بذلك في قولِه تعالى:
﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا وَيَرزُقهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ﴾ [الطلاق: ٢-٣].
وبعد أيها الإخوةُ الكرام: في عالمِ الزِّراعةِ يُعَدُّ تأخُّرُ النُّضجِ عن أوانِهِ من المشكلاتِ التي تَستدعي سرعةَ المعالجةِ والحلِّ، حتّى لا تَغيبَ الثمرةُ، ويَفسدَ الزَّرعُ، فيذهبَ الجُهدُ سُدًى، ويُمسي لا طائلَ منه.
فما حاجةُ الزُّرّاعِ في شجرٍ لا ثمرَ فيه؟
وياليتَنا في عالمِنا الاجتماعيِّ نَنقُلُ حِسَّ الزُّرّاعِ هذا إلينا، فنحنُ أيضًا نُعاني من ذاتِ المشكلةِ، وهي تأخُّرُ النُّضجِ في السلوكِ والتصرّفاتِ.
فهناك مجموعةٌ غيرُ قليلةٍ من الرجالِ الذين تخطّى الواحدُ منهم الثلاثينَ والأربعينَ والخمسينَ، وربّما أكثرَ، ولم يتخلَّص بعدُ من مراحِلِه العُمريّةِ الأولى، ولا يزال يتصرّفُ بطريقةٍ صِبْيانيّةٍ، ممّا أفرزَ ما يمكنُ أن نُسمِّيَه بظاهرةِ «الطِّفلِ الضَّخمِ».
وهو الرجلُ عديمُ المسؤوليّةِ، المُحبُّ للَّهوِ واللعبِ، الكارهُ لكلِّ شيءٍ جادٍّ وجِدّيٍّ ينتزعُه من لحظتِهِ الحاضرةِ، المُنْكَبُّ على اللذائذِ والمُتَعِ، قصيرُ النَّظرِ غيرُ مُدرِكٍ للعواقبِ، يُحبُّ حيازةَ الأشياءِ لنفسِهِ، والاستئثارَ بكلِّ شيءٍ دونَ الآخرينَ، سريعُ الانفعالِ والضجرِ والمَلَلِ، كثيرُ الخُصوماتِ والمشاكلِ مع مَن حولَه.
وكذلك هو الرجلُ هشُّ الثقافةِ، ضعيفُ المنطقِ والحجّةِ، مُستباحُ العقلِ، سريعُ التأثُّرِ، مهزوزُ الثقةِ بنفسِهِ، كثيرُ الخوفِ والقلقِ.
وهذا كلُّه مَرجِعُه إلى أسبابٍ يجبُ البحثُ عنها ومعالجتُها.
ومن ذلك: سُوءُ التربيةِ؛ فالأُسَرُ عندما تُفرِطُ في التدليلِ، وتكفي الابنَ كلَّ شيءٍ، وتُوفِّرُ له كلَّ شيءٍ، وتُبعِدُه عن تولّي المهامِّ والمسؤوليّاتِ، وتُسارِعُ بحلِّ مشاكِلِه التي يقعُ فيها، وتُعزِّزُ فيه شعورَه بالتفرّدِ والتميّزِ على مَن حولَه دون مبرِّرٍ، وتَنتصِرُ له في كلِّ خُصوماتِه مع أقرانِه، وتَعتقِدُ أنّه دائمًا على حقٍّ؛ فإنّها بذلك تَصنعُ طفلًا ضخمًا لا رجلًا جَلْدًا.
ومن ذلك: رَبطُ الناسِ في أزمانِنا هذه النُّضجَ بسِنٍّ معيّنةٍ، وغالبًا تكونُ هذه السِّنُّ متأخّرةً كالأربعينَ وما بعدها، ولا يَحقُّ قبلَها للشابِّ عندهم أن يُبادِرَ، أو يتحدَّثَ، أو يُدليَ برأيِه، أو يُشارِكَ في عملٍ عظيمٍ؛ فهو لا يزالُ صغيرًا، وهناك مَن هو أحقُّ منه بذلك من كبارِ السّنِّ.
فلا يَكتفونَ بمثلِ هذا بتنشئته تنشئةً خاطئةً كما مَرَّ، بل ويقمعون ويَئِدون كلَّ بادرةٍ للنُّضجِ والمسؤوليّةِ.
إنَّ المجتمعاتِ التي يتأخَّرُ فيها النُّضجُ، مجتمعاتٌ مُترهِّلةٌ، غيرُ مُرشَّحةٍ للتوثُّبِ والنهوضِ والإبداعِ والابتكارِ والمنافسةِ، يقودُها الشيوخُ، ويغيبُ عنها الشبابُ بطاقتِهم وحماسِهم وتضحيتِهم وعقولِهم المتَّقدةِ.
وغيابُ الشبابِ في هذه المجتمعاتِ، ليس غيابَ حقيقتِهم، بل دورِهم وفاعليّتِهم، وإلّا فهم موجودون كأطفالٍ في مِسْلاخِ رجالٍ.
وإنَّه لَيُعييكَ البحثُ في كثيرٍ من الاجتماعاتِ والتجمُّعاتِ عن رجلِ الموقفِ إذا استدعى الأمرُ ذلك، المتَّسمِ بالحكمةِ وحُسنِ التصرّفِ وبُعدِ النَّظرِ، فلا تَكادُ تَجِدُ.
وإنَّك لتَغشى المجالسَ العامّةَ أو قاعاتِ الدرسِ التي تَغُصُّ بالشبابِ، فلا تَكادُ تَجدُ مَن يُحسِنُ الحديثَ أو التعبيرَ عن قناعاتِه بثقةٍ واقتدارٍ، فضلًا عن أن يَضطَلِعَ بمهمّةٍ ذاتِ شأنٍ.
بخلافِ المجتمعاتِ الصحيّةِ، فإنَّ من أبرزِ خصائصِها سرعةُ النُّضجِ فيها؛ لأنَّ النشءَ قد رُبِّيَ على المسؤوليّةِ وتحمُّلِ المشاقِّ والمهامِّ، وعلى الجديّةِ والجَلَدِ والصبرِ، وهذا ما يجعلُها مُرشَّحةً للتصدُّرِ والوَثوبِ والتقدُّمِ والنهوضِ.
وهو ما حصَلَ في صدرِ هذه الأمّةِ، عندما تَقَدَّمَ الشبابُ في كافّةِ المجالاتِ إلى الصَّدارةِ، فقادوها إلى الذِّروةِ العُليا من المجدِ.
في قصّةِ إسلامِ سعدِ بنِ مُعاذٍ رضي الله عنه – التي رواها عامّةُ أهلِ السِّيرِ – وقفَ خطيبًا في قومِه فقال: «يا بني عبدِ الأشهلِ، كيفَ تعلمونَ أمري فيكم؟» قالوا: سيّدُنا وابنُ سيّدِنا، وأفضلُنا رأيًا، وأيمنُنا نقيبةً. قال: «فإنَّ كلامَ رجالِكم ونسائِكم عليَّ حرامٌ، حتى تؤمنوا بالله ورسولِه». فما بقيَ رجلٌ ولا امرأةٌ من قومِه إلّا مسلمًا أو مسلمةً.
لو أردنا أن نضعَ لسعدٍ رضي الله عنه عمرًا – وفقَ معاييرِنا اليومَ في النُّضجِ – يتناسبُ مع هذا الموقفِ، فلن يقلَّ هذا العمرُ الذي نضعُه عن الخمسينَ، غيرَ أنَّ سعدًا كان وقتَها في الثلاثينَ من عمرِه!
أسماءٌ عظيمةٌ أُخرى في التاريخِ قامت بأعمالٍ هي الأُخرى عظيمةٌ، وفي أعمارٍ صغيرةٍ:
أسامةُ بنُ زيدٍ رضي الله عنه يقودُ الجيشَ بأمرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو في سنِّ السادسةِ عشرةَ.
وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، الخليفةُ الذي ملأ الأرضَ عدلًا، ماتَ وهو في الأربعينَ من عمرِه.
وأبو العبّاسِ السَّفّاحُ، أوّلُ خليفةٍ للدولةِ العبّاسيّةِ وأحدُ مؤسِّسيها، ماتَ وعمرُه ستٌّ وثلاثونَ سنةً.
وعبدُ الرحمنِ الداخلُ، مؤسِّسُ الدولةِ الأُمويّةِ في الأندلسِ، فعَلَ ذلك وعمرُه خمسٌ وعشرونَ سنةً.
والإمامُ الشافعيُّ، تصدَّرَ للإفتاءِ وهو في سنِّ الخامسةَ عشرةَ، ثم صمَدَ للتأليفِ فكتبَ كُتبًا ضَبَطَ بها منهجيّةَ التفكيرِ الفقهيِّ إلى يومِنا هذا، ووضعَ بها أساسًا لمذهبٍ يتبعه رُبعُ المسلمينَ اليومَ، وانتهت حياتُه بعد كلِّ هذا الإنجازِ العلميِّ العظيمِ وعمرُه أربعٌ وخمسونَ سنةً.
ولو ذهبتَ تُقلِّبُ في صفحاتِ تاريخِنا العلميِّ والسياسيِّ والحضاريِّ، لَوَجَدْتَ أسماءً كثيرةً لامعةً أمثالَ هؤلاء، وكأنَّك إذا قرأتَ سيرتَهم، يَنعون إليكَ أقرانَهم في زمنِنا هذا، الذين لا يُحسِنُ أحدُهم – إلّا قليلًا منهم – فِعلَ أمرٍ ذي بالٍ، يليقُ بحياةِ الرجالِ الحقيقيّين، وإلى الله المُشتكى.
أقولُ قولي هذا…
الثانية:
وبعد:
أيُّها الإخوةُ الكرامُ، يجبُ أن يُعلَمَ أنَّ المواهبَ والقدراتِ في الأبناءِ والمتربّينَ عمومًا تحتاجُ إلى عنايةٍ ورعايةٍ، وإلّا بقيت حبيسةً دونَ انطلاقٍ.
فكما أنَّ الطفلَ إذا لم يَخضعْ للتدريبِ على مهارةِ القراءةِ والكتابةِ، بقي أُمّيًّا طولَ حياتِه، فكذلك الحالُ في سائرِ مواهبِه، إن لم تَخضعْ للتدريبِ، بقي فيها أُمّيًّا طولَ حياتِه.
فلابدَّ من أن يَنخرطوا في برامجَ جادّةٍ، وبيئاتٍ خَبيرةٍ، تكتشفُ مواهبَهم، وتُنَمّيها وتُطوّرُها في كافّةِ المجالاتِ، حتّى نُفلحَ في أن نَدفعَ للمجتمعِ من شبابِنا بالقائدِ الفذِّ، والإداريِّ المُحنَّكِ، والخطيبِ المُفوَّهِ، والعالِمِ المُبدِعِ، والمفكّرِ الأَلْمَعيِّ.
فإذا كثُرَت أعدادُ هؤلاء، كُنَّا مُرشَّحينَ – مُجدّدًا – للعودةِ للمنافسةِ والصَّدارةِ من جديدٍ.
أنتَ ما يُدريك لو راعيتَهُ
رُبَّما قدَّمتَ بَدْرًا نَيِّرَا
رُبَّما قدَّمتَ سَعْدًا ثابتًا
يَحكمُ القولَ ويَرْقَى المنبرَا
رُبَّما أيقظتَ منهم خالدًا
يَدخُلُ الغيلَ على أُسْدِ الشَّرَى
كم طوى البُؤسُ نُفوسًا لو رُعِتْ
مَنبَتًا خَصْبًا لكانت جَوهرَا
كم قضى (الإهمالُ) على موهبةٍ
فتوارَتْ تحت أطباقِ الثرَى
إنَّما تُحمَدُ عُقبى أمرِهِ
مَن لأُخراهُ بدُنياهُ اشترَى
وإنْ لم تتظافرِ الجهودُ في علاجِ هذه الظاهرةِ، سواءٌ بإيقافِ أسبابِها، أو صناعةِ حلولِها، تَفاقمتْ وتجذَّرتْ، ولم نُنتِجْ للمجتمعِ إلّا أطفالًا يَكبرون، فتكبُرُ معهم ألعابُهم وحاجاتُهم ليس أكثرَ، لتستحيلَ إلى زوجةٍ وفيلَّا وسيّارةٍ، فلا يزالُ يَعبَثُ بأشيائِه وحاجاتِه، فإذا ما مَلَّ تركَها خلفَ ظهرِه غيرَ آبهٍ بأحدٍ، ليَطلُبَ الجديدَ والمزيدَ!
اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ…
المرفقات
1761227967_الطفل الضخم ( وورد).docx
1761227967_الطفل الضخم ( PDF).pdf