الظلم مآله الهلاك.. فهل من معتبر؟
د مراد باخريصة
الخطبة الأولى
الحمد لله العدلِ الحكيم، المنتقمِ من الجبارين، القاهرِ للظالمين، أحمده سبحانه وأشكره على عدله وحكمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الظلم ظلمات يوم القيامة، وأن عاقبته وخيمة في الدنيا قبل الآخرة.
أيها المؤمنون: لقد تواترت نصوص الوحيين في التحذير من الظلم، وتحريم كل صوره، صغيرها وكبيرها، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ [إبراهيم: 42]، وقال عز َّوجلَّ في الحديث القدسي: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا" [رواه مسلم].
ونزه سبحانه وتعالى نفسه عن الظلم فقال: ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ﴾ [غافر: 31].
وقال عليه الصلاة والسلام: "اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" [رواه مسلم]، وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته"، ثم قرأ: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: 102].
أيها المسلمون، لقد رأينا اليوم في عالمنا المعاصر شواهد عظيمة لعاقبة الظلم، ليس من خلال كتب التاريخ فحسب، بل بأعيننا وواقعنا الذي نعيشه:
فكم من طاغيةٍ ظن أن جبروته باقٍ، وأن حكمه دائم، فإذا به ينهار في لحظة، ويُقلب له ظهر المجن، ويُذل على أيدي من كان يظنهم أضعف الناس.
انظروا إلى ما حلّ بروسيا، التي تباهت بسحق الشعوب وقتل الأبرياء في سوريا، فإذا بها تُحاصر في أوكرانيا، وتُضرب في قلب دارها، وتنزف على حدودها، وتطلب السلام من دول كانت بالأمس تستصغرها.
وانظروا إلى "حزب اللات"، الذي عاث في الأرض فسادًا، يقتل ويهدم ويشرّد، فإذا بقادته يتساقطون، ويتوارون في صمت وذل، بعد أن كان إعلامهم يفاخر بالقتل والدمار.
وذاك النظام النصيري الذي طغى وبغى، ظن أن ملكه خالد، وسلطانه دائم، فإذا بأركانه تتهاوى، وجيشه يتآكل، وقصره يُقصف، وسنّة الله في الظالمين تتحقق فيه عيانًا.
وها هو وعد الله يتحقق: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَـٰفِلًا عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّـٰلِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلْأَبْصَـٰرُ﴾ [إبراهيم: 42].
وها هي أمريكا التي عتت وطغت، وأسالت الدماء، تُستنزف اقتصاديًّا، وتعاني داخليًا، ويظهر على وجهها الذبول، وتفقد هيبتها يومًا بعد يوم.
وها هي إيران، التي تآمرت على أهل السنة وأشعلت الفتن في كثير من بلاد المسلمين، تضرب في عمق عاصمتها، ويُذل قادتها في وضح النهار.
وإسرائيل، التي طالما عتت وتجبّرت، تُقصف عاصمتها، وتعيش مغتصباتها في خوف وهلع،
وصدق الله إذ قال: ﴿ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا* فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا﴾ [الإسراء: 4-6].
فبشِّر الظالم بالقصاص، وبشِّر المستكبر بالذل، وبشِّر المجرم بالهلاك، فاعتبروا يا عباد الله، فليس بين الله وبين أحد من عباده نسب، وسنن الله لا تحابي أحدًا، ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الشورى: 42].
عباد الله:
ما هذه الأحداث المتسارعة إلا مقدماتٌ لوعد الله القريب، وتمكينه لعباده المستضعفين.
فيا من ظلمت شريكك، أو زوجك، أو عاملًا عندك، أو جارًا لك... اتق الله في نفسك! فالظلم لا يُمحى بالتقادم، وإن كان الله يُمهِل، فإنه لا يُهمِل، وقد قال رسول الله ﷺ:
"من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء، فليتحلل منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له، أُخذ من سيئات المظلوم فطرحت عليه" [ رواه البخاري].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم...
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ولي الصالحين، المنتقم من الطغاة والظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
عباد الله: لا يغترّن أحدٌ بمهلة الله للظالم، فإنما هي استدراج. يقول الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَـٰفِلًۭا عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّـٰلِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍۢ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلْأَبْصَـٰرُ} [إبراهيم: 42].
لقد طال ليل المظلومين في سوريا وفلسطين واليمن وغيرها، لكن الليل لا يدوم، وسنن الله قادمة، وها هي بشائرها تلوح في الأفق، فتساقط الظالمين، وتغير الموازين واختلال القوى، وبروز مظاهر التصدع بين حلفاء الأمس، كل ذلك يدل على أن موعد الانتصار قريب، وأن وعد الله آت لا محالة.
واعلموا عباد الله، أن عاقبة الظلم ليست حكرًا على الدول، بل تشمل الأفراد أيضًا، فمن ظلم زوجه أو ولده، أو شريكه أو جاره، فإن الله له بالمرصاد.
يقول الرسول ﷺ:"اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم" [رواه مسلم].
فلنحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، ولنكن أنصارًا للحق، وأنصارًا للمظلومين، ولا نركن إلى الظالمين، فتصيبنا التي أصابتهم، {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود : 113]، {وَسَيَعْلَمُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓا أَىَّ مُنقَلَبٍۢ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227].
هذا وصلوا وسلموا على من بُعث رحمة للعالمين، فقد أمركم الله بذلك في محكم كتابه، فقال: {إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىِّ ۚ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ صَلُّوا۟ عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا۟ تَسْلِيمًا}.
المرفقات
1752406908_الظلم مآله الهلاك فهل من معتبر؟.doc