القناعة كنز لا يفنى

عبدالرحمن سليمان المصري
1447/03/05 - 2025/08/28 17:01PM

القناعة كنز لا يفنى

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي شرح صدور المؤمنين للطاعة، و وفق أولياءه للرضا والتسليم والقناعة ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا ، أما بعد أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى فهي وصية الله للأولين والآخرين قال تعالى ﴿ ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله ﴾

عباد الله: إن من سنة الله تعالى في هذا الكون، أن جعل الدنيا دار ابتلاء وامتحان، مليئة بالمصائب والمتاعب، دائمة التغير والتحول ، لا تثبت على حال ، ولا تدوم على شأن ، دار شقاء وعناء ، ﴿ ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ﴾ .

ولو تأمل العبد من حوله من الناس ، لما وجد فيها أحدا سالما من المصائب والمحن ، ترى هذا يشكو من أمراضه وعلله ، وهذا يشكو من قلة ذات يده ، وهذا يشكوا من خسارة تجارته، وآخر مصاب بعقوق أولاده وفساد ذريته، وهذا مبتلى بسوء خلق زوجته ، وذاك فقير يشكو سوء حالته ، وهذا يتعب ولا يدرك مناه ، وهذا يشقى ولا يدرك مبتغاه ، فالدنيا دار فتن وشرور ، وهي قنطرة لدار الأفراح والسرور ، ﴿ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ﴾ .

وكان السلف أعرف الناس بالدنيا ، فلم يغتروا بها وبزخرفها ، ولم يطلبوا منها المزيد ، بل قنعوا منها بالكفاف ، وأخذوا منها بغير إسراف ، ممتثلين وصية نبيهم صلى الله عليه وسلم " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"  رواه البخاري .

عباد الله : وإن من الأخلاق العظيمة والآداب الجليلة ، خلق القناعة ، وهي الرضا بما قسمه الله ، والبعد عن التسخط والشكوى ، والاستغناء بالموجود ، وترك التشوف إلى المفقود ، و الاستغناء بالحلال عن الحرام ، والاقتصاد وعدم الإسراف والتبذير ، فالقناعة كنز لا يفنى ، من حظي بها ، نال السعادة ، وطمأنينة النفس، وانشراح الصدر، وذهاب الهموم والكدر ، وهي لا تتعارض مع فعل الأسباب ، بالسعي في الأرض لطلب الرزق بالأسباب المباحة ، حتى يستغني العبد عما في أيدي الناس .

وإن فشت القناعة في الناس ،  زالت منهم أغلب الضغائن والأحقاد والحسد ، فإن أغلبها التنافس على الدنيا ، قال صلى الله عليه وسلم:" والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، وتهلككم كما أهلكتهم" متفق عليه.

عباد الله : والقناعة تكون للغني بأن يكون راضيا شاكرا، لا جاحدا ظالما، وأن لا تلج أمواله إلى قلبه حتى يصبح عبدا لها ، فلا يغش في تجارته، ولا يمنع حقوق عماله ، ولا زكاة ماله .

وقناعة الفقير أن يكون عفيفا راضيا بقسمة ربه ، لا ساخطا ولا شاكيا ، ولا غاضبا على رازقه ، ولا يتطلع إلى ما في أيدي الآخرين .

عباد الله: وإن من ثمار القناعة ؛ أنها طريق إلى الحياة الطيبة المطمئنة ، ﴿ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهم ا : الحياة الطيبة هي القناعة .أ.ه.

وهي طريق للسعادة والفلاح ؛ قال صلى الله عليه وسلم: " قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه " رواه مسلم.

 وقال صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا" رواه الترمذي وحسنه الألباني.

وهي سبيل شكر المنعم، فالقانع يشكر الله في كل أحواله، ومن تقال النعم ، قل شكره وثناؤه ، قال صلى الله عليه وسلم: " كن ورعا  تكن أعبد الناس ، وكن قنعا تكن أشكر الناس "  رواه ابن ماجة وصححه الألباني.

وهي تورث الغنى ، فالغنى الحقيقي غنى القلب ؛ قال صلى الله عليه وسلم : " إنما الغنى غنى القلب ، والفقر فقر القلب " رواه ابن حبان  وصححه الألباني.

وقال صلى الله عليه وسلم: " ليس الغنى عن كثرة العرض ، ولكن الغنى غنى النفس" رواه البخاري .

وقال صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة :" اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك ؛ تكن أغنى الناس " رواه الترمذي وحسنه الألباني.

وتلك حقيقة لا مرية فيها؛ فكم من غني عنده من المال ما يكفيه وذريته من بعده ، ولو عمر ألف عام ، يخاطر بدينه وصحته ، يريد المزيد!

وكم من فقير يرى أنه أغنى الناس؛ وهو لا يجد قوت غده!

قال صلى الله عليه وسلم " ‌لو ‌كان ‌لابن ‌آدم ‌واديان من مال ؛ لابتغى ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب،  ويتوب الله على من تاب " رواه البخاري .

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.        

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، وسلم تسليما كثيرا  ،       أما بعد :

عباد الله : إن من أسباب تحصيل القناعة ، اليقين الجازم  بأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ، وأنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها ، قال صلى الله عليه وسلم:" إن أحدكم ‌يجمع ‌خلقه ‌في ‌بطن ‌أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد " رواه البخاري.

وقال صلى الله عليه وسلم :" لو أن ابن آدم ، هرب من رزقه كما يهرب من الموت ؛ لأدركه رزقه كما يدركه الموت" حسنه الألباني في صحيح الجامع.

عباد الله: ومن أقوى سبل تحصيل القناعة ، النظر إلى حال من هو أقل منك في أمور الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم :" ‌انظروا ‌إلى ‌من ‌أسفل ‌منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم ، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم " رواه مسلم.

وأما في أمور الدين ؛ فلينظر إلى من هو أعلى منه ، وليسابق ولينافس في ذلك ؛ فإنه سباق محمود يحبه الله ويرضاه ، قال تعالى:﴿سابقوا إلى مغفرة من ربكم ﴾، وقال ﴿ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ﴾

عباد الله : وإن من أسباب تحصيل القناعة ؛ الاقتصاد في الإنفاق وعدم الإسراف والتبذير ، ﴿ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ﴾ ، والعلم بأن الفقر والغنى ابتلاء وامتحان ، ﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ﴾ ،

عباد الله : إن من ينظر إلى واقع الناس اليوم ، ليجد أكثرهم يلهث وراء سراب الدنيا ، والاستكثار من لذاتها ، والتنافس في شهواتها ، والمسارعة إلى التباهي بما فيها من الأموال والقصور ، والتكالب على الجاه والمناصب والظهور ، يبحثون عن المزيد ، ولا يتفكرون في معاد ، ويهيمون في كل واد ، وهذا هو حقيقة الانغماس في الدنيا ، والغفلة عن الآخرة ، قال تعالى: ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ﴾.

هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ، فقال تعالى: ﴿ إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما﴾

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .

 

المرفقات

1756389682_القناعة كنز لا يفنى خطبة 3.docx

1756389683_القناعة كنز لا يفنى خطبة 3.pdf

المشاهدات 221 | التعليقات 0