المسجد الذي أمر رسول الله بإحراقه وهدمه

المسجد الذي أمر رسول الله بإحراقه وهدمه

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، والشكر له على ما أولانا من واسع فضله وجوده وكرمه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، هدى من هدى بفضله ومنه وكرمه ، وأضل من أضل بحكمته وعدله ، و أشهد أن محمدا عبد الله ورسوله المصطفى من جميع خلقه ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ، أمَّا بعدُ :-

فاتقوا الله حق التقوى ، وراقبوه في السر والنجوى ، فإن الله يعلم السر وأخفى .

عبادَ الله : المساجدُ بيوتُ اللهِ في أرضهِ ، وأحبُّ البلادِ إليه وأشرفُها منزلةً ، رَوَىَ الإِمامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ مِنْ حَديِثِ أَبيِ هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ تَعالَىَ عَنْهُ قالَ : قالَ رَسوُلُ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « أَحَبُّ البِلادِ إلى اللهِ مَساجِدُها » رواه مسلم . وَقَدْ شَرَّفَها اللهُ تَعالَىَ وَرَفَعَ مَنْزِلَتَها فَأَضافَ هَذِهِ البُيوُتَ وَهَذِهِ المساجِدُ إِلَيْهِ إِكْرامًا وَتَشْريِفًا ، قَالَ اللهُ تَعالَىَ : ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ [التَّوْبَةِ: 18] . فَأَثْنَى سُبْحَانَهُ عَلَى عُمَّارِ الْمَسَاجِدِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ . وإن من أعظم أنواع عمارة المساجد عمارتها بالتوحيد وتنزيهها عن الشرك ، وعمارتها بالسنة وتنزيهها عن كل بدعة ، وَالْمُخْلِصُ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ يُجْزَى بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ كَمَا فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ " ، وَفِي رِوَايَةٍ : " بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ " (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ) . فلا بد أن تكون نيته خالصة لوجه الله : ( يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ ) .

عباد الله : المساجد دُوْر صلاح وإصلاح ، وهداية وإرشاد ، وتعليم ودعوة ، ومحبة وأخوة ، وأُلْفٍ وتناصح ، فلا مجال فيها إلى مؤامرات آثمة ، أو تخطيطات مؤذية ، ولا أن تُتَّخذ منابرها باباً لإشاعة الفوضى ، وتفكيك أواصر المجتمع ، وتقطيع علاقة المحبة بين المؤمنين ، فإن هذا من أعظم الإثم وأشنعه ، وهذا العمل فيه شبه بعمل المنافقين ، الذين اتخذوا مسجداً ضِراراً لهذه الأغراض . فلقد بنا المنافقون مسجداً مجاور لمسجد قباء ، وهو مسجد الضرار إضراراً بالمسلمين ، وتفريقاً بينهم ، وقصدوا من خلاله مباهاة أهل الإسلام ، وتقوية أهل النفاق ، وإرصادا ودعما وضيافة لمن حارب الله ورسوله . وقصة بناء هذا المسجد هي :-

أنه كان بالمدينة قبل مَقدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له : " أبو عامر الراهب "، وكان قد تَنَصَّر في الجاهلية ، وكان ذا مكانة في قومه ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وبنا مسجد قباء أول مسجد أسس على التقوى ، ورأى هذا المنافق تجمع المسلمين فيه ، وظهور أمرهم ، أعلن عداءه للرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه ، وأخذ يؤلب عليه من استطاع صده عن الإسلام من قومه . غير أن هذا المنافق لم يظفر بما يريده داخل المدينة .  

فخرج منها إلى مكة محرضاً المشركين فيها على محاربة المسلمين ، بعد أن شرقت نفسه بانتصار المسلمين في غزوة بدر الكبرى ، وكان قد حلف ليحاربن محمداً مع كل من يحاربه ، وقال لمشركي مكة : إن لي أنصاراً في يثرب ، إذا رأوني لم يختلف عليَّ منهم رجلان . فخرج مع المشركين في غزوة أحد ، وكان في أول جيشهم ، ليستحث قومه الذين في صفوف المسلمين على طاعته وخذلان الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه رضي الله عنهم ، لكنهم لم يستجيبوا له بعد أن شرَّفهم الله بالإسلام ، وذاقوا حلاوة الإيمان ، فرجع إلى مكة مع المشركين ممتلئاً غيظاً وحقداً على المسلمين الذين فرقوا بينه وبين قومه ، بزعمه . ولقد استمر هذا المنافق " أبو عامر الراهبُ " الذي كان يسميه النبي صلى الله عليه وسلم " أبو عامر الفاسق " يدبر الخطط ، ويحيك المؤامرات ضد المسلمين ، حتى فتح الله مكة على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح الطائف ، فانضم هذا المنافق إلى قبائل هوازن وثقيف ، ومن معهم يقاتل المسلمين ، ولكن الله عز وجل نصر المسلمين في حنين ، فيئس " أبو عامر الراهب " من الاعتماد على قوات الشرك داخل الجزيرة ، وقلبه يغلي كراهية وبغضاً للإسلام والمسلمين . ونكمل القصة في الخطبة الثانية .. أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه ، إنه هو الغفور الرحيم .

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله عظيم الإحسان ، واسع الفضل والجود والامتنان ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ وحده لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اَللَّهِ وَرَسُولُهُ ، صَلَّى اَللَّهُ وسَلّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنَ اِتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ اَلدِّينِ . أمَّا بَعد :-

فلقد قرر هذا المنافق " أبو عامر الراهب " أن يستعين على المسلمين بهرقل الروم في الشام ، فهرب إليه ، واتفق معه على أن يرسل معه جنداً لحرب محمد وأصحابه ، ولتكون حملة شرسة خاطفة لا يتنبه لها أحد ، فأخذ يُراسل أصحابه من المنافقين في المدينة سراً بما اتفق عليه مع قيصر الروم ، ويأمرهم بالاستعداد بكل ما استطاعوا من قوة وسلاح ، وأن يبنوا قاعدة سرية في ضاحية المدينة ، لا يشعر المسلمون لما يراد منها ، تمثلت هذه القاعدة في مسجد يبنيه المنافقون ، ويجتمعون فيه ، متخذين لإقامته المبررات الكافية أمام الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يأذن لهم بإقامته . فاجتمع اثنا عشر منافقاً ، وقرروا إقامة مسجدهم هذا قريباً من مسجد قباء ، وقد تم بناؤه بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجهز للسفر إلى تبوك لغزو الروم . فلما فرغوا من بنائه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا له : يا رسول الله إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة ، والليلة الشاتية وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه ، فعصمه الله من الصلاة فيه ، فقال صلى الله عليه وسلم : " إني على جناح سفرٍ ، وحال شغل - أو كما قال صلى الله عليه وسلم - ولو قدمنا إن شاء الله لأتيناكم فصلينا لكم فيه " . وخرج المصطفى صلى الله عليه وسلم بالمسلمين إلى تبوك دون أن يصلي لهم في مسجدهم هذا ، وبينما هو عائد من تبوك ، راجعٌ إلى المدينة ، نزل عليه الوحي يخبره بمؤامرة المنافقين ، وحال المسجد الذي بنوه في المدينة ، وينهاه عن الصلاة فيه ، قائلاً سبحانه وتعالى : ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ ۖ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ۚ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) ﴾ [التَّوْبَةِ:] . فلما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أصحاب مسجد الضرار ، فسألوه أن يأتي مسجدهم ، ويصلي لهم فيه ، فدعا نفراً من أصحابه ، وأمرهم أن ينطلقوا إلى ذلك المسجد فيهدموه ويحرقوه ، فانطلقوا حتى أتوه ، فهدموه وحرقوه ، وقيل أنه أصبح مرمى للنفايات .. في قصة مسجد الضرار فوائد وعبر منها :-

أن العمل وإن كان فاضلاً تغيــــره النية ، فينقلب منهيًّا عنه . فمسجد الضرار بني على نية فاسدة ، ومنها أن كل حالة يحصل بها التفريق بين المؤمنين ؛ فإنها من المعاصي التي يتعين تركها وازالتها ، فبدلا من أن يصلي في مسجد قباء صف أو صفان يصلي فيه نصف صف ، والباقون في المسجد الآخر . ومنها النهي عن الصلاة في اماكن المعصية ؛ والبعد عنها وعن قربها . ومنها أن المعصية ثؤثر في البقاع كما اثرت معصية المنافقين في مسجد الضرار ؛ ونهي عن القيام فيه . فاتقوا الله عباد الله ، وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال : " إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما " اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان . اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين . اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم وفق إمامنا وولي عهده لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم ، اللهم أصلح لهم بطانتهم ، واحفظهم بحفظك يا ذا الجلال والإكرام . اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قولٍ وعمل ، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ، اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن ، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين . اللهم أمّن حدودنا واحفظ جنودنا . اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين . { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } . وأقم الصلاة .

 

( خطبة الجمعة 2/5/1447هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل                          للتواصل جوال و واتساب /  0504750883  ) .

 

المرفقات

1761075199_المسجد الذي أمر رسول الله بإحراقه وهدمه.docx

المشاهدات 99 | التعليقات 0